لنا عبد الرحمن: لا أري تعارضًا بين العمل الإبداعي والمهنية الصحفية

 

 

أكدت الكاتبة لنا عبد الرحمن أنه توجد مسافة كبيرة بينها وبين بطلات رواياتها على مستوى الشكل أو المضمون وقالت “في كل نص يضع الكاتب شيئا منه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر”..

وأضافت إن عملها في الصجافة .. كما العمل في أي مهنة أخرى بالنسبة للكاتب؛ عملي في الصحافة ظل مقتصرا على الجانب الثقافي فقط، وهذا لا أراه بعيدا عن عالم الابداع، ولا أتحرك في مدارات مغايرة تمتص طاقتي، كما أرى في العمل الصحفي كثيرًا من المتعة، لأنه متجدد وليس فيه أي روتين بخلاف مهن أخرى يتكرر فيها العمل ذاته”.. وإلى نص الحوار :

 

– يبدو أن الذكريات المؤلمة المتعلقة بالحرب فى لبنان قد حفرت فى ذاكرتك وأثّرت على كتاباتك.. فإلى أى مدى أُثّرت الحرب عليكِ وعلى أعمالك؟

أنتمي للجيل الذي وعى في طفولته على نتائج الحروب السابقة، التي استمرت حتى أوائل التسعينيات، أي أن الحرب بشكل غير واعٍ شكلت جزءًا من ذاكرتي، وهذا ليس اختيارا أكثر مما هو قدر. في النتيجة نحن نكتب من ذواتنا، وليس من الممكن الكتابة عن “عالم وردي” وجميل في الوقت الذي يكون فيه الواقع خرابا؛ لذا تجدين أن الحرب تشكل خلفية لمعظم نصوصي حتى إن لم يتم التطرق اليها بشكل مباشر، هذا ما يبدو في مجموعتي القصصية “الموتى لا يكذبون”، وفي روايتي السابقة “تلامس”. لكن في رواية “أغنية لمارغريت” كنت أكثر اقترابا من حرب 2006 وعملت على الكتابة عن الحياة حين تصير ركاما بفعل الحرب، عن الطفولة العمياء، وعن الموت الذي يصير حدثا عاديا لا يستوقف أحدا.

 

– في روايتك “أغنية لمارغريت” ، تناولت فيها شخصية الكاتبة الفرنسية “مارغريت دوراس”، لتحكي عنها عبر بطلة معاصرة تعيش واقع الحرب، لمَ “مارغريت دوراس” تحديدا؟

“أغنية لمارغريت”، رواية تجريبية، حيث التنقل في الحكي والوصف بين زمنين حاضر وماضٍ، زمن مضى يتناول حياة “مارغريت دوراس” في سنواتها الأخيرة، وزمن معاصر يحكي عن فتاة شابة تعيش أحداث حرب “تموز 2006″، وتكتب الرسائل لشخص بعيد تحكي له مشاهداتها للحرب وما تفعله في حياتها وحياة من حولها. ثم هناك صوت الراوي الخارجي الذي يكشف ما لا تقوله “زينب” في رسائلها، يكشف كل مخاوفها وهواجسها، واضطراباتها النفسية.

ويتضح لقارئ الرواية أن اختياري كان لزمن محدد، ولحالة معينة في حياة “مارغريت دوراس”، هي المرحلة الأخيرة من حياتها، في زمن العلاقة التي جمعتها مع “يان أندريا”، وهو كاتب شاب يصغرها بما يقارب الـ30 عاما، انتقل للحياة معها حين كانت في الـ65 من عمرها، وظل معها حتى وفاتها. لقد أثارتني تلك العلاقة للبحث فيما وراء الشكل الظاهر والمألوف للعلاقات العاطفية بين المرأة والرجل. فما الذي سيجمع شابًا في مقتبل العمر مع امرأة تجاوزت الستين تعيش عزلتها؟ وقلقها الوجودي المرعب؟ هذا ما حاولت البحث عنه خلال النص.

 

– وصف البعض “زينب” بطلة ” أغنية لمارغريت” فى علاقتها بحبيبها “مازن” بأنها علاقة رائقة، كان ينقصها فقط قليل من التحرر في كتابة مشاهد الحب.. فما رأيك فى ذلك؟

ربما هذه وجهة نظر، لكني خلال الكتابة تتبعت ما تفرضه حالة النص، فجاء على هذا الشكل غير محمل بتفاصيل حسية زائدة علي الحد.

