سلطانات الشاشة
تتمكن بعض الكتب من أخذ القارئ إلى عمقها ليس من الصفحات الأولى،بل أحيانا من العنوان الممتع الذي يشي بمضمون الكتاب، ويدعو قارئه للغوص فيه واكتشافه بلا تردد أو ملل.هذا ما يفعله كتاب “سلطانات الشاشة” للباحثة اللبنانية منى غندور،إنه كتاب شيق وثري مضموناً وأسلوباً حيث لا يخفى على القارئ الجهد البحثي الذي بذلته المؤلفة في جمع مادة الكتاب،وتوثيقها بالصور،وأغلفة المجلات القديمة ،وعناوين الأفلام التي قمن ببطولتها،بالإضافة لشهادة الفنانين والفنانات والمخرجين الذين عاصروا النجمات، لتقدم لنا الباحثة عبر كل هذا تفصيلات واقعية ودقيقة عن حياة رائدات السينما المصرية الأوائل،حيث سلطانات الشاشة ورائدات السينما يخرجن فجأة من جدار الصمت والعزلة وأحكام الزمن ليتجولن بحرية وتألق بين دفتي كتاب ممتع،يضحكن ويبكين،ويروين قصصهن،التي يتخللها الألم والفرح في آن واحد.
هكذا يتمكن القارئ عبر رحلة ممتعة للغاية من التسلل بخفة ليتفرج بكل ما لديه من رغبة للاطلاع و معرفة قصة كل من عزيزة أمير،وفاطمة رشدي،وآسيا داغر،وبهيجة حافظ ، وماري كوين، وأمينة محمد.حكاية كل سيدة من هؤلاء السيدات الرائدات كيف كان بدايتها،طفولتها،صباها، وكيف اختارت اقتحام عالم الفن في ذاك الزمن العسير على المرأة الخروج من بيتها من دون حجاب كامل.
إنها سير حافلة بالطموح ،النجاح، الفشل،الحب،الوجع،السعادة، الجنون،المرض، والوحدة أيضاً.فقد اجتمعت في حياتهن ثلة من النقائض التي يصعب استيعابها في حياة واحدة بل ربما تحتاج لأكثر من حياة كي يحتمل المرء كل هذا الألم والفرح،حيث التنقل بين قمة الحالات يحدث بشكل تدريجي من دون أن تعي صاحبته أنها تنحدر نحو مسار مهلك،هذا ما تكشفه الباحثة مثلا في حياة فاطمة رشدي تلك الفنانة التي تعتبر رائدة المسرح في مصر التي أسست فرقة مسرحية تحمل اسمها لتتحدى بها فرقة رمسيس، يكشف الكتاب أن فاطمة رشدي في آخر أيامها لم تكن تملك شقة،وانها انتهت في فندق وضيع بلا سند أو معين، ميقنة أن مهنة التمثيل مهنة جاحدة عاقة،لأن الممثل محبوب من المنتجين طالما هو في الضوء،وحين ينسحب عنه الضوء يرمى به في هوة النسيان.
تقدم الباحثة أيضاً نبذة عن ظهور منيرة المهدية في عام 1915 ،تلك الفتاة الجميلة التي عرفها الجمهور مطربة وراقصة في مقاهي ذلك العهد،لكن الغريب في الأمر أن أول ممثلة مصرية لم تمثل دور إمرأة على الإطلاق بل كانت تقوم بأدوار رجل،حيث تلبس بذلة الرجال،وتمتشق الحسام،ومع هذا فقد أحبها الجمهور وأقبل عليها مأخوذا بذلك الصوت الملائكي الساحر.
أما عزيزة أمير فهي مؤسسة السينما في مصر،وصاحبة شركة سينمائية،إنها المرأة التي وصفت بأنها أسطورة عجيبة،تمتلك الفتنة الطاغية، والموهبة الفذة التي أشعلت في قلبها ولعا بالسينما أشقاها بضياع ثروتها،في مغامراتها الدائمة بانتاج الأفلام.
يختلف الرسم النفسي للفنانة ماري كوين عن سائر الفنانات في هدا الكتاب،حيث تبدو إمرأة محبة للسينما،أكثر مما هي محبة لصورتها فيها،لقد ودت أن تكون راهبة قبل أن تخطفها السينما من طفولتها،فصارت السينما المحراب الدي وهبته حياتها وشبابها،لكن هدا العشق لم يسرقها من أمومتها،ولم يحجب تواضعها،كما أن أضواء الفن لم تلق ظلالا على إيمانها أو تزعزع ثوابتها.
إن اهم ما يتميز به كتاب الباحثة منى غندور هو أنه لا يقدم فقط سيرة حياة هؤلاء الفنانات الرائدات، بل يعرض لحقبة معينة من تاريخ العصر الدي ظهرن فيه،إنه زمن تتالت فيه أحداث عالمية وعربية هامة جدا كان لها بصمة في تاريخ العالم ككل،هنا مثلا نرى أثر الحرب العالمية في انعكاسها على الأعراف الإجتماعية،ثم ظهور المرأة الجديدة في أوروبا،حيث وصلت نسائم التغيير إلى الشرق مع كتابات قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي في دعوة إلى تحرير المرأة العربية، وخرجت المرأة إلى الشارع في تظاهرات لم تشهدها مصر ولا أي بلد عربي آخر في 16 مارس 1919.كان لهدا الخروج أن ساعد المرأة على تجاوز أكبر عقبة في سبيل القيام بمهنة التمثيل.
تحكي الباحثة كيف تمكنت المرأة المصرية في زمن قصير من التمثيل والإنتاج،وتأليف الموسيقى،والقيام بفن المونتاج،وإدارة الأستديو،كما تأسست مجلة “روز اليوسف” وهي أول مجلة تحمل اسم إمرأة.
تقول الكاتبة عن علاقتها بالكتاب :”من باب الإحتفاء والإحتفال كتبت عنهن،ومن باب إلقاء التحية دخلت إلى عالمهن،ومن باب الاعتراف بفضلهن بعثتهن إلى أوراقي.وإن تكن الريادة هي مدخلي الأول إليهن، إلا أن علاقتي بهن تطورت من خارج أرقام أفلامهم وإنجازاتهن، والصفات المتداولة التي التصقت بهن، ووجدتني أنساق إلى لعبة الغواية،ووقعت في شرك حبهن، وصرت أسيرتهن” .
د. لنا عبد الرحمن