لماذا يجهل القراء العرب أدب سريلانكا الحديث؟
روائيون يكتبون باللغة التاميلية والإنجليزية ومايكل أونداتجي كتب حكاية الحرب الأهلية
أعاد الانقلاب الذي شهدته سريلانكا، والذي ما زالت، دولة وشعباً، تعيش تحت وطأة الردود التي أحدثها، هذا البلد – الجزيرة إلى الواجهة العالمية، سياسياً وثقافياً. فموقع سريلانكا في قلب المحيط الهندي، يعد ركناً قصياً في هذا العالم، قابعاً وسط الكوراث الطبيعية (تسونامي)، والعواصف البشرية، ومنها الحروب الداخلية وحركات التمرد والمعارك العسكرية، مما سبب نكسات اقتصادية، أدت إلى أزمات إنسانية مستمرة، بسبب النقص الحاد في كل ضرورات الحياة. وكان لا بد لهذا الانقلاب أن يدفع الكتاب والقراء العرب، إلى طرح سؤال مهم: لماذا تجهل المكتبة العربية الأدب السريلانكي بينما تزخر بترجمات كثيرة للآداب “البعيدة”، آداب أطراف العالم، كما تسمى؟
في كتاباتهم، أشار العرب إلى سريلانكا باسم “سرنديب”، وهذه الكلمة لها جذر في اللغة السنسكريتية، وتعني “الصدفة”، فهل وجد هذا البلد بالصدفة في قلب المحيط ليكون ميناءً استراتيجياً مهماً لآسيا وأوروبا، منذ الأيام الأولى لطريق التجارة القديم “طريق الحرير”، إلى ما يسمى اليوم “طريق الحرير البحري”؟، إنه البلد الذي يصدر للعالم الأيدي العاملة بأسعار زهيدة، والشاي السيلاني الفاخر والكاري والأرز والموز وجوز الهند والكاجو. وقد شابت التاريخ الحديث لسريلانكا حرب أهلية استمرت 26 عاماً، بدأت في 1983، وانتهت في شكل حاسم عام 2009، عندما هزمت القوات المسلحة السريلانكية “نمور تحرير التاميل”.
الأدب المجهول
لا نعرف نحن كقراء عرب كثيراً عن الأدب في سريلانكا، وهذا لا يعود إلى البعد الجغرافي للبلد، إذ وصل إلينا كثير مثلاً من أدب أميركا اللاتينية، وعلى الرغم من المسافات، فإنه مكتوب بالإسبانية، مما سهل الترجمات، لكن يبدو أن العقبة الأساسية في وصول الأدب السريلانكي إلينا، سببها أن النتاج الأدبي لهذا البلد يكتب باللغتين المحليتين “لغة التاميل”، و”لغة السنهاليين”، ثم ينبغي أن يترجم إلى الإنجليزية كي تترجم إلى اللغات الأخرى، وكما يبدو فإن هذه العملية المركبة تواجه صعوبات الترجمة المعروفة.
ولا يمكن الحديث عن الأدب في سريلانكا من دون التوقف عند ملاحظة تأثره بالأساليب السائدة في بقية شبه القارة الهندية، المستلهمة من الفلسفات البوذية والهندوسية والطاوية وسائر الأعراق الكثيرة الموجودة في البلد.
تفتخر سريلانكا بأن نسبة المتعلمين لديها تصل إلى 92 في المئة. وهي أعلى نسبة في جنوب آسيا. وأدبياً لديها تقليد طويل في سرد القصص، وعلى الرغم من هذه النسبة المرتفعة من المتعلمين، يبدو السياق المعرفي المنفتح على الغرب غير حاضر بقوة، وإلا كان ظهر عبر الترجمات.
ما يميز الأدب في هذا البلد هو المدى الذي اشتبك به التقليد الشفوي للحكايات مع الأنواع الأدبية الأخرى المكتوبة من قصة وشعر ورواية. ويعود هذا إلى تأثير البوذية وما تتمتع به من تراث ديني وأدبي وتعاليم فيها من الحكمة الإنسانية ما يدفع الكتاب إلى الاستلهام منها، بحيث يتم توضيح المفاهيم والأفكار الفلسفية المعقدة باستخدام قصص من حياة بوذا، وروايات الحياة السابقة لـ”سيدهارتا جوثاما”. وهذا لم يكن حكراً على الكتاب فقط، لأن السكان العاديون على استعداد ثقافي لتلقي مثل هذا النوع من القصص.
يعتبر التاريخ الأدبي للكتاب التاميل في سريلانكا أقل ضخامة بكثير من تاريخ نظرائهم السنهاليين، ويرجع ذلك جزئياً إلى وجودهم التاريخي المتصدع في الجزيرة، وغياب نظام تعليمي متكافئ، لكن أدب التاميل مستوحى من أعمال القرون الماضية، ويتمتع بميزة إضافية تتمثل في القدرة على الاستفادة من التقاليد الأدبية لجنوب الهند، حيث يتم التحدث باللغة التاميلية أيضاً.
لكن ثمة موضوعات مشتركة تحضر في الأدب السريلانكي، سواء في اللغة السنهالية أو التاميلية، وهي: النزاع المسلح المستمر منذ ثلاثة عقود، والتمرد، والصراعات العسكرية، والدمار الناجم عن تسونامي، والفيضانات والجفاف، والأمراض والأوبئة، والحرمان الدستوري للديمقراطية، وخلافات الحكم الأخرى.
ولكي نعطي لمحة عن نكهة الكتابة السريلانكية، يمكننا التوقف أمام كتابة “سيمون نافاجاثيغاما” (1940-2005) الذي اشتهر عبر روايته “صياد في برية سنسارا” التي ترجمت إلى الإنجليزية عن السنهالية. فهو كتاب تمت قراءته وفق الرؤى الماركسية والفرويدية والبوذية، وتتحدث قابليته للتفسيرات المتعددة عن تضمنه عدة طبقات في التلقي. إنها حبكة بسيطة، تركز على العلاقة بين الصياد والراهب البوذي الذي يعيش في خلوة في الغابة، ثم يأتي الصياد ويعيش على مقربة من الغابة أيضاً. وتبدأ شبكة متداخلة من العلاقات بين كل واحد منهما، مع فكرة العزلة والابتعاد عن المدنية، إلى جانب تقديم نقد لاذع لفكرة حمل السلاح والحرب، والروح التي يزهقها القتل، حتى وإن بقي الجسد الذي تعيش فيه حياً. لنقرأ: “لم يكن الصياد دائماً صياداً. أصبح صياداً فقط بعد أن حمل البندقية. سأحتفظ برواية كيف حمل البندقية لوقت لاحق. قبل أن يصبح صياداً، كان اسمه “غولو بونشا”، البعض أطلق عليه لقب “والاس بونشا” بسبب الندوب الشبيهة بالوادي التي تركها على وجهه شبل الدب الذي رباه كحيوان أليف… بعد أن أمضى الليل يتجول في الغابة، يتسلق الصياد دائماً الصخرة بالقرب من المعبد، لا يأخذ البندقية معه إلى الأماكن المقدسة بجوار المعبد الصخري، بل يُخبئها في تجويف الشجرة عند سفح التل”.
تأثر سيمون بالواقعية السحرية وبالأساطير البوذية، وعُرف على نطاق واسع بأنه أحد أكثر كتاب القرن العشرين حداثة في السنهالية، أعماله غنية جداً بالمحتوى والعرض الثقافي الخاص بسريلانكا، ويتجلى أيضاً تنوعه في سهولة التنقل بين الأنواع، فقد كتب القصة القصيرة والمسرح والسيناريو.
تقدم رواية “جزيرة الألف مرآة”، للكاتبة المعاصرة نويمي مناويرا، على غرار رواية مايكل أونداتجي، “شبح أنيل”، صراعاً ملحمياً مفجعاً، يتم سرده عبر بطلتين تتناوبان سرد ما حدث في العقود التي سبقت الحرب الأهلية. قبل أن يمزق العنف نسيج سريلانكا وتتحول شواطئها البكر إلى اللون الأحمر، كانت هناك عائلتان، تحكي البطلة الأولى “ياسودارا” قصة عائلتها السنهالية وما قدمته لها من حب كبير عندما كانت طفلة في العاصمة “كولومبو”، لكن هذا السلام يتحطم بسبب مآسي الحرب، فتهرب عائلة ياسودارا إلى لوس أنجليس. تتشابك حياة ياسودارا مع حياة فتاة شابة من التاميل تدعى “ساراسواثي”، تعرضت لخطف وعنف من الجنود السنهالين.
ميزة هذه الرواية أنها تقدم الحرب نفسها من جانب الطرفين. يتعلق الأمر بشكل أساسي بالحرب، ولكنه يرتبط أيضاً بالثقافة والزواج، الزيجات المرتبة والزيجات من طريق الحب، والنظام الطبقي والتحيزات بسبب لون البشرة وتجربة المهاجرين، والحب العائلي وصداقات الطفولة. تم إدراج هذه الرواية الأولى لنعومي مناويرا، في القائمة الطويلة لجائزة “الأدب في آسيا”، وجائزة دبلن، وفازت بجائزة الكومنولث الإقليمية لآسيا، وتم ترشيحها لجائزة شمال كاليفورنيا للكتاب.
فتاة عاصية
كاتبة معاصرة أخرى تأتي من سريلانكا هي رو فريمان من مواليد 1967، ترجمت أعمالها الروائية إلى عدة لغات، وهي ناشطة نسوية وسياسية، وقد ظهر عملها الإبداعي والسياسي على المستوى الدولي، وتنشر مقالاتها في صحيفة “الغارديان”، و”نيويورك تايمز”، و”بوسطن غلوب”. نشرت ثلاث روايات هي “فتاة عاصية”، و”النوم وحيداً”، ورواية ثالثة حملت عنوان “سال مال لين” على اسم منطقة في سريلانكا، وحظيت هذه الرواية باهتمام لافت، إذ اختارها محرر “نيويورك تايمز” ضمن أهم الأعمال التي تكشف عن أسباب مأساة الحرب الأهلية في سريلانكا. تلتقط فريمان تفاصيل الحياة اليومية والبسيطة، ويستطيع القارئ أن يدخل إلى عالمها الإبداعي بسهولة. تصف كيف انتقل أربعة أبناء مع والديهم، الأب موظف حكومي والأم تعمل مدرسة، إلى منزل في منطقة “سال مال لين” الواقعة في الأجزاء الجنوبية من البلاد. تدور القصة حول التحول الذي يحدث في حياتهم مع تصاعد تهديدات الحرب الأهلية.
تبدأ الرواية مع الأيام الأولى من عام 1979، حين انتقل “الهيرات البوذيون السنهاليون” إلى المنزل الفارغ الوحيد في “سال مال لين”. سمي البيت على اسم بستان أشجار سال في نهاية الحي، وبدا تحديد شخصية البوذي السنهالي منذ بداية النص ضرورياً، لأن الرواية تتضمن بشكل جوهري تصعيداً تدريجياً في التوترات بين التاميل والسنهاليين.
قدمت الكاتبة في مطلع الرواية تاريخاً قصيراً لسريلانكا، وتوضيحاً عن الصراعات العديدة التي ابتليت بها. وترى أن كل ذلك يجب أن يروى من منظور كل من عاش في منطقة “سال مال لين”، حتى وإن كانوا أشخاصاً غير مهمين في المخطط الكبير للأمة، فهم أيضاً يشتركون في التاريخ نفسه ويتأثرون به.
ولئن كنا نجهل الأدب السريلانكي عموماً في الترجمات العربية، فإن الروائي مايكل أونداتجي الشهير عالمياً خصوصاً بروايته “المريض الإنجليزي”، وهو كندي الأصل، سريلانكي المولد، وإنجليزي اللغة، كتب رواية مهمة جداً عن سريلانكا هي “شبح أنيل”، وتمثل مرجعاً فريداً لقراءة ما حصل في سريلانكا منذ منتصف الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، عندما أدت الاضطرابات السياسية الشديدة، إلى حدوث حالات اختفاء وجرائم قتل لم يكشف عن فاعلها. يناقش أونداتجي كيف نشأت هذه الصراعات المدمرة كلها بسبب الصراع المفتوح بين الانفصاليين “التاميل” المتمركزين في شمال الجزيرة، والميليشيات الحكومية والمتمردين السنهاليين. وكيف انعكس الصراع على أهالي البلد، في تصرفاتهم وآرائهم وردود فعلهم، كما لو أن جميع سكان هذه الجزيرة الواقعة في جنوب آسيا خبّأوا خوفهم داخلهم، ثم عبروا عنه من خلال الهلوسة ومحاولات النسيان.
بطلة الرواية هي أنيل تيسيرا، وهي أخصائية في علم الأمراض، تم إرسالها من قبل الأمم المتحدة للتحقيق في أصل المذابح. غادرت أنيل قبل خمسة عشر عاماً سريلانكا لدراسة الطب الشرعي في إنجلترا والولايات المتحدة، ودفعتها عودتها إلى موطنها لتكتشف عن غمار عالم غريب، في مكان غداً بالنسبة لها ما بين الحقيقي والخارق للطبيعة، حيث يواجه بحثها لإدانة جرائم قتل سياسية، عقبات لدى الحكومة وانعدام ثقة السكان المحليين. لذا أثناء الحفر تحت أنقاض حضارة متلاشية، تكتشف أنيل جثث الضحايا، وكذلك الطقوس القديمة للدفن، التي تميل إلى محو التفكير الغربي في البحث عن الحقيقة. كل ما تواجهه أنيل يقع بين الافتراض العبثي، ووقائع الحرب الأهلية التي تشبه أحداثها الخيالات الفانتازية داخل الأساطير.
البطل الثاني في الرواية هو “ساث”، عالم آثار في المدينة القديمة التي اكتشفت فيها الجثث، ويكون على أنيل أن تعمل معه، ثم تتعرف إلى “أناندا” النحات المتخصص في رسم عيني بوذا. ثمة مزيج من النزاهة والفوضى التي تغمر الشخصيات الرئيسة: “ساث” الذي يثبت أن عمليات القتل الجماعي تحدث في سريلانكا، وأنيل التي تتعامل مع عنف قوي جداً ومنظم للغاية بحيث لا يمكن سماع صوته. الأبطال جميعاً يصابون بالفوضى والتشوش من جراء ما عرفوه، ويطرحون أسئلتهم المعقدة عما وراء الموت نفسه. إنها رواية عن تعقد الحرب وعنفها، وصعوبة تحديد الذات عندما يترك المرء موطنه الأصلي وتتدفق ذكرياته، أيضاً عن تفاوت الحقيقة الرسمية والحقيقة الداخلية التي يكتشفها البشر العاديون الذين عايشوا الحدث.
مايكل أونداتجي، صاحب رواية “المريض الإنجليزي”، و”مائدة القط”، و”رؤى الانقسام”، كاتب كندي في الأصل، لكنه ولد في سريلانكا، ثم انتقل إلى كندا منذ عام 1962، ويبدو أنه ظل متأثراً بهذا البلد، لذا تسمح رؤيته الدقيقة للغاية في “شبح أنيل”، واعتماده على ثروة وثائقية بالتغلغل عميقاً في تاريخ بلد يتأرجح بين الحداثة والتقاليد، من دون تفضيل إحداهما على الآخر. هو يقدم وجهة نظر ثاقبة تشبه عين الطير، كما في سائر كتاباته يكتب بلغة دقيقة، ويعرف كيف يقترب قدر الإمكان من حقيقة الإنسان.
د. لنا عبد الرحمن
independentarabia