 

– وما سبب اختيارك لتقنيتى الراوى العليم، والرسائل، فى كتابة تلك الرواية؟

“أغنية لمارغريت” كما قلت في البداية نص تجريبي على مستوى المضمون؛ كونه يقترب من حياة الكاتبة “مارغريت دوراس”، ويقدم مشاهد مفترضة في علاقتها مع “يان أندريا”، وفي الوقت ذاته هناك البطلة المعاصرة “زينب” التي تعيش أيام الحرب وتكتب يومياتها ورسائلها؛ انطلاقا من هنا كانت الحاجة لتعدد مستويات السرد؛ فالراوي العليم يكشف ما لا تقوله “زينب” عبر الرسائل، كما يحكي عن مارغريت”، ويصف يومياتها سواء مع “يان أندريا”، أو في عزلتها الخاصة، وتخيلاتها وهلوساتها.

 

مشاعر عزلة

– تكرر فى الرواية الحديث عن مشاعر العزلة والفقد والخوف والألم.. لمَ؟

كان اختيار الكتابة عن عالم “مارغريت دوراس” في سنواتها الأخيرة، هو محاولة لتفكيك فعل العزلة، والدخول بعمق إلى من يختار فعل العزلة، وهل يكون اختاره فعلا أم فُرض عليه؟.. ومن هنا تقول “مارغريت” عن نفسها خلال الرواية إنها مع أبطال نصوصها لا تكون معزولة، وأن الكتابة في النتيجة فعل حياة، وديمومة استمرار، لكن الحياة تحمل في ثناياها مشاعر الفقد والعزلة والخوف، أليس كذلك؟ لأننا في النتيجة معزولون داخل كياننا الخاص، وعوالمنا الداخلية التي يستحيل على أي أحد مهما كان قريبا منا أن يتمكن من دخولها.

 

– ولماذا تعمدتى إثارة تساؤلات فلسفية عن حقيقة وماهية الحياة والوجود والزمن أو عدميته فى الرواية؟

تلك التساؤلات، كانت تشغلني قبل وخلال كتابتي للنص، وكان من الطبيعي أن أطرحها عبر نص ابداعي، وهذا لا يعني أني تخلصت منها، لأن ثمة أسئلة تظل معلقة في الفراغ بلا إجابة. لكن على الأقل وصلت لحالة من التصالح معها، تقبلها كجزء حتمي من الحياة.

 

– إلى أى مدى تتشابه لنا عبد الرحمن مع “زينب” بطلة روايتها؟

حاولت في هذا النص إيجاد مسافة بيني وبين البطلة “زينب”، على مستوى الشكل أو المضمون. أي أنني اشتغلت على نموذج لشخصية بعيدة عني، لكن هذا لا يعني أني لم أحملها بعض التساؤلات التي تشغلني؛ ففي كل نص يضع الكاتب شيئا منه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد يكون هذا الشيء اختيارك لمكان تحبه، أو لنوع الموسيقى، أو القهوة التي يفضلها بطل النص.

 

– قارئ “أغنية لمارغريت” يجد نفسه أمام واقعين؛ أحدهما: ساخن دامع مرعب وصادم، والثاني: حالم مغر مدهش وآسر.. فكيف جمعتى بين عالم “زينب” وعالم “مارغريت” المتناقضين؟

لم يكن العالم الواقعي في “أغنية لمارغريت” حالمًا على الإطلاق، لأن البطلة “زينب” تحكي عن الحرب، وتصف وقائع يومياتها خلال الحرب، هي تبحث عن خلاصها عبر الكتابة؛ فتكتب رسائل إلى شخص بعيد ومجهول، كما لو أنها تهرب من خوفها من اقتراب النهاية، دون أن تكون حصلت على اجابات لتساؤلاتها، وليس في هذا نوع من الحلم، أكثر من التمسك بزمن آخر يسمح بالبحث واكتشاف ذاتها عبر الكتابة والتأمل.

 

– فى روايتك “تلامس” تناولتى علاقات مبتورة واقتربتي من عوالم اللا معقول.. فكيف تمكنتِ من إقناع القارئ؟

طرحت في “تلامس” علاقات مبتورة، مشوهة بفعل الحرب التي أدت لكثير من العلل النفسية.. فالبطلة ” ندى” تخاف أن يكون مصيرها مثل مصير عمتها “مجنونة” و”نزيلة” في مصحة للأمراض العقلية، هذا الهاجس يسيطر عليها على مدار النص، مما يجعلها تنزلق أحيانا لنوع من التخيلات والأوهام، كونها تعيش وحيدة. وجاءت هذه المخاوف والتخيلات ضمن النسيج المتكامل للعمل، ربما لهذا السبب تقبلها القراء كأمر من الممكن حدوثه في حالات تشبه حالة ندى، أي أن الجنون، هو نتيجة منطقية جدا لتسلسل الأحداث، أو كما يقول شكسبير في مسرحية هاملت: “إذا كان هذا جنونا فإن بداخله منهجا”.

 

– فى كتابك “شاطيء آخر”، لماذا ركزتى فى معالجتك على الروايات التي تحكي عن القمع والاستلاب والهزائم النفسية والسياسية؟

كتاب “شاطئ آخر” هو أول تجربة نقدية لي في الكتابة، كنت حينها أدرس في السنة الأولى من الدراسات العليا، وكنت منهمكة في قراءة كثير من الروايات، لكن بعد مرور الوقت لاحظت أن هناك خيطًا رفيعًا تشترك فيه هذه النصوص، وهو فكرة الاستلاب والهزائم النفسية والسياسية، سواء بالنسبة للكتاب أو الكاتبات؛ فالكتاب يتحدثون عن قمع السلطة، والكاتبات عن قمع النظام الأبوي، وكما لو أن هناك تدويرًا للقمع، وهذا ما وضحته في مقدمتي للكتاب.

 

إيقاع داخلي

– وأيهما أحب إلى قلبك: الروائية أم الناقدة؟

بالنسبة لي أنصت لإيقاعي الداخلي أكثر، وهو يدلني لزمن كتابة الإبداع أو النقد، أو مقالة صحفية، لا يمكن مثلا استحضار الكتابة الابداعية في كل الأوقات.. فأنا مثلا قلما أكتب في أشهر الصيف؛ لذا تكون هذه المساحة الزمنية مخصصة أكثر للقراءة وللكتابة النقدية.

 

– ولماذا أنتِ مهمومة بفكرة تحولات الجسد في مجرى الزمن؟

لأن السيرورة الحتمية للحياة هي في تحولات الجسد، وهنا من الممكن أن نوسع مفهوم الجسد ليكون جسد العالم ككل؛ لأن كل ما حولنا عرضة للتحول، ربما لا نلحظ هذا يوميا من كثرة قربنا من الصورة، لكن هذا لا يعني أن التحول لا يحصل، بل الأمر الأكيد أننا نتحول بشكل بطيء وحتمي.. وأنا مشغولة بفكرة “الجسد” على مستوى تحولاته الكثيرة. نحن اليوم نعيش في ثقافة تقدس الصورة، وتمنح الأولوية للشكل على حساب المضمون، الشكل هنا يعني جسدا جميلا، فتيا، وشابا. لكن ماذا عن الأجساد التي لا تنطبق عليها معادلة العصر الحديث؟ لا يمكننا تجاهل حقيقة أن جسدنا يسير نحو هرمه بشكل طبيعي وحتمي، وانطلاقا من تقبلنا هذه الحقيقة تصير رؤيتنا للعالم أكثر اتساعا من فكرة محدودية الجسد المادي.

 

– البعض يدعى أن العمل الصحفى من الممكن أن يؤثر بالسلب على الإبداع الادبى لصاحبه.. فما رأيك؟

هذا الكلام صحيح الى حد كبير، لكن في المقابل أي عمل سيؤثر سلبا على الابداع، لكن في العالم العربي لا يوجد من هو “كاتب” فقط، أي ليس هناك كاتب متفرغ لإبداعه، ويعيش من مردود كتبه. وبالتالي على الكاتب أن يعمل سواء في الصحافة، أو التدريس، أو أي مهنة أخرى؛ بالنسبة لي عملي في الصحافة ظل مقتصرا على الجانب الثقافي فقط، وهذا لا أراه بعيدا عن عالم الابداع، أي أني في النتيجة أتعامل مع نصوص روائية وقصصية، ولا أتحرك في مدارات مغايرة تمتص طاقتي، كما أني أرى في العمل الصحفي كثيرًا من المتعة، لأنه متجدد وليس فيه أي روتين بخلاف مهن أخرى يتكرر فيها العمل ذاته، ففي الصحافة هناك جديد دائما، وتحتاج مقاربته لنوع من الابداع.

آية ياسر 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى