نجيب محفوظ .. هدوء البراكين

تلوح في الذاكرة صور متفرقة من  ثلاثية نجيب محفوظ،  فمن خلف المشربية المخرمة،ها هي  خديجة تراقب الشارع، في انتظار الظابط الوسيم الذي تبادله النظرات، لكن قصة الحب التي تشكلها النظرات فقط تنتهي قبل أن تبدأ. الست أمينة تصلي العصر، ثم تهرول مسرعة إلى المطبخ، سيصحو سي سيد بعد قليل من قيلولته وينبغي أن يجد كوب الشاي بانتظاره، لأنه سيغادر مساء ولن يعود إلا قبل صلاة الفجر. كمال يشارك في مظاهرات الطلاب، وياسين على خطى والده يطارد إحداهن هنا أو هناك . هذه الصور المتفرقة من ثلاثية نجيب محفوظ، هي الأقرب إلى الذاكرة ليس لأنها عُرضت على الشاشة فقط، بل لأننا  نحس بمعرفة أبطالها كما لو أننا عشنا معهم، وجاءت حياتهم  شريطا طويلا يختذل تاريخ مصر، من أيام الحارة والفتوات، وسي سيد، والعوالم، وشارع محمد علي، وصولا إلى التغيرات اللاحقة التي عصفت بمسار الشخصية المصرية من جيل إلى جيل، لتكشف عن تحولات الزمن الحتمية التي لا فرار منها في سرد روائي للبيت المصري والحي الشعبي والشخصية المصرية. فثلاثية محفوظ،  تؤرخ لحياة أسرة مصرية خلال 3 عقود بدأتها بثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، حيث الثورة نقطة محورية وفارقة في الأحداث، تشكل الإطار الفعلي للنص، كما سيتضح للقارئ فيما بعد.

لقد  مرت مائة عام على ميلاد الأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي يمثل أحد الرموز  والقامات التراثية في  الثقافة المصرية، ليس لأنه حاز جائزة ” نوبل” التي وضعت أدبه مع مصاف الأدب العالمي، بل لأن محفوظ عبر نصوص رواياته، وأعماله القصصية والسينمائية تمكن من الوصول إلى لب التاريخ المصري الذي شكل مادة رواياته، وصاغ هوية أبطاله، من دون أن يحيد عن هذا الاختيار في كل ما كتبه. إنه التاريخ الذي ظل متصلا بمصر بفعالية الكشف عن الروح المصرية في كل مراحلها وتحولاتها الكثيرة، كاشفا عن تطور الوعي الثوري للشخصية المصرية، التي عمل محفوظ على كشف صراعها وتناقضاتها وخيباتها، وجدلها الأزلي حول مفهوم الطريق والغاية. يفتح محفوظ في نصوصه هوة مظلمة وحتمية تطل على القاع، لذا حين نرى صابر بطل رواية ” الطريق” يودع أمه أمام قبرها المظلم، مواجها رائحة الموت والعدم ندرك أنها بداية أخرى لرحلته الأولى مع السؤال الشائك الذي يظل مفتوحا على مدار النص، وكما لو أن ذات  ” صابر” هنا التي تبصر هوة القبر، تنفتح على هاوية داخلية سيحملها معه إلى الأبد. هذه الهاوية نراها عند ” كمال عبد الجواد” في الثلاثية، عند   مواجهة قناعاته الدينية السابقة، في ايمانه بالأرواح، وأضرحة الأولياء، حين يكتشف في تراجيديا مثيرة أن ضريح الإمام الحسين، لا يحمل رفاته وأنه ضريح رمزي ليس إلا، وهنا تبدأ رحلة كمال بحثا عن معرفة جديدة، عن نوع مغاير من الوعي يساعده على الخروج من مأزقه الفردي.

ولعل أهمية إبداع نجيب محفوظ لا تكمن فقط في الجانب النفسي الذي يكشفه عند أبطاله،ولا في كتابة حقيقتهم الداخلية، بقدر ما هناك تضفير ثلاثي الأبعاد بين : أسئلتهم الوجودية الشائكة، وبين الخوف من الموت المحكومين به، والمتجاور مع روح ثورية تسعى لتمزيق الأوهام، هذا ما نجده في ” الثلاثية”، وفي “اللص والكلاب” و”ميرامار”، ” الكرنك” ” الطريق”، ” أولاد حارتنا” وغيرها من رواياته، لقد نجح  محفوظ في إيجاد هوية مستقلة لنصوصه عبر تشكيلها في كتابة حديثة مصحوبة برؤية عميقة ميزتها الأساسية قدرة نافذة على التأمل الهادئ الذي يشبع البصيرة، بلا أي صخب أو جلبة، ثمة سكينة تشبه هدوء البراكين مبثوثة في أدبه، لا توجد شعارات صاخبة، بل هناك انعكاسات فكرية سلسة عن مفاهيم  العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.

في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ المائة، وبعد أحداث ثورة يناير، نحتاج إلى قراءة جديدة لكتاباته هو الذي كتب عن الفقر والجريمة، عن الجوع، وعن مصر المسروقة، راصدا  شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى تنحدر إلى الهاوية  وتلجأ إلى حلول فردية للخلاص الذاتي. إذ يمكننا عبر قراءة واعية ومتبصرة من اكتشاف تاريخ آخر لم نكن كشفنا كل ما جاء فيه في الزمن السابق.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى