أوهام شرقية: معاناة المرأة العربية في ظل أنظمة مجتمعية رجعية

 

 

تنسج الكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن عوالم قصص مجموعتها “أوهام شرقية”، من خلال رصد تفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، التي شكلت دعائم القصص الرئيسية، وعمّقت الأحداث اليومية البسيطة، مبرزةً سمات الشخصيات التي تعاني من الانهزامات والانكسارات الداخلية في بحثها الدائم عن الراحة والاستقرار في عالم رجراج لا يعرف السكون.

من هنا ظلت هذه التفاصيل على علاقة وطيدة بعناصر القصة القصيرة، مشكّلةً نصيباً لا يستهان به من ركائزها. وقد ساعدت الأساليب السردية على إبراز تلك التفاصيل وتوظيفها في السياق العام للقصة، بلغة تميل إلى الشعرية أحياناً، نظراً لتركيز الكاتبة على القضايا ذات الابعاد الإنسانية، ونقل إحساس الشخصيات، وهواجسها وأحلامها، وما يعتري دواخلها في لحظات المواجهة والمكاشفة مع الذات، ما استدعى، في غالبية القصص، استخدام أسلوب السرد بضمير المتكلم “الأنا” بما يشير إليه من إشعارٍ للقارئ بصدقية ما يرويه السارد، ومصداقيته.

تنعكس آثار الهزيمة الخارجية، المتمثلة بالاحتلال الصهيوني لفلسطين، في قصة ثلاث “ساعات قبل الرحيل”، على داخل الشخصية المحورية “ليلى” الراوي بصيغة الأنا، التي لا تملك خياراً في تحديد خط سير حياتها، وكل ما تقوم به ردة فعل هشة إزاء أقدار الحياة التي وضعتها في دائرة مغلقة، حيث لا تعرف بداية الطريق أو نهايته، وهي تبحث عن الرجل الذي تخلت عنه لتحزم حقائبها وتسافر، في إشارة إلى الانسحاب والهروب من المواجهة.

وفي طريقها للبحث عن “يوسف” لتودعه، تصادف “ليلى” مجموعة من المواقف التي تكشف عن استحالة أن تلتقي به نظراً للمفارقة الكبيرة بين شخصيتها وشخصيته؛ فهي امرأة تبحث عن الاستقرار والهدوء، بينما هو رجل يسعى لإصلاح العالم وحمل مشاكله على كتفيه، فـ”ليلى” مثلاً، عندما ترى طفلاً ملقى في حاوية القمامة تتوارى بسرعة عن الأنظار، تاركة الطفل يواجه مصيره، كذلك تهرب من مواجهة صديقتها “لارا” المنشغلة بالاعتصامات والمظاهرات السياسية، لأنها لم تشارك طوال حياتها في أية نشاطات سياسية، وغيرها من الأحداث والتفصيلات والمواقف التي تتفرع في شتى الاتجاهات، ما يجعل القصة بؤرة أو نواة لمشروع رواية: “تذكرت حينها الطفل الوليد الملقى في حاوية القمامة، ماذا حدث له الآن يا ترى بعد مرور ساعة من الوقت؟ أتراه مات؟ أم أنه ما زال حياً؟ هل أنقذه أحد؟ لماذا لم أتوقف عند أقرب مركز للشرطة وأخبرهم بما رأيت؟ لو أن يوسف عبر المكان وسمع صراخ الطفل أما كان سينقذه، وليحدث بعدها ما يحدث؟” [ص11].

يلقي عدد من قصص المجموعة الضوء على معاناة المرأة العربية في ظل أنظمة اجتماعية وتشريعية رجعية تضعها في مرتبة دونية بعد الرجل، وتعاملها على أنها مجرد أداة لمتعته وتلبية رغباته واحتياجاته، بعيداً عن احترام إنسانيتها وكرامتها، وهي النظرة التي يستغلها الرجل لممارسة سلطته القمعية المطلقة على المرأة، في كثير من المجتمعات الشرقية (العربية خصوصاً) كما في قصة “امرأتان”: “ركض ذهنها إلى أشهر سابقة، حين لجأت إلى المحكمة لتطلب الطلاق، تذكرت أسئلة القاضي، حين مثلت أمامه هي وهو: هل يغطي مصاريفك ومصاريف المنزل؟

أجابت: نعم، لكن ليس هذا كل شيء، إنه يضربني و…و…و..

لكن لا أرى على وجهك أي آثار للضرب.

إنه يحتقرني، ويعذبني، ويسيء إلى إنسانيتي.

هيا عودي مع زوجك إلى منزلكما، واقنعي بحياتك يا امرأة” [ص17].

بنت الكاتبة قصتها السابقة عبر ما يمكن اعتباره دمج قصتين معاً في قصة واحدة، حيث هناك تناوب في السرد بين المرأة رقم (1)، والمرأة رقم (2)، وكل منهما تروي حكايتها مع الرجل بضمير “المتكلم”، ومن زاويتها الخاصة التي فرضتها طبيعة العلاقة التي تجمعها بمعشوقها. وكل قصة من هاتين القصتين منفصلة تماماً عن الأخرى، حيث جاء دمج الكاتبة لهما معاً دون مبررات تقنية أو فنية أو موضوعية مقنعة.

من جهة أخرى، ركزت الكاتبة على تناول معاناة المرأة والرجل معاً في ظل المواضعات الاجتماعية التي ترى في الحب معصية، وفي ظل تابوهات المحرمات، وثقافة العيب، واصفةً مشاعر الحب كإحساس داخلي يعيشه طرفا العلاقة، بعيداً عن ما هو سطحي، وبلغة شعرية مؤثرة، وهو الأمر الذي أكسب القصة عند لنا عبد الرحمن أجواء حميمية وأبعاداً إنسانية عميقة. وكمثال على ذلك نورد هذا المقطع من قصة “حب شرقي”: “قال لي ونحن نسير في الحي الدمشقي القديم، نحو ركن نهرب إليه من هدير الزمن الحاضر، لنتصالح مع عمر بلا تاريخ أو ذاكرة.. تجاوزنا فوهة الرغبة، لننزلق في متاهة وله بلا أمس أو غد” [ص53].

اعتمدت لنا عبد الرحمن أسلوب التقطيع، في بعض قصص مجموعتها، حيث لكل مقطع سارد “يروي بضمير الأنا” منفصل عن سارد المقطع الثاني، لكن خيطاً سردياً واحداً يجمع المقاطع هو خيط الراوي كلي العلم متعدد الزوايا الذي ينقل الحكاية كما عاشتها الشخصية المحورية، بعيداً عن التدخل المباشر في سير الأحداث، مع مراعاة تقديم الأفكار والمشاعر بتدرج، إلى أن تبلغ ذروتها في النهاية، ولذلك تعمدت الكاتبة أن تترك لكلٍّ من بطلي القصة الرئيسيين الذين يتكررا في غالبية القصص الفرصة للحديث عن هواجسهما وما في دواخلهما من مشاعر وأحاسيس، كلٌّ منهما تجاه الطرف الآخر. وبالنسبة للبطل (أو البطلة) فإن كثيراً مما يرويه لا يعرفه الطرف الآخر وهذا شأنه شأن العلاقات الإنسانية الطبيعية أو الدارجة، ولكن الكاتبة تلم كل الخيوط لتضعها بين يدي القارئ الذي يقرأ قصة واحدة ولكن على ألسنة رواة مختلفين، حيث يشكل هؤلاء الرواة جزئيو العلم، راوياً واحداً كلي العلم، مما ساهم في خلق شبكة سردية متداخلة تقوم أساساً على اللغة الشعرية بغية التأثير الوجداني على المتلقي وكسب تعاطفه مع القضية المطروحة.

ففي قصة “ضريح لرماد الذاكرة” مثلاً، يسرد الراوي/ الرجل، بضمير الأنا، حكاية حبه الأول لفتاة تدعى “إيمان” لم يستطع رغم السنوات الطويلة التي مرت على فراقهما نسيانها، فيحاول صديقه أن ينسيه إياها فيعرّفه على إحدى فتيات الليل، ويقضي البطل مع تلك الفتاة ليلة واحدة، حيث يكتشف كل واحد منهما فرادة الآخر وانجذابه تجاهه، وهو ما تكشف عنه المقاطع التي يتناوب فيها السرد مرة على لسان البطل/ الرجل، ومرة على لسان البطلة/ سونيا، حيث يسرد كل واحد منهما المشاعر التي انتابته تجاه الآخر، دون أن يطلعه عليها.

القارئ فقط هو الذي يعرف جل التفاصيل، بينما كل من الساردين لا يعرف ما دار في خلد الآخر من تداعيات أو أفكار. تقول سونيا في أحد المقاطع: “في عينيه كثير من الحزن. كان ينظر إلي بصمت، يبدو عليه كمن فقد عزيزاً، وأنا أنظر إلى وجهه وجسده حين تأملني وأنا أرقص” [ص79]، في حين يقول الرجل في مقطع آخر: “أحسست بقوتي، وبهشاشة ذاك الجسد الذي صار يتحول فجأة إلى واحة، فيما دفء شارد ينبعث مع أنات بإيقاع منفرد”. لكن الكاتبة لا تكشف عن أن واحداً من البطلين يعرف ما يفكّر أو يشعر به الآخر نحوه.

* نشر بمجلة تايكي الاردنية وموقع ميل ايست اونلاين

هيا صالح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى