لحظات الصباح الأولى
أُفَكِرُ-أحياناً- أني سأفتح باب حديقة بيتي ذات يوم، وأجد جثة رجل مجهول لا أعرفه، قتيلاً ممدداً على الأرض، ويكون عَليّ إثبات عدم معرفتي به أو بسبب مقتله ووجوده في حديقتي.. إذن ماذا سأفعل بجثة مجهولة موجودة في حديقتي؟ وكيف سأثبت براءتي؟
في الكتابة، الخيالات جزء من الحقيقة، والحقيقة ليست إلا خيالات. لكن أي خيال متأزم هذا! يحتاج الكشف عن سره، لطالما فكرت أن الكتابة في حد ذاتها هي السر العظيم الذي يتكشف رويداً رويداً!
في هذا الصباح الباكر أستيقظ مدفوعة بصوت قادم من بعيد، يعبر الفضاء كي ينزع رقادي. أنا المختارة صرتُ كي أكتب حكايته. الكتابة هي أصوات مجهولة تزاحمنا في حياتنا اليومية فلا نعود نفرّق بين صوتنا، والصوت الآخر، اللاهث، القادم من بعيد.
صوت بطل روايتي يدفعني للصحو كي أكتب حكايته كما يمليها عَليّ، صوته فيه من الحدة ما يدفع للتنبه لما يريد قوله. هل عَليّ أن أعيش الحياة والكتابة إلى حدودهما القصوى؟ منتهى الألم يتوازى مع منتهى الفرح.. أما الجسد هذا الشاهد الحي على المسرات والأوجاع كيف من الممكن أن نقرّبه أو نقصيه من دون الحاجة إلى التفسيرات المنطقية لكل الأشياء، بينما في الحقيقة أن الجسد لا يحتاج إلا لوعي فطري كي يكون مرتاحاً، لكن الكتابة والحياة، والانشغال الروحي بينهما، لإيجاد تفسيرات لكل نأمة تصدر عنه تخضع للوعي، فيما الجسد يبغي استجابة فطرية تكون منذ البداية أو لا تكون.
ماذا تراني فاعلة في هذا العالم؟
لم أنا عاجزة عن إسكات كل هذه الأصوات التي تزاحمني في يومي. أحتاج الآن أَنْ أنزع جسدي من السرير، كي أصنع قهوة بالحليب. صوت أنفاس ابني منتظمة..يا لهذه السعادة الكبرى. أحتاج لتلك السكينة وأن يربت أحد على كتفي ويقول لي: «نامي بأمان.. نامي أنا هنا ولن يؤذيك صخب العالم، لن يكون هناك مزيد من الجروح».
أعرف أن هذا كذب، لأننا عاجزون عن تقديم السلام لِمَنْ نحبهم، وتجنيبهم الألم. لكنه الحزن اليومي الذي نتخيله في لحظات الصباح الأولى قبل أن نعي تماماً قدرتنا على مواجهة الحياة، قبل أن تحضر جلبة العالم الخارجي إلينا وتدفعنا لتمزيق الحجب والامتثال للواقع.
بطل روايتي يُلَوّحُ لي بدفتر أحمر غامض وكأنه يطلب مني أن أفتح الدفتر لأقرأ ما كُتِبَ فيه. يداي ترتجفان. لا أريد معرفة هذه الحكاية الآن، أرجوك خذ دفترك وامض بعيداً عني، لست جاهزة لسماع حكايتك بعد. لماذا تتوهم أن لدي القدرة على القراءة، والكتابة عن عالمك المخيف؟
من أين تأتي الكتابة وإلى أين تمضي، وأنا المسحوبة مثل مخبولة من حكاية إلى أخرى، كيف سأوازن بين ما يحدث في أيامي، وأيامهم؟!
* * *
في الكتابة ثمة نوع من الحب، يتشكل نحو النص، فننحاز له ولا نرى عيوبه.
كان أخي كلما وقع في غرام فتاة، يعود إلى البيت ويقول لنا عبارته الشهيرة: «فيها شي بيلمع». وكنا نتشوق لرؤية تلك الفتاة، وكل منا يتصور خيالات مفترضة عن تلك اللمعة. الأكثر لمعاناً كانت نحيفة جداً، وقصيرة، ذات شعر غجري طويل ومنكوش، وجهها صغير لكن ملامحه كبيرة؛ عيناها بارزتان، أنف كبير، وفم ممتلئ. لكن هذه الأوصاف لم تنف فكرة «اللمعان»، ولم تلغ سحراً يراه أخي فيها. لكن ما علاقة هذا بالكتابة؟
كثيرة هي النصوص التي بهرت أصدقائي الذين أثق بذائقتهم الأدبية، ورأوا فيها اللمعان الأقصى، وعندما اقتربت منها لم أَرَ النص كما رأوه. يحصل العكس أيضاً، أن أنحاز لحب أحد النصوص، ولا يرى الآخرون فيه ما رأيته.
هل هذا يعني وجود عيب في الذائقة الأدبية لي أو لهم؟ لطالما شغلني الأمر، لكن افتراض وجود علاقة الحب بيننا وبين نص ما، يعيد إليّ التوازن، والإيمان بحرية الحب والكتابة.
في الكتابة هناك صوت سحري يجعلنا نندفع كالمجاذيب نحوه، لإيماننا أن ما نكتبه يجب أن يُكتب وإلا.. من المؤكد أن ثمة شيئاً من الحقيقة في هذا، لكني لا أتجاوب مع الصوت الهامس الحاض على الكتابة إلا عندما يشتد ويتحول إلى صراخ في رأسي. ربما هذا الوهم يخصني وحدي، لأني مَنْ سأكتب الحكاية، لذا عَليّ تصديقه.
د.لنا عبد الرحمن