تعجلت الرحيل

 

يضعنا حدث الموت في مواجهة قسرية مع ذاتنا، نواجه بذهول  خبر الموت في كل مرة، رغم أنه يتكرر يوميا، لكننا نظل قاصرين عن تقبل حلوله الأبدي، وكأننا بهذا القصور عن تقبله  نؤجل وصولنا للدائرة الحتمية التي ستطبق علينا  ذات يوم. مضى ابراهيم أصلان وحيدا من دون أبطاله، رحل صاحب ” مالك الحزين” تاركا “حكايات من فضل الله عثمان”، فيما  الشيخ  حسني يجوب شوارع الكيت كات وحده، ودع  الرجل العجوز وزوجته في ” حجرتين وصالة” وتركهما  يواجهان بمفردهما أزمات العمر المتأخر،وقلق النهايات.

أغمض أصلان عينيه بعد مرور ما يقارب عام على الثورة التي حلم بها عقودا، ولم ييئس من قدومها، وفي  غمرة انتظاره للثورة، ظل يقاوم على طريقته، الرجل النحيل الأشيب ذو الشارب الكث، والعينين العميقتين، والصوت الخفيض، لم يستسلم أبدا لهنة ضعف أو فقدان ثقة بأبناء مصر. انضم  إلى  حركة “كفاية” ، وأسس مع عدد من الأدباء والفنانين حركة “أدباء وفنانين من أجل التغيير”، وحين قامت الثورة كان في الميدان مثله مثل شاب عشريني يختار التحيز للأمل ضد التعفن والفساد. هذا هو تاريخ  أصلان، الرجل المُشع سواء في الكتابة أو الحياة، يأخذ قدرا شاسعا من التأمل قبل أن يكتب، فتأتي جمله قصيرة، معبرة بلغة حية وتلقائية وعارية تماما من أي منمقات، لذا ظل معروفا في الأوساط الأدبية بقلة أعماله، وجودتها، الكتابة عنده مغامرة شيقة، أما الحياة فمغامراتها أصعب وأكثر قسوة، هذا ما خبره أصلان حين خاض معركة رواية ” وليمة لأعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر، حين أقدم  على نشرها ضمن إحدى السلاسل الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة، فقامت ضده القوى الظلامية وطالبت بمصادرة الرواية، حينها ما كان من أصلان إلا أن قدم استقالته.

أدرجت روايته”مالك الحزين” وهي أولى رواياته  ضمن أفضل مائة رواية في الأدب العربى وحققت له شهره أكبر بين الجمهور العادى وليس النخبه فقط، فأبطال هذه الرواية التي تحولت الى فيلم  بعنوان ” الكيت كات” كانوا من الأشخاص البسطاء، المألوفين،لأن أصلان  ظل متحيزا في كتابته لاختيار نماذج تكشف عن الوجع الإنساني، ومعاناة أشخاص الهامش وكأنه بهذا الاختيار يكشف عن فلسفته في رؤية الحياة التي تنسجم مع حياته وسلوكه البعيد عن التصنع الذي تميزه تلقائية وعفوية أخاذة.

يترك ابراهيم أصلان بعد لقائه حالة من التساؤل، لم! أو كيف من الممكن وجود أناس يكونون على هذا القدر من الجمال؟ أشخاص يعيشون ما بين اليقظة والحلم، على حافة الواقع وفي قلبه، مثل أهل الضباب وجودهم بالغ الهشاشة وكثيف الحضور في آن واحد.

لم تعجلت الرحيل يا ” مالك الحزين” !  غيابك المباغت يعمق الحزن لرحيلك، أيها الكاتب النبيل  سأحسب أنك في سفر طويل ليس إلا،لأن روحك مبثوثة هنا وهناك بين الكلمات التي صاغتها أصابعك بمهارة فنان خجول.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى