لنا عبد الرحمن: يعجبني الكتّاب الذين يتحدثون بفخر عن نصوصهم

 

 

لنا عبد الرحمن كاتبة لبنانية تعيش في مصر، يميزّ كتاباتها ذلك القلق العميق الوجودي بشكل أساسي ونراه في نصوصها وقصصها القصيرة، كما في الرواية التي اتجهت لها مؤخراً، وقد استوى نضجها وبانت حرفتها أكثر في جديدها «تلامس» الصادرة حديثاً عن منشورات «الاختلاف» وفيها ترسم لنا عبد الرحمن اضطراب بطلة شخصية روايتها كانعكاس لجنون كامل ألّم بمدينتها بيروت، بوطنها وناسه. للكاتبة «شاطئ آخر» مقالات، و«أوهام شرقية» و«الموتى لا يكذبون» مجموعات قصصية، و«حدائق السراب» رواية. مع الكاتبة كان هذا الحوار:

 

÷ تستهلين الرواية بمونولوج داخلي للبطلة يدور حول خوفها من جنون متوارث في العائلة، وتدور الرواية من خلال رؤية البطلة «ندى» للأحداث كلها ـ فإلى أي مدى يوجد اتصال بينك وبين البطلة؟ وماذا أردت قوله من خلالها؟

} صوت ندى كان واضحا بالنسبة لي منذ بداية الرواية، قلقها اضطرابها الداخلي، خوفها المبثوث عبر الصفحات، كل ذلك كان كما لو أنني أراه كمراقب خارجي للحدث، لكن ثمة لحظات أوقعتني تلك الشخصية في حالة من الشد والجذب، كنت أنتظر منها فعلا أكثر ايجابية، لم تتمكن من القيام به، وكان من العبث دفعها إليه دفعا لذا جاءت الأحداث بهذا الشكل فيها كثير من الإخفاقات التي تبدو كما لو أنها تحاك بشكل قدري مرسوم مسبقا. هناك كم من التخبط والاهتزاز يرسم ملامح «ندى» النفسية، لم أحب ذلك، كنت أريد بطلة أكثر ايجابية وقوة، لكن في النتيجة كنت مدفوعة دفعا للكتابة عنها كما هي لا كما أريد أنا. عبر شخصية «ندى» ومن خلال عمرها ومرحلتها الزمنية أردت الحديث عن جيل شاب لم يعش الحرب من قبل لكنه يعيش اضطرابا داخليا وعدم ثبات، وعدم إيمان بأي شيء، جيل تكون وعيه على تحول مفاهيم كبرى، واضطراب أيديولوجيات وتحول رؤى اجتماعية ودينية، وأيضا سمع حكايا الحروب وويلاتها، ووسط كل ذلك يخلق دوائره الخاصة وعوالمه المحكومة بتقنيات عصرية صار لا غنى عنها، «ندى» مثلا تمضي شطرا كبيرا من يومها على الإنترنت من دون هدف محدد، تقوم بأشياء كثيرة لكن في النتيجة تظل أشياء غير موجهة بشكل تراكمي نحو مسعى محدد، وهذا لا يتعلق بها فقط بل بسائر الأبطال، هناك أيضا «هند» التي تسعى لمعرفة ذاتها عبر خوضها في عالم الماورائيات، وهاديا التي تتخبط بين الفقر والرغبة في الفرار عبر الحلم بالزواج من رجل ثري، ما أردت قوله إن هناك نوعا من التشتت اللاواعي في ذهن الجيل الشاب يجعله يبعثر طاقاته في اتجاهات مختلفة تتلاشى قبل أن تكون خطا واضحا.

 

÷ لكن هناك تلامسا أو تماسا ما بين الكاتب وأبطاله، فما هي نقاط التماس مع بطلتك؟

} تفصلني أشياء كثيرة عن «ندى»، لكن بصراحة يجمعني معها أمرين، حب السينما، والخوف من الجنون. بالنسبة لي أتخيل أن الكاتب يعيش بقدم في الواقع والثانية في اللاواقع، حيث كل العوالم الغرائبية الأخرى، وينبغي عليه المحافظة على رسوخ كلتا القدمين في عالميهما، فلا تجرف إحداهما الأخرى، حينها ستكون الخسارة سواء كانت خسارة الواقع على حساب المتخيل، أو خسارة المتخيل لصالح الواقع، لكن أحيانا يكون من الصعب القيام بالتوازن للحفاظ على العالمين، فيحدث انزلاق ما نحو أحدهما، بالنسبة لي أخاف دائما أن تزل قدمي الراسخة في الواقع في انحياز نحو الضفة الأخرى (الجنون).

 

÷ لكن الكتابة عن جنون العمة، ثم وجود نبوءات أخرى لجنون متوقع، كل ذلك على خلفية تذكر حروب بيروت والاجتياح الإسرائيلي، وكما لو أن المقصود في الرواية أن بيروت ساحة كبرى للجنون، ما رأيك؟

} أظن أن هذا حقيقي إلى حد كبير، رغم أنني لم أقصده بشكل مباشر، لقد تنبهت له خلال إجابتي على هذا الحوار، لكن على مستوى علاقة «ندى» مع مدينة بيروت، فهي علاقة مبتسرة، محصورة ضمن منطقة سكنها والمناطق القريبة فقط، هي لم تعرف وجوها أخرى للمدينة سوى عند عتبات المراهقة، قبل ذلك كانت بيروت بالنسبة لها محصورة (بالضاحية الجنوبية) حيث تسكن. وهذا أيضا موجود عند كثير من الناس، إذ على الرغم من صغر مساحة مدينة بيروت، إلا أن الناس فيها يعيشون في جزر معزولة عن بعضهم البعض، كل منهم يتحرك على أرض جزيرته، وحدث هذا طبعا نتيجة الحروب وأشياء أخرى لكنه ما زال مستمرا، ومع الأسف الشديد تتكرر الأحداث السلبية لتكرس لهذا الأمر.

 

العامية اللبنانية

÷ إذاً إلى أي مدى جاءت سائر الشخصيات مرتبطة بالواقع؟

} اعتمد أحيانا في الوصف الخارجي للشخصية على الواقع، فآخذ الإطار العام فقط، ثم أقوم بوضع مخطط نفسي يتناسب مع الشخصية الموجودة في داخلي، ما أعنيه بالإطار العام هو الحياة التي تمارسها الشخصية على مستوى اختياراتها البسيطة، مثل الأماكن، اللبس، الألوان، نوع السجائر، الطعام، لكن هذا لا ينطبق على ردود الفعل، السلوك، الحوار، ما أعنيه أنني أكون أكثر حرية في الكتابة عن الجانب النفسي للأبطال منه عن الوصف الخارجي والتفاصيل الواقعية تماماً، كما أن الرواية الحديثة تمنح مساحة أوسع للتجريب والاختيار بين عدة طرق في الكتابة خلال النص الواحد، إذ ليس هناك ما يقيدك سواء في الشكل أو المضمون.

 

÷ ألهذا السبب بات أكثر الكتاب يميلون لكتابة الرواية، أم لأنها نوع أدبي رائج هذه الأيام مقارنة بالشعر والقصة القصيرة؟

} لا أرى تراجعا للشعر، ربما للقصة القصيرة نعم، لكن بالنسبة للشعر لا، هناك أسماء شعرية مميزة لها حضور مستمر في ذهن القارئ، وهناك أسماء جديدة تظهر في الشعر باستمرار، لكن كتاب القصة غالبا يبدأون بالقصة كبدايات وقلما يستمرون في كتابة القصة، أما بالنسبة لميل الكتاب للرواية فلا أستطيع الإجابة بشكل عام، لكن من وجهة نظري أن ظهور هذا الكم من الروايات خاصة في الأعوام الأخيرة أمر إيجابي يثري الأدب العربي من حيث التنوع، ومع مرور الزمن من المؤكد أن الكتابات الجيدة هي التي ستبقى، إذ ليس من المشترط أن الروايات التي تحقق الآن أعلى مبيعات ستكون كذلك بعد أعوام. جودة النص لا تثبت إلا من خلال اختبار الزمن.

 

÷ بمناسبة ذكر الرواية، لاحظت أنك كتبت الحوار بالعامية اللبنانية، بخلاف روايتك الأولى «حدائق السراب»، وقصصك، لم؟

} فعلا إنها المرة الأولى التي استخدم العامية اللبنانية في الحوار بهذا القدر، لم أكن أجرؤ على ذلك من قبل، بعض الأصدقاء الذين قرأوا الرواية قبل نشرها، نبهوني لهذا الأمر، لكن كان من الصعب علي أن أجعلهم ينطقون بغير ذلك، فهذا ما أحسست أنه متوافق مع إحساسي بهذه الشخصيات وتعاطفي معها. كانت الشخصيات ستفقد قدرا كبيرا من حضورها وصدقها لو نطقت باللغة الفصحى.

 

÷ لكن ألا تخشين أن يعتبر هذا الأمر نقطة ضعف في الرواية؟

} لا أبدا لأن هذا الأمر تحتمه الضرورة ويتطلبه التوافق مع النفس والأمانة تجاه شخصياتي، فجاء الحوار متماشيا مع جوهر النص. لكن في روايتي الأولى لم استخدم اللغة العامية لأن الضرورة لم تكن ملحة كما أنها لم تكن تناسب طبيعة الشخصيات التي جاءت من بلدان مختلفة علاوة على اختلاف مستواها الثقافي، فلم تكن تناسب طريقة السرد.

 

÷ بين صدور الرواية الأولى «حدائق السراب» وصدور «تلامس» الآن مر عامان كما أظن، من وجهة نظرك ما هي التحولات التي طرأت على طريقتك في الكتابة؟

} «حدائق السراب» لم تمنحني فرحة الرواية الأولى كما ينبغي أن يحدث، لقد صدرت قبل حرب تموز بوقت قليل، وتزامن وقوع الحرب مع وجودي في بيروت أيضا، لقد مر وقت عصيب جعلني أنفصل عنها واقعيا ونفسيا، ثم بعد انتهاء الأزمة، وجدت أنني تعاملت مع الرواية بقسوة غير مقصودة، وظل الأمر بهذا الشكل حتى كنت في باريس والتقيت مع الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، أهديته الرواية، وبعد وقت كتب لي عن إعجابه بالنص، أذكر عبارته حين وصف النص الأدبي بأنه عمل نطلقه ليأخذ مساره في فضاء هذا الكون ومن حينها يصير متحررا منا، ومن إرادتنا نحوه. في «تلامس» كنت أكثر وعياُ بمفهوم الكتابة ككل، وربما أكثر تمكنا من استخدام أدوات السرد، أكثر ما يخيفني هو أن يحس القارئ بملل من النص، لذا حرصت أن يكون النص مكثفا وقصيرا.

 

÷ هل تخافين من قارئك، بمعنى إلى أي حد تفكرين به خلال لحظات الكتابة؟

} ربما أفكر به أكثر لحظة قراءتي للنص بعد الانتهاء منه، غالبا لا أكون راضية عن نصوصي، ولو أنني لا أبعدها عن يدي لكنت ترددت ومزقتها، أحس بإعجاب شديد نحو الكتاب الذين يتحدثون عن نصوصهم بفخر واعتزاز حتى لو كان نصاً عادياً، أشاهد فيهم أمومة (نحو نصوصهم) حتى لو كان المتحدث رجلا، أنا لست كذلك، لذا غالبا ما أمر بمراحل طويلة من القلق والخوف من أن كل ما أفعله ليس له قيمة.

 

السينما

÷ لاحظت في «تلامس» وجود ميل للجمل القصيرة المكثفة، وهناك أيضا رصد متعمد لعالم الأحلام والكوابيس، وأثرها على الواقع لم؟

} بشكل عام أميل للجمل القصيرة، لكنني سابقا كنت أمارس ذلك من دون تنبه، خلال كتابة «تلامس» حاولت أن أكون أكثر تنبها في صياغة جمل سلسة واختيار مفردات بسيطة. أما بالنسبة للحديث عن عالم الأحلام والكوابيس فهذا يرجع أيضا لإحساسي أننا نعيش في الحلم أيضا، وأن حلما ما أو كابوسا من الممكن أن يؤثر سلبا أو إيجابا على أحداث يومنا الواقعية، أستغرب جدا من الأشخاص الذين لا يحلمون، أحس أن شطرا من حياتهم معطل.

 

÷ تحدثت عن حبك للسينما، ولاحظت في «تلامس» وجود مشاهد بصرية كثيرة، كما لو أنها ستتحول إلى فيلم، يتضافر مع ذلك حجم الرواية الأقرب إلى «النوفيلا» هل كان ذلك مقصودا؟

} جزء كبير من المشاهد البصرية جاءت نتيجة اهتمام «ندى» بالسينما، من علاقتها بالأفلام التي تحكي عنها، وعن أثرها في تلقيها، وأيضا من وجود التلفزيون، وشاشة الكمبيوتر التي تعرض الأفلام. هناك حضور قوي للفن البصري (للصورة) في حياتنا لا يمكن تجاهله، وهذا من الطبيعي أن ينعكس على الكتابة بشكل أو بآخر. منذ مدة كنت أقرأ رواية «سبوتنيك الحبيبة» للكاتب الياباني هاروكي موراكامي، الرواية بالنسبة لي حتى الثلث الأخير بدت متحركة أمامي كما لو أنني أبصر مشاهدها، أبطالها، أماكنها، ثم في ما بعد ينقلب كل شيء ويتحول الحدث إلى جانب نفسي لاهث من الصعب رصده، أحب هذا النوع من الكتابة المتراوحة بين عوالم عدة، حين يُخيل إليك أن كل شيء واقعي ينقلب تماما في اتجاه آخر غير متوقع. بالنسبة لرواية «تلامس» لم أتعمد أن تكون مشاهدها بصرية إلى هذا الحد، لكن إن حصل وتحولت إلى فيلم في يوم ما حتما سيسعدني هذا الأمر.

عناية جابر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى