أوهام شرقية.. قصص المسكوت عنه

 

 

 

“كم هو موجع أن تشعر علي حين غفلة أنك في الزمان الخطأ، وأن المكان الذي أنت فيه لم يعد يتسع لشخص مثلك.”

هذا الوجع والصراع اليومي الذي يحياه الإنسان بين الأنا والآخر، كان الوقود الذي أشعل مخيلة القاصة اللبنانية لنا عبد الرحمن في مجموعتها القصصية “أوهام شرقية” فغاصت في عالم المرأة، للكشف عن الحقيقة والوهم والتناقض الذي نحياه نحن أبناء الشرق، من خلال أثنتا عشرة قصة قصيرة تحاول أن تصرخ على لسان بطلاتها لنعرف بعضا من المستور والمسكوت عنه، ونملك الجرأة لاقتحام اللامألوف، ونحاول تفتيت الأحجار وأختام القوانين القديمة البالية لنكون ما نؤمن به.

وبالرغم من أن “أوهام شرقية” هو الكتاب الإبداعي الأول للكاتبة “لنا عبد الرحمن” فإن تمكنها الأسلوبي واللغوي ونضج رؤيتها للحياة لا يصدر إلا عن أديب متمرس بالكتابة، ولعل تجربتها كناقدة أدبية قد ساعدتها فلها كتاب “شاطئ آخر” مقالات في القصة العربية صدر عام 2002.

وإذ أطلقت الكتابة على مجموعتها اسما ليس لواحدة من قصصها، فهي تقترح باعتبار أن العنوان عتبة من عتبات النص- أن الأوهام هي المتسيدة على الأجواء.. عبر استبطان الذات والمونولوج علاوة على رؤية الذات للآخر الذي يعني أيضا الفرد والمجتمع والوطن وقضاياه.. وفي الحالتين تبرع الكاتبة وهي مزودة برؤية ثاقبة في تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصية والمجموع أيضا.

وإذا كانت بعض كاتبات جيلها يحلن ما يحدث في عالمهن الخارجي إلى الذات، فتصطبغ الأحداث الخارجية بالرؤية الذاتية لهن، فإن لنا عبد الرحمن واعية- خلافا لذلك- بما يحدث في عالمها الداخلي وتمزجه بأحداث الخارج، فتورد بنعومة وعفوية قضايا راهنة في لبنان وما حدث به على مدى السنوات العشر الماضية، وأصداء نزوح أعداد من اللبنانيين إلى الهجرة لأوروبا من جراء الحرب الأهلية ومواقف الشباب حاليا تجاه القضية الفلسطينية، فهي من هموم الوطن.

تخايل الأوهام الواضحة والمتعلقة بالذات/الآخر بعض القصص مثل “صورة مشروخة” و”حب شرقي” ويحسب للكتابة جرأتها ولياقتها اللغوية والأسلوبية العالية في تعرضها لأمور مسكوت عنها: العلاقة الثلاثية “الزوج، الزوجة، المعشوقة” في قصة “امرأتان” والتضحية بمبادئ الأخلاق على مضض من أجل لقمة العيش في قصة “امرأة فاضلة” وأيضا التضحية بالأخلاق من أجل الشهرة والمال والنفوذ في “مرايا مكسورة” وبالجرأة نفسها تطرق أبواب الميتافيزيقا حيث تتقمص الذات الكاتبة فتاة توفيت للتو، وهي الوحيدة التي لا تدرك أنها قد فارقت الدنيا في قصة “سفر”.. أما قصة “الهارب” فتأتي كأمثولة شعبية من الحكايات التي تؤنس المجالس للسمر والتفكر في أمور الحياة، حين لا يرى شخص أنه لا مخرج من المآزق التي يعانيها سوى الموت، فلما يجيئه ملك الموت يستحلفه أن يمهله حتى يكمل رسالة تربية أطفاله.

تهيمن على المجموعة القصصية روح الديمقراطية ومحبة الكاتبة لشخصيات قصصها، فعبر القصص تدخلنا أجواء الشعب اللبناني بطوائفه كافة.

من عناوين القصص الأخرى: صعود المطر، ضريح لرماد الذاكرة، ثلاث ساعات قبل الرحيل والمعبر، وسفر وتؤكد الكاتبة لنا عبد الرحمن تفردها في ذلك التوازن الدقيق بين قصص الذات وقصص الآخر “العالم الخارجي الموضوعي” وتسعي أن تكون صوتا مغايرا يكشف عن عمق الجرح الذي يدمي جسد الأنثى العربية هذا الجرح الذي ينفصل عن جرحنا الشرقي النازف.

  د.خالد غازي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى