الفرنسية جورج صاند .. ملهمة ألفريد دي موسيه،شوبان، دلاكروا
“في يوم ما سيفهمني العالم أكثر،لكن غير مهم إن لم يأت هذا اليوم ،سأكون قد فتحت الطريق لإمراة أخرى”هذه العبارة التي وصفت جورج صاند نفسها بها تلخص كيان هذه المرأة الفريدة في عصرها.
لقبت بروائية الأرياف و قال عنها المؤرخ والفيلسوف الفرنسي “إيرنست رينان” (1823ـ1892): “ستظل روائع “جورج ساند” تُقرأ بعد ثلاثة قرون”
وقال عنها فولتير” إنها “الروائية التي تجسد المجد الفردي للأدب النسائي”
في حين اعتبرها “دوستويفسكي”: “رمزاً للمرأة الفريدة في موهبتها”.
رثاها “فيكتور هوغو” فقال: “لم تفتقر هذه المرأة المجيدة الى شيء اذ كانت قلبا كبيرا وفكرا عظيما وروحا نبيلة ولا بد من الاقرار بان ما يميز روائعها من غيرها وما يجعلها قوية التأثير شيئان : عذوبتها ودعوتها الى الخير”.
“أورور أرماندين دوبان بارونة دودافان” هو الاسم الرسمي للأديبة الفرنسية المعروفة في الأوساط الأدبية بـ “جورج ساند”.. ولدت في باريس مطلع تموز 1804 و توفيت في منطقة “نوهان” عام 1876… وهي ابنة ضابط كبير في الجيش الإمبراطوري النابوليوني.. قضى والدها ولم تتجاوز سن الرابعة. فاهتمت بها جدتها المقيمة في الريف لتمضي “أرماندين” طفولتها بعيدة عن العاصمة تستمع لقصص يرويها الفلاحون في جلساتهم.. حولتها الأديبة فيما بعد إلى مادة أولية لروائعها.
ما أن بلغت سن 13 حتى انتقلت إلى مدرسة داخلية للراهبات فجّرت في أعماقها حب التمرد في بادئ الأمر ومن ثم التوق لاعتناق حياة الأديرة.. وفي عام 1822 تزوجت من البارون “دودافان” لتهجره بعد أقل من عشر سنوات برفقة ابنتها وولدها.. استقرت في باريس لتثير حولها زوبعة من الاستنكار في الأوساط المخملية لخروجها بزي الرجال وانتقائها البنطال وتدخينها البايب والسيغار.. شغلت مغامراتها العاطفية الصالونات الأدبية الأوروبية بدءاً بصداقتها مع “جول ساندو” الأديب الذي استعار لها لقب “جورج ساند” وساعدها في كتابة أول رواية تنشرها “وردة بيضاء”،ثم دخل حياتها الشاعر الرومانسي “ألفريد دو موسيه. وتروي “جورج ساند” قصة هذا الحب المتقلب في رائعتها: “هي وهو” التي صدرت عام 1859.. فردّ عليها شقيق “ألفريد” الروائي “بول دو موسيه” برواية مضادة عنوانها: “هو وهي”.. عرفت “ساند” الشهرة الأدبية عام 1832 حين صدرت لها رواية “إنديانا” ثم “فالنتين” 1832 و”ليليا” عام 1833 ثم “جاك” 1834 و”موبرا” 1836… وتتناول تلك الأعمال قصص حب رومانسية وتقلبات المشاعر العاطفية الصاخبة بالعشق والوله والاندفاع كما عاشتها “ساند” برفقة “ساندو” و”موسيه” و”شوبان.
وفي عام 1837 ذهبت “ساند” مع الموسيقي البولوني الكبير “شوبان” إلى جزر “باليارياس” في اسبانيا قبل أن تمضي بصحبته عشر سنوات معبأة بالسعادة الصارخة.. انتقلت مع نهاية تلك العلاقة الغرامية إلى الحياة السياسية لترتبط بمجموعة “الديمقراطيين الفرنسيين” أمثال “باربيز” و”آراغو” و”لامونيه
العرافة
لكن جورج صاند لم تكن مجرد امرأة جريئة ومتحررة، لبست الهندام الرجالي وغيّرت اسمها من “أورور” الى “جورج” ودخّنت السيجار وكتبت حين لم تجرؤ أي امرأة أخرى على نشرأفكارها الىالعلن.وليست”صاند”أيضا كاتبة عادية دخلت في علاقات متشابكة مع رواد عصرها من كتاب وفنانين،اليوم بعد مائتي عام وعامين على ولادتها وفي القرن الواحد والعشرين تبدو لنا هذه الكاتبة ذات رؤية مميزة تحمل أبعادا تجاوزت عصرها سواء عبر آراءها السياسية أو عبر نصوصها الأدبية ألم تتوقع أن تتحول ألمانيا من عدوة تقليدية لفرنسا إلى صديقة لها كما ذكرت في “يوميات مسافر خلال الحرب”! قالت “ساند” يومئذٍ: “ستتمخض مصالحة الجنسين الفرنسي والألماني غداً عن ولادة علاقة أخوة دائمة ستغدو قانون مستقبل السلالات المتحضرة”.ولتصبح “جورج ساند” عرابة دعاة السلم بعد أن أطلقت نهاية القرن التاسع عشر هذا التحذير فوق صفحات الفيغارو: “ها نحن نخوض حروباً فظيعة تسيطر فيها الأهوال والعلوم التدميرية على مصائر البشر.. وإذا كل حرب أشد وحشية وإجراماً من سابقتها.. ولتظلوا (وتتوجه هنا إلى الحكومات الأوروبية) وحيدين أمام أسلحتكم.. لم يعد أمامكم سوى تفجير الكرة الأرضية والقضاء على كل شيء”.. دافعت “جورج ساند” عن البيئة كواحدة من أشرس أنصارها دون أن تدري أنها من حماة هذه البيئة.. فكلمة “البيئة” لم تظهر إلى الوجود في القرن التاسع عشر وإنما في القرن العشرين.
ولعل أكثر ما اشتهرت فيه “ساند” هو أدب الرسائل،اذ كتبت رسائل تفوق مرتين عدد أيام عمرها، كما يُعرف انها كانت سريعة في الكتابة الى حدّ لا يوصف: كتبت رواية “فاديت الصغيرة” وهي من أجمل رواياتها في غضون أربعة أيام، فلُقّبت آنذاك “بالكاتبة المتدفقة كالنهر”.وقيل أيضاً عنها: “قلمها نهر جارف لا ينضب.كتبت جورج ساند أيضا مذكراتها تحت عنوان “قصة حياتي” تصف فيها الأديبة حفنة من الأصدقاء الذين أحبتهم أمثال: “بلزاك” و”سانت بوف” و”غوستاف فلوبير” و”دولاكروا” و”شوبان” و”موسية، هذه الرسائل وجّهت الأنظار مجدداً الى سيرتها الذاتية التي تناولها باحثون كبار وكتبوا دراسات عنها..تستمد الرسائل أهمية بالغة من حيث تأريخها لأحداث ووقائع ثقافية وفنية مهمة (بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية) التي عاشتها أوروبا في هذه المرحلة. وهي تعجّ بأسماء أعلام ومرجعيات تكشف عما كان يموج في أوروبا. أما كتابها “رسائل مسافر” فقد نشر في عام 2004 ويجمع مختارات من عشر رسائل كتبتها “ساند” خلال تجوالها بين فرنسا وإيطاليا وسويسرا بين الأعوام (1834ـ1836) في حين مجدت “ساند” في كتابها “حكايات الجدة” الطبيعة خلال دفاعها عن الأشجار والتراث الفولكلوري لمنطقتها “بيري”.. وهوعبارة عن قصص كتبتها الأديبة لحفيدتيها “أوروا” و”غابرئيل”.ومن أهم أعمالها الأدبية أيضا “أنديانا” التي تحدثت فيها عن امرأة شابة تعيسة في علاقتها الزوجية،ورواية”ليليا” التي وصفت فيها المشاعر الجنسية للمرأة ولاقت رفضا واستهجانا كبيرا في ذاك العصر،بصراحتها في الكتابة عن العوالم الداخلية للمرأة.
ملهمة المبدعين
أكثر ما ارتبط اسم “جورج ساند” بثلاثة رجال عظماء هما شوبان،والشاعر الفريد دي موسيه،والرسام ديلاكروا.لعل من أكثر حكايات شيوعا قصتها مع “الفريد دي موسيه”ففي عام 1833 التقت “صاند” مع “دي موسيه” وسرعان ما توهج حبا عنيفا بينهما هائجاً عرفا فيه كل لحظات السعادة وكل لحظات الشقاء.، وقد سافرا إلى إيطاليا كما يفعل العشاق الفرنسيون عندما يريدون أن يعيشوا لحظات السعادة في الحب. سافرا إلى مدينة البندقية، أجمل مكان في العالم بالنسبة لشاعر عاشق وامرأة محبة، ولكن لسوء حظ الفريد دي موسيه فإنه وقع صريع الحمَّى والمرض. فأخذوه إلى المستشفى. وهناك تعرفت جورج صاند على الطبيب الذي جاء لمعالجته. وكان شاباً إيطالياً وسيماً.ويقال انها وقعت في غرامه كما ورد في مذكرات الشاعر،لتنتهي علاقتهما التي تعتبر أهم علاقة في حياة “دي موسيه” ففي حين انتهت هي منها ظل هو غير قادر على الخلاص نهائيا من سطوة الحب، في الوقت الذي امتلكت “ساند” قدرا من الإرادة الحرة، التي مكنتها من الدفاع عن نفسها، دفاعا، قادرا على تأطير التأثيرات التراجيدية، للحب وآلامه، وإن مجموعة قصائده (الليالي)، التي كتبها من أجل تمجيد علاقته الغرامية، مع هذه الكاتبة الفرنسية، إنما هي في جوهرها نوبات سيكولوجية، ألمت بالشاعر، بعد انقضاء العلاقة، وانطفاء جذوة الحب.صاند وصفت هذه العلاقة قائلة: “العالم لن يفهم شيئاً من هذه المعادلة لكننا سنستمر في تبادل الحب وسنسخر منه”، وموسيه قال: “الحياة هي الغفوة والحب هو الحلم، ونحن لا نعيش حقاً إلاّ إذا أحببنا…” ويوم افترقا لم يتفهم أحد من حولهما كيف ينتهي هذا الحب وهما شرحا أن روح الاستقلال وعدم التساهل لدى الإثنين قاداهما الى الانفصال وذاك الشغف المتّقد والمدمّر تحوّل لدى الإثنين إبداعاً في الكتابة.
يلتقي أوجين دولاكروا وجورج صاند في نهاية سنة 1834، كان يبلغ السادسة والثلاثين، أما هي ففي الثلاثين من عمرها. كانت روائية شهيرة ومثار جدل. أما هو فقد كان رسّاماً معروفا يتمتع بتقديرعدد قليل من هواة الفن، لكنهما يفترقان بصفة نهائية ذات يوم من شهر أغسطس (آب) سنة 1863. بعد علاقة استمرت زهاء ثلاثين سنة من مراسلات لم تتوقف بل تشهد وتكشف عن لعبة المراسلات، وعن إغواء غامض بين فنان وكاتبة.
نقرأ في مقدمة كتاب «جورج صاند ودولاكروا.. مراسلات اللقاء المستحيل» بأن جورج صاند تحدثت مع دولاكروا عن الرسم، قائلة له «ان مصدر الإلهام لا يوجد من خلال أداء نقدي خاص في هذا الميدان، ولكن ما يلهمها إنما هو صداقتها مع الفنان».
أما قصتها مع شوبان فظلت غامضة وغير واضحة بالقدر الكافي،أحبت “صاند” شوبان وأقاما معا قرابة عشرة أعوام،بدأت علاقتهما كصديقين،ثم صارا حبيبين رغم أن صاند كانت تكبر شوبان بست سنوات تقريبا،لكن لم يكن هذا جوهر الخلاف فقط،فقد كانا من طبيعتين مختلفتين،”صاند” الجريئة بل الفضائحية كما يتهمها البعض،مقابل “شوبان” المنطوي والخجول.أحبت “صاند”شوبان كثيرا إلا أنها أيضا تخلت عنه بشكل حاد وقاطع ففي 28 تموز 1847 تلقى شوبان رسالة وداع من صاند حتى أنها رفضت حضور مراسم دفنه، ،،وكتب النقاد حول موقفها منه قائلين أنها تأكدت من دخوله في علاقة مع ابنتها التي أقامت معهما فترة وجيزة في القصر.
بعد ثورة 1848، بدأت “ساند” في خوض كتابات اجتماعية وسياسية متطرّفة: في “رسالة الى الطبقة الوسطى” توجهت الى قرائها طالبة منهم التوحّد في سبيل التوصّل “الى حقيقة اشتراكية”، ثم وفي “رسالة الى الأغنياء” شرحت أن إحساسها يؤكد أن فرنسا مدعوة الى خوض غمار الاشتراكية بعد قرابة القرن. واستمرت في كتابات مماثلة نشرتها في اعداد من مجلة “بيان الجمهورية” ومن بعدها في مجلة خاصة أسستها ولم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد وهي مجلة “قضية الشعب”. عاشت صاند هذه المرحلة الصاخبة من تاريخ فرنسا بحماسة وشغف لا مثيل لهما وناضلت وكتبت كما لم يكتب أحد من معاصريها إلاّ القلائل، وحين سحقت النتائج الانتخابات الشعبية كتبت: “أنا أخجل اليوم من كوني فرنسية… لم أعد أؤمن بجمهورية تسحق وتدمّر طبقة البروليتاريا…”.
غادرت “ساند” الى الريف مبتعدة عن باريس،وانصرفت أكثر الى كتابة رواياتها فكتبت “جان” و”كونسويللو” و”الطحان ودنجيبو”،كانت تكتب بغزارة قلما جارها أحد بها،كانت تنهمك في كتابتها وأعمالها في محاولة للهروب من عذاباتها،فقد عرفت الكثير من الألم في الحب والعائلة هي التي قالت” دعوني أهرب من وهم السعادة الكاذب والمجرم! أعطوني العمل والمزيد من العمل والانشغال والتعب والألم والحماسة والشغف.”وهكذا استمرت حتى اللحظات الأخيرة من عمرها مقبلة على الكتابة والابداع بشغف كبير،حتى أننا نرى آثار هذا التوهج في كل الرسومات والمنحوتات التي رسمت لها على يد مبدعين ذاك العصر،تلك اللوحات التي تعكس وجه امرأة فريدة في الروح والعقل.
والجدير ذكره أيضا أن السينما الفرنسية قد جسدت حياة هذه الكاتبة في أكثر من فيلم كان آخرها فيلم “أولاد القرن” وأدت دور”ساند” الممثلة الفرنسية”جولييت بينوش”.
د. لنا عبد الرحمن