الروائية لنا عبدالرحمن: على الكاتب ألّا يفكّر في المتلقي عند إنجاز نصّه الأدبي
«إذا كان في الحياة سحر.. إذا كان في الحياة سر.. فإن الكتابة هي السحر وهي السر الذي يتكشف رويدا رويدا عبر حبال من كلمات»، بهذه الكلمات تصف القاصة والروائية الدكتورة لنا عبدالرحمن تجربتها مع الكتابة، ذلك العالم الذي ولجته من باب القصة القصيرة أولا قبل مضيّها قُدُما باتجاه الرواية، لتمرر من خلاله نظرتها للعالم، وتتحدث عن حالات تعاني القمع بأشكاله المختلفة؛ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
أصدرت عبدالرحمن في القصة: «أوهام شرقية» و«الموتى لا يكذبون» عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة، ولها في الرواية: «حدائق السراب»، و«تلامس»، و«أغنية لمارغريت» وجميعها صدرت عن الدار العربية للعلوم في بيروت، و«ثلج القاهرة» عن دار آفاق، وصدرت روايتها الأخيرة «قيد الدرس» عن دار الآداب في بيروت.
ولأن عبدالرحمن بدأت قاصة ثم انتقلت لكتابة الرواية، فإن السؤال الأول الذي طرحته عليها «وكالة الأنباء العمانية» يدور حول ما إذا كانت كتابة القصة القصيرة نوعا من التدريب على كتابة الرواية، فكان ردّها: «القصة القصيرة تمرين جيد للكاتب على ضبط إيقاع العمل، واختيار الجمل اللماحة والقصيرة، لكن بعد مدة من التمرس بالكتابة يكتشف الكاتب إيقاعه الداخلي إن كان يتماهى مع النفَس القصير، أو يحتاج لمساحات أطول في السرد، فمسألة الإيقاع الداخلي مهمة جدا، لأنها تساعد الكاتب على فهم ذاته الإبداعية أكثر»
ونظرا لانتماء لنا عبدالرحمن إلى الجيل الذي تفتّح وعيه على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فإن لهذه التجربة تأثيرها في نفسها وفي كتاباتها، وهي توضح هذا التأثير بقولها: «ذاكرة الحرب من الصعب التحرر منها بالنسبة لأيّ إنسان، بل ولأيّ كاتب عايش لحظاتها، لأنها تطلّ برأسها المفزع الذي نحاول التخلص منه عبر الكتابة»، وتضيف: «من هنا ربما يكون الكاتب محظوظا في تلقّيه هبة الكتابة التي تساعده على التحرر من ذاكرته المثقلة بالألم، لكن في النتيجة تظل فكرة النص الجوهرية والأساسية هي التي تحدد ما سيتم تناوله»
ناقشت الدكتورة لنا في روايتها «أغنية لمارغريت» أحداث حرب تموز 2006 التي شنّتها «إسرائيل» على لبنان، ويدور السرد بالتوازي مع حياة الروائية الفرنسية الشهيرة مارجريت دوراس خلال سنواتها الأخيرة. وحول اختيارها «دوراس» تحديدا تقول عبدالرحمن: «عانت دوراس من هاجس الزمن، ومن هاجس الجسد من زاوية تلاشيه اليومي، نحن نتقدم بالسن في كل يوم خطوة نحو مصيرنا الأخير، لكن دوراس كانت تقاوم كل هذه التساؤلات في الكتابة والفرار إلى عالمها الداخلي، لذا اختارت العزلة عن باريس وتفرغت لكتابتها». وتتابع بقولها: «كل هذه التساؤلات تنشغل بها (زينب) بطلة الرواية، أو بعبارة أدق، تلتحم زينب مع التساؤلات الفلسفية لتتناسى هاجس الحرب الدائرة في الواقع، لذا تكتب رسائل مفترضة إلى حبيب مارجريت دوراس، تدير حوارا معه، وفي الوقت نفسه تراقب الحياة الحقيقية التي تدور من حولها».
وتؤكد الدكتورة لنا أنها تتقاطع مع مارجريت دوراس في الفلسفة والحياة، مستذكرة ما قالته تلك الكاتبة في آخر حوار أجري معها: «هناك الكتابة، ثم الحياة بفواجعها ومظالمها، ولا يمكن أن نجمع بين الاثنين إلّا عندما نجعل من الحياة ومن كوارثها مادة للكتابة»
وهي ترى في هذا السياق أن كوارث الحياة وفواجعها تحضر عبر الكتابة ليس بشكل محض اختياري، وإنما في «لعبة قدرية لتبادل أدوار»، بحيث تبدو الحياة ساخرة جدا وقاسية، وتبدو الكتابة أكثر رحمة وألفة، في مقابل لحظات أخرى «يحلّ فيها الواقع بكل ثقله، لتهجرنا الكتابة رغم كل المحاولات لاستدعائها»
وتناقش لنا عبدالرحمن مسألة البحث عن الهوية بعمق فلسفي، بخاصة في روايتها «قيد الدرس»، إذ حضرت فكرة الانتماء بشكل أكثر وضوحا، ليس الانتماء للمكان فقط، بل مراجعة الوعي في علاقته بالهوية. وهي تقرّ بأن الهويات «تكون قاتلة أحيانا، ومنجية في أحيان أخرى تبعا لرؤيتنا لها». وتوضح في هذا السياق أن السؤال المؤرق في داخلنا يظل يدور عن حقيقة انتمائنا؛ إلى أيّ مدى نرتبط بالبلد الذي وُلدنا به وحملنا هويته؟ إلى أيّ حد يحقق لنا هذا الانتماء تصالحا ورضا عن علاقتنا، سواء مع الزمان أو المكان الذي ننتمي إليه، أو في علاقتنا مع «الأنا»؟ لذا تبدو قضية «قيد الدرس» هي البشر الذين لا يحملون هوية.. فكرة الشتات الداخلي الذي يبدو أنه يهدد العالم ككل في الوقت الراهن.
وحول آلية إنجاز الرواية، تقول الدكتورة لنا: إنها تضع مخططاً مسبقاً، لكنه ليس مخططاً بالشكل الكامل، فالمكان والأبطال والحدث الرئيسي تكون واضحة بالنسبة لها في مرحلة ما قبل الكتابة، إذ تدون العديد من الملاحظات على دفاتر صغيرة تعود إليها حين تبدأ بالكتابة فتسترشد بها. وهذه الملاحظات تتضمن «تفاصيل وأسماء، وألوانا، وديكورات، وأمراضا، وأشياء كثيرة تمثل رموزا ومفاتيح للنص» الذي تكتبه.
وينطلق اعتناء د.لنا بالمكان ومنحه «دور البطولة» في بعض أعمالها، من فهمها للمكان بوصفه من العناصر المهمة في بناء الرواية، إنه «المسرح الذي يتحرك عليه الأبطال ويتفاعلون معه، يتأثرون به، ويؤثر بهم». ولهذا، فإنها على المستويين الذاتي والإبداعي تهتم كثيرا بتفاصيل الأمكنة، والمدن، والشوارع، والأحياء، والقرى، وكل ما له علاقة بالمكان، وتحاول بذل جهد لاكتشاف المكان، والتعرف إليه عن كثب؛ لأن «المكان هو التاريخ» بالنتيجة.
وحول الفرق بين الكتابة والصورة، ترى الدكتورة لنا أن الصورة تنقل المشهد خارجيا، مع تفاصيل نفسية قليلة تتضح من الصورة نفسها، بينما الرواية تنقل أبعادا نفسية أعمق مما تفعله الصورة، وهذه هي الميزة الأساسية للرواية: «القدرة على تصوير العالم الداخلي للإنسان، تناقضاته وصراعه، تشوشه واضطرابه»، فالكاميرا يمكنها فعل هذا بشكل موجز وبمساعدة تفاصيل أخرى مثل الحوار (الكلمة)، أما النص المكتوب فينجح عبر الكلمة فقط في تقديم مشهد كامل للحياة.
ولا تتردد د.لنا في كشف موقفها من تعبير «الأدب النسوي»، قائلة: «لا أعرف ما المقصود بالنمطية النسوية، أو بالسجال المستمر عن الكتابة النسوية. أنا أكتب ما يسبب لي هاجسا داخليا للكتابة عنه. ففي روايتي (تلامس) حضر هاجس الجنون الذي تخافه البطلة، وفي (أغنية لمارجريت) هناك تداخل بين الزمن والجسد والحب من باب السؤال الوجودي الكبير عن الموت، وفي (ثلج القاهرة) تناولت فكرة الحيوات السابقة.. بطلاتي كن نساء، لكن هواجسهن عامة ومن الممكن أن تطال أي إنسان، سواء امرأة أو رجلاً»..
وبشأن القارئ وحضوره في ذهن الروائي عندما يكتب، ترى د.لنا أنه ليس من الصواب أن يفكر الكاتب بالمتلقي عند الكتابة، فهذا «مشوِّش» بالنسبة له. وتضيف: «ثم من هو هذا المتلقي المجهول؟ نحن نعيش في عالم عربي واسع، وفي زمن تكنولوجي بامتياز.. لذا يبدو التفكير بالقارئ أمرا عبثيا في كثير من الأحيان».
وتنظر عبدالرحمن إلى إشرافها على عدد من حلقات الكتابة الإبداعية في الرواية على أنها تجربة مهمة بالنسبة لها، وتقول فيها: «هي تجربة ممتعة جدا من جانب اكتشاف مواهب جديدة ومتخوفة من فعل الكتابة، ومع مرور الوقت وتجاوز الحاجز الوهمي للخوف من الكلمات تبدأ النصوص بالتشكل، ويبدأ العصف الذهني بين المشاركين»، وهي مع ذلك تعيد التأكيد: «الحلقة وحدها لا تصنع كاتبا، لكنها تساعد الكاتب الذي لديه شغف بالكتابة على اكتشاف طريقه».
وكالة الأنباء العمانية