من يشتري أوهامنا الشرقية ؟

 

 

يتناسل الوهم من رحم الحقيقة في قصص (لنا عبد الرحمن) وبخاصة في قصة (ثلاث ساعات قبل الرحيل) و(حب شرقي) لكن الولادة موجعة ولا تأتي بشيء، فقد خسر الإنسان عرش انسانيته ورمي بالبراءة في حاوية الفضلات.

لا أدري ما يعنيه الكاتب (أدغار آلن بو) بالنسبة لهذه المبدعة، لكنه يتسلل في قصصها كما العشب البري، يغوص في أوردة الحكايات وينمو علي أوراقها ــ أعني أفكارها ــ من دون حاجة إلي حرث أو مطر.

سأعترف بأن ما روته (لنا) قد أوجعني وأرغمني علي السؤال: تري هل تعلم الدنيا بما يعانيه البشر من هذه الرقعة من الأرض والتي يسمونها الوطن العربي؟

ذلك ان ما تكتبه عن الروح يكشف ما يعانيه الجسد من خسائر وحروب يومية وتركات ورثناها من سالف العصر والزمان نطوق بها أعناقنا حتي نوشك ان نموت خنقاً دون شفيع نستجير به.

قصص (لنا عبد الرحمن) هذا شأنها الأول والتالي: ان توقظ الدم ثانية في الجسد المصلوب الذي امتدت إليه المسامير، عساها، وربما ترجو (هي) ذلك، لو أنها تتمكن من رفع مسمار واحد عن أصابع قتلانا، لكنها تكتشف بعد كل قصة قصيرة تكتبها ان الوهم ما يزال أكبر منها وأنها لن تحصد في نهاية المطاف غير البقاء علي أطلال قصر كان شامخاً ذات يوم في تأريخ النقاء ونكران الذات والمروءة.

هذه القصص – أو بعضها – أربكتني حين أخبرتني بالمسافة الشاسعة الرهيبة بين ما كنا فيه وما أصبحنا عليه، وليس من قول تستحقه الكاتبة غير ان أكرر (شكراً لها فقد ساعدتنا علي ان نشعر بمتعة القراءة).

أنها تشتبك مع نفسها في صراع يشبه الحرب، تحاول أن تأخذ كل شيء من البطل الماثل فوق الأوراق، لكن الصراع – أو الحرب – يرفض ان يكون ثمة خاسر بين الطرفين (هي ونفسها في الوقت ذاته) لهذا تستعين بفكرة (ميلان كونديرا) حين يقول: لا يمكن للإنسان أبداً ان يدرك ماذا عليه ان يفعل لانه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة، كل شيء نعيشه دفعة واحدة.

والحياة كما تبدو في هذا الكتاب الصغير (73 صفحة) ليست اكثر من (مرايا مكسورة) والحقائق فيها مضحكة جداً، وكذلك أسماء البشر التي لا تلائم معناها، وهي بالتالي (لعبة دوائر وكل دائرة تفضي إلي دائرة أخري) ص38 والناس جسور نعبر عليها حتي نحقق رغباتنا أو نحقق عبرهم طموحاتنا مهما كانت الخسائر (خسائرهم طبعاً، دون ان ننتبه إلي أنها خسائر في الوقت نفسه ! (الكاتبة تفهم لعبة النفاق التي يمارسها الجميع (مع) الجميع، لكنها لا تلعب مع القصص لعبة الطبيب النفساني بل تترك غسيل البشر ــ أبطالها عموماً ــ علي حبال نراها عن قرب وقد نخجل مما نري أو نلعب اللعبة نفسها ونستمر (عراة) في متاهة المرايا المسكورة التي كشفت عري أجسادنا علي شظاياها المتناثرة ثم نقول همساً مع أنفسنا ونحن نخدعها أو نواسيها أو نضحك عليها:

–  يا لهذا الثوب الذي ما يزال أبيض لامعاً.

مع أننا حين نكون وحدنا ندري كيف تحول ذاك الأبيض اللامع الجميل إلي كفن (محض كفن) يمشي علي قدمين والغريب ان لا أحد يلتفت إليه ولا يخاف منه!

حتي مدرسة (العلم والفضيلة) صارت طعاماً للسمك المسعور – هل من سمك مسعور في بحر الحياة؟ – نعم ن ثمة سمك كبير مفترس، وسمك أكبر وأكثر افتراساً، لكن الحيتان هي التي تأخذ نصيبها الأوفر من أوهام الفضيلة بحجة العلم والتنوير، وذلك يعني ان العالم لم يعد صالحاً للسكني، فها هي المرأة المغلوب علي أمرها، زوجة الرجل السكير المدمن تضع نفسها وجسدها – وربما مبادئها القديمة – في خدمة مدير المدرسة، إذ ليس من حلّ آخر حتي تحافظ علي بيتها وبناتها، ذلك ان مدارس الفضيلة والعلم تحمل عناوينها للتمويه، أما الحقيقة التي تكمن وراء سياج المدرسة فهي حالة من حالات (الرقيق الأبيض) الذي يباع ويشتري في وضح النهار وربما علي مرأي من التلاميذ الصغار وهم ينهلون العلم والفضيلة من أفقر الناس علماً وأقلهم حرصاً علي الفضيلة، انه مسلسل طريف آخر من أوهامنا الشرقية، لكنه المسلسل الوحيد الذي لن ينتهي مهما طال زمان البث الأرضي!

هل الزواج (خدعة حتي تستمر البشرية)؟ كل شيء معقول ما دمنا نفكر فيه بلا رقابة ودون خوف، ثمة أعراف وقوانين حكمونا بها دون حق، ثم يأتي من يؤكد ضرورة التمسك بها دون اعتراض وبلا شكوك، وأري ان مهمة الكاتب المبدع هو ان (يفتت) الحجر وأختام القوانين القديمة ونقوش المسلات البالية ليكتب قانونه الذي يؤمن به، وفي قصة (حب شرقي) يتم التأكيد علي ان الزواج علاقة شبه مؤسساتية خادعة من اجل قيام أسرة وتربية أطفال وفرض قيود حتي لا يتحرك البشر خطوة أبعد مما هو (مسموح) به، ولكن علي الجانب الثاني من شاطئ الرقابة تقول بطلة القصة:

– داهمني إحساس بالفرار من عصر الحضارة والتكنولوجيا، من عصر الحروب والمجاعات، تمنيت لو أبقي في هذا الركن وان ينساني التأريخ. صفحة 55.

يبدو ان البراءات تمضي عن الأرض، تغادرها إلي غير رجعة، لكن البراءات برغم ذلك لم تزل في زاوية مجهولة من النفوس، هذا ما تكشفه قصة (تقمص) حيث تموت الطفلة رسمياً في البيت، لكنها هي نفسها تري كل شيء (أمي بدأت تنتحب، وجه أبي يغدو شاحباً وهو يمد يدي إليه يقيس نبضي، يضع رأسه علي صدري يصغي إلي دقات قلبي، غريب، أنا لا أسمع دقات قلبي) ص50.

قصص (لنا عبد الرحمن) تغوص في عالم المرأة، تكشف المستور من العادات والتقاليد والطقوس الحياتية اليومية، كشف دائب وعميق لا حدود تمنعه من الصراحة والجرأة واقتحام اللامألوف إلي أقصي ما تفعله المرأة حين تري في الكتابة مهنتها الأولي، وهي اسم يضاف بقوة إلي كاتباتنا العربيات المبدعات، مؤكدين علي الضوء الذي ينبثق من هذه القصص العشر التي تأتي بالأوهام الشرقية عنواناً ذكياً لجمهورية من الرحيل والهروب والتقمص والاغتصاب والخوف والخسائر والتنازلات، ولعل أكثر ما يوجع في زمانها ومكانها أنها خسائر بالجملة وليست بالمفرد، أعني خسائرنا في الزمان الذي نحن فيه، وأيضاً، علي المكان الذي ولدنا فوق تربته.

كم هو موجع ان تشعر علي حين غفلة: انك في الزمان الخطأ، وان المكان الذي أنت فيه لم يعد يتسع لشخص مثلك!!

وإذا ما ظننت العكس، فما عليك سوي الجلوس تحت خيمة أوهامك الشرقية حتي مغيب الشمس

عبد الستار ناصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى