روايات هان كانغ تستكشف العلاقة المعقدة بين الإنسان والوجود

تكتب بروح شاعرية وتطرح أسئلة الهوية وهشاشة الجسد البشري

أشادت الأكاديمية السويدية بالوعي الفريد الذي تتمتع به الروائية والقاصة الكورية الجنوبية هان كانغ في ما يتعلق بالروابط بين الجسد والروح، والأحياء والأموات، مشيدة بأسلوبها الشاعري والتجريبي الخاص. إنها كاتبة قادمة من مكان مختلف، ليس على مستوى الانتماء الواقعي فحسب، بل الفكري والمتخيل أيضاً، ويتضح هذا في تكوينها علاقة مختلفة مع الطبيعة، تتشكل من فعل المحاكاة، وليس من الرؤية البصرية الخارجية فحسب.

تتفرد روايات هان كانغ بتناولها العميق موضوعات تتعلق بالصدمات النفسية والعنف والحالة الإنسانية المتشظية، في رحلة سردية تراوح ما بين كوريا الجنوبية المعاصرة وتاريخها الدامي. وعلى رغم تعمقها في تناول قضايا وجودية وفلسفية حساسة ودقيقة، لا تنشغل هان كانغ بتصنيف أعمالها إلى تاريخية أو اجتماعية، بل تبدو حريصة على تقديم أبطال يعبرون جيداً عن قوة العاطفة، وتجلياتها العظمى التي تنقذ الروح الإنسانية من قلب المأساة، عبر منح البائسين معنى وحافزاً للاستمرار في رحلتهم الحياتية الصعبة. لا تعتمد هان كانغ في كتابتها على السرد التقليدي، بل على أسلوب شاعري مكثف رقيق ومليء بالتأملات الفلسفية، آخذة القارئ في رحلة تحليلية حول ماهية التواصل مع الذات، والمعنى العميق في اكتشاف الآخر، كما لو أنه مرآة لوجودنا.

الأشجار الملتهبة

ليست الكاتبة جديدة على الجوائز، فقد حصلت هان كانغ على عديد من الجوائز في كوريا عن روايتها “النباتية”، التي نشرت في 2007، ثم حالفها الحظ للفوز عن هذه الرواية أيضاً بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، فانتقلت من المحلية إلى العالمية، كما حولت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 2009.

         “النباتية” بالترجمة العربية 

استلهمت هان كانغ “النباتية”، من لوحة لامرأة تتحول إلى نبتة، وكانت قد كتبت قصة قصيرة من قبل تحت عنوان “ثمرة سيدتي”، ولكن يبدو أن هذه الصورة ظلت تلاحقها، وتدفعها إلى الكتابة عنها من جديد، لكن في شكل أوسع، وبصورة أشد قتامة وجرأة.

من خلال بطلتها يونغ هاي تطرح هان كانغ أسئلتها الوجودية الأعمق، التي تتعلق بالهوية واستقلال المرأة ومدى هشاشة الجسد البشري. تقرر بطلة رواية النباتية أن تتوقف عن تناول اللحوم، هذا القرار الذي يبدو فردياً وبسيطاً في ظاهره، سرعان ما يغدو تحدياً ومواجهة مع المجتمع الراغب في السيطرة على الأجساد والعقول، وألا يترك مساحة للمختلفين عنه، لكن يظل السؤال الحائر: إلى أي مدى من الجائز لمثل هذا القرار الشخصي أن يصبح عملاً من أعمال التدمير الذاتي؟

تواجه بطلة الرواية يونغ هاي تعنت زوجها ووالدها، تكشف ردود فعلهما عن شخصياتهما المتسلطة والمتحكمة، وكأن رفضها تناول اللحم يمثل تحدياً للتقاليد، وبما أنها تمكنت من فرض قرارها في هذا الأمر، ستكون قادرة على تنفيذ أمور أخرى، رجل آخر في العائلة هو زوج شقيقتها، يستغلها بصورة بشعة حين يستخدم جسدها كأداة تجسد أعماله الفنية، محولاً إياها إلى موضوع لمشروعه الفني، بدلاً من التعامل معها كإنسانة تواجه أزمة وجودية، فإنه يمعن في تسلطه على أفكارها بأسلوب ناعم ومؤذ جداً.

      رواية بالترجمة العربية 

تتدهور الحالة النفسية للبطلة، وتجد نفسها محتجزة في مصحة عقلية، لكن شقيقتها التي تمثل الجانب الأنثوي المساعد، تسعى بكل قوة كي تعيدها إلى الحياة التي تعرفها وتعدها “طبيعية”. إلا أن يونغ هاي لم تكن تبحث عن العودة، بل كانت تغوص أعمق في عالمها الداخلي، إذ تشكلت لديها رؤية غامضة ومقلقة لعالم نباتي خيالي، عنوانه في ذهنها “الأشجار الملتهبة”. تعد البطلة أنها جزء من عالم هذه الأشجار الذي يجذبها بجماله الغريب والمغوي، لكنه يحمل في طياته خطراً داهماً، وكأنه دعوة إلى التحرر من العالم الإنساني، بكل ما فيه من عنف واستغلال، نحو مملكة غريبة تحتضنها بقدر ما تهددها. وصفت كانغ روايتها هذه قائلة: “هذه الرواية ليست لائحة اتهام فردية للنظام الأبوي الكوري. كنت أرغب في التعامل مع أسئلتي الطويلة الأمد حول إمكانية أو استحالة وجود البراءة في هذا العالم، الذي يمتزج فيه العنف بالجمال، إنها أسئلة كبرى كثيراً ما أرقتني خلال الكتابة”.

الصداقة والوداع

يمكن اعتبار رواية “أفعال إنسانية”، التي نالت بترجمتها الفرنسية جائزة ميديسيس للأدب الأجنبي عام 2023، ترنيمة تتغنى بالصداقة والوفاء. تصف هان كانغ بطلتها كيونغا في صباح أحد أيام ديسمبر (كانون الأول)، حين تتلقى رسالة من صديقتها إنسيون، تخبرها فيها بأنها في المستشفى في سيول، وتطلب منها أن تأتي إليها فوراً. لم تلتق المرأتان منذ أكثر من عام، عندما قضتا بضعة أيام معاً في جزيرة جيجو. تعيش إنسيون في تلك الجزيرة، وهناك، قبل يومين من لقائهما المرتقب، تعرضت لحادثة مفاجئة أثناء قطعها الأخشاب، أدت إلى جراح دامية في أصابعها، ثم وجدها أحد الجيران مغشياً عليها في منزلها، ونقلها إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة. نجحت الجراحة وتم خياطة إصبعيها، لكنها قلقة على مصير الببغاء الأبيض الذي تركته في البيت، فقد يموت إذا لم يتم إطعامه قبل نهاية اليوم. وهي طريحة الفراش عاجزة عن مغادرة المستشفى، لذا تطلب من صديقتها كيونغا أن تقدم لها خدمة كبيرة، بأن تأخذ أول طائرة إلى جيجو لإنقاذ الطائر.

ولكن لسوء الحظ، عاصفة ثلجية تضرب الجزيرة عند وصول كيونغا، ويكون عليها الوصول إلى منزل صديقتها بأي ثمن، بينما يبدأ الليل في السقوط. تتساءل كيونغا ما إذا كانت ستصل في الوقت المناسب لإنقاذ الطائر، وإن كانت ستتمكن من البقاء على قيد الحياة وسط البرد الشديد، الذي يزداد مع كل خطوة تخطوها. لكنها لا تعلم أن كابوساً أسوأ ينتظرها في منزل صديقتها، حين تكتشف أسراراً خفية تتعلق بمجازر وإعدامات حصلت في زمن مضى، لكن آثاره حاضرة في نفوس الكوريين.

هناك كثير من البرد والثلج والطين والطيور والأشجار الميتة في هذه الرواية، التي يمكن أن يكون غموضها مربكاً في بعض الأحيان. تقول: “أخرج إلى غرفة المعيشة، وأرى أن الثلج يستمر في التساقط خلف النافذة ذات اللون الرمادي والأزرق. رقائق كبيرة، كما لو أن عدداً لا يحصى من الطيور البيضاء كانت تتساقط بصمت في الوقت نفسه”.

إن قوة الصورة الشعرية في السرد تتماهى مع المضمون، لأنها تتضمن القليل جداً من اليقين الذي يمكن التشبث به. إنها رواية تعتني بقيمة الصداقة، وتحتفي بالخيال، والأهم من ذلك، تتضمن دعوى قوية لمجابهة النسيان، والبحث عن الحقيقة والتصالح مع الماضي الخفي، عبر الكشف عن ذاكرة مؤلمة دفنت لعقود، تخللها حداد وكوابيس، مع شخصيات لا نعرف هل هي أشباح أم أحلام أم لها حضور حقيقي؟

                            “رواية “أفعال بشرية”

تناولت هان كانغ، في روايتها “أفعال إنسانية”، مجموعة من القضايا الإنسانية العميقة، من بينها المذبحة الرهيبة التي شهدتها جزيرة “جيجو”، في الثالث من أبريل (نيسان) عام 1948. بأسلوب شعري مؤثر، تسرد الكاتبة قصة النضال الصامت والطويل للناجين، الذين لا يزالون يبحثون عن أفراد أسرهم المفقودين منذ تلك الحادثة المروعة. غير أن محور الرواية الحقيقي يتجاوز حدود الألم والمعاناة، ليغوص في أعماق التجربة الإنسانية بصورتها النقية والشاملة.

تصف كانغ رحلتها في كتابة هذا العمل، فتقول: “استغرق مني الأمر وقتاً طويلاً لأكمل هذه الرواية. وعندما سئلت عن طبيعة ما أكتب، وجدت نفسي في حيرة أمام تعدد التفسيرات. أحياناً كنت أقول إنها تتحدث عن التجربة الإنسانية الكاملة، وفي أحيان أخرى كنت أقول إنها تحكي عن العبور من الموت إلى الحياة. لقد تناولت فيها أحداث الثالث من أبريل في جزيرة جيجو. كنت صادقة في كل تلك الأجوبة، ولكن إن كان عليَّ أن أختار وصفاً واحداً، فسأختار القول إنها رواية عن التجربة الإنسانية الكاملة”.

دروس يونانية

استقرت هان كانغ في العاشرة من عمرها، في حي سويوري بسيول، وقد استحضرت هذه المرحلة من حياتها، في روايتها “دروس في اللغة اليونانية” التي صدرت عام 2011.

ومثل سائر رواياتها، قدمت كانغ في هذه الرواية علاقة إنسانية بالغة العمق والتركيب، من خلال رحلة فردين من خلفيات مختلفة، لكنهما يشتركان في معاناة داخلية متشابهة. البطلة فقدت صوتها نتيجة صدمة نفسية عميقة، بينما البطل يعاني تدهوراً تدريجياً في بصره، وكلاهما يعاني جروحاً نفسية غائرة تعود إلى الماضي، تمثل امتداداً لتجارب مريرة عاشها كل منهما خلال مرحلة الشباب، مما أدى إلى انفصالهما عن العالم من حولهما وعزلهما عن المجتمع.

الرواية تستعرض كيفية تفاعل هذين الشخصين في سياق هذا الاغتراب النفسي. فبينما قد تبدو الصدمات التي تعرضا لها غير قابلة للتغلب عليها، تحدث حادثة بسيطة تعيد تعريف مسار حياتهما، وتدفعهما ببطء نحو بعضهما بعضاً. ويصبح هذا التقارب محفزاً لإعادة اكتشاف الرغبة في التواصل مع الآخر، وهي رغبة انطفأت داخلهما بفعل المعاناة والعزلة.

تعالج هان كانغ ببراعة موضوعات مثل الصمت والتواصل. فقدان البطلة صوتها ليس فقط حالة فيزيائية، بل هو تجسيد لصمت داخلي نتج من الألم والخوف. أما فقدان البطل بصره فيعكس نوعاً من العمى ليس فقط على مستوى الحواس، بل على مستوى التواصل العاطفي والروحي مع الآخرين. كلاهما يجد في الآخر متنفساً له، ليس بالكلمات فحسب، ولكن عبر تجربة معبرة عن العلاقة مع الحواس والمعاناة الإنسانية. لنقرأ: “ما الذي يمكنني التفكير فيه لأتحمل؟ إذا لم يكن هناك نار تشتعل في صدري. إذا لم يكن هناك شخص سأعود إليه لأحتضن. تتسرب ذكرى الحب العميقة كالحلم”.

بفضل رمزية الشخصيات وتجربتهما المشتركة في إدراك الألم، أرادت الكاتبة، عبر اختيارها هذين البطلين، أن تستكشف أهمية العلاقة مع الآخر الذي يشبهنا، وأثره فينا خلال رحلة التعافي أو تجاوز المحن، ومحاولة بناء الذات من جديد، والتحرر من القيود النفسية، إذ إن الحب والصداقة والتواصل العميق عوامل قوية تساعد في إعادة اكتشاف الحياة ككل، من خلال التأمل في معنى أن يفقد المرء جزءاً من حواسه وقدرته على التعبير، بالتوازي مع تقديم مفهوم الجسد على أنه مساحة للتجربة الداخلية، وليس مجرد وسيلة للإحساس والتواصل مع العالم الخارجي فحسب، إذ يمثل الصوت والبصر في الرواية رموزاً للتواصل الداخلي والخارجي على حد سواء.

طبقات الفنون

هان كانغ هي ابنة الكاتب سيونغ وون، وقد درست الأدب الكوري في جامعة يونسي. وبدأت مسيرتها الأدبية عندما نشرت إحدى قصائدها، في عدد الشتاء من مجلة “الأدب والمجتمع”. ولكن مسيرتها في مجال السرد بدأت بقصة قصيرة بعنوان “المرساة الحمراء”، التي فازت بمسابقة الربيع لصحيفة “سيول شينمون”، وصدرت لها أول مجموعة قصصية بعنوان “حب في يوسو” عام 1995.

منذ صيف 2013، تدرس هان كانغ الكتابة الإبداعية في معهد الفنون في سيول، إضافة إلى كونها كاتبة، هان كانغ هي أيضاً موسيقية، وغالباً ما يحضر شغفها بالموسيقى في أعمالها الروائية.

د.لنا عبد الرحمن

independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى