الحرب اللبنانية صنعت بمآسيها مدرسة الرواية الجديدة

روائيون أعقبوا المؤسسين وأحدثوا ثورة في عالم السرد

تستدعي العلاقة بين الحرب والإبداع أبعاداً معقدة ومتعددة الجوانب، تطاول عمق التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالحرب بكل بشاعتها وفظائعها وتحولاتها غالباً ما تثير مشاعر قوية وتدفع الكُتاب إلى الحفر عميقاً داخل النفس الإنسانية، بحثاً عن أجوبة للأسئلة الوجودية والفلسفية التي فرضها واقع في غاية التشظي والاضطراب، مما أدى إلى كتابة أعمال أدبية تُعبر عن اللحظة الراهنة، بحيث تبدو كتابة الروايات أو الشهادات خلال فترة الحرب أو بعدها قادرة على تقديم صورة واقعية حية عن الأحداث، في حين أن الكتابة بعد انتهاء الحرب تسمح بمزيد من التأمل والتحليل.

حينذاك يمكن الكاتب أن يستفيد من الفهم الأعمق للأحداث وتداعياتها على المدى الطويل، وهذه الأعمال قد تكون أكثر تأملاً وتحليلاً في بناء الشخصيات والأحداث ورصد العواقب النفسية والاجتماعية إلى جانب انعكاس الأثر الفكري الثقافي للحروب بطريقة أكثر شمولية.

تعد الحرب من الثيمات المركزية في الرواية اللبنانية لأنها شكلت الواقع الذي عاشه اللبنانيون لأعوام طويلة، وما برحوا. ولأن الكاتب ابن مجتمعه ويعبر عن أحواله فقد حضرت ويلات الحروب وأهوالها في معظم النتاج الأدبي للروائيين اللبنانيين، فكان للحرب حضور مؤثر لم يحجب الفردانية التي تميز بها كل كاتب أو كاتبة، بحيث يأخذ السرد مع كل رواية منعطفاً جديداً ومختلفاً يكشف عن جانب مجهول لا نعرفه.

النيران والأمل

انصهرت الروايات بنار الحرب وعكست في مرآة صافية صوراً حية للمعاناة والأمل والصراع من أجل المعنى والبقاء، في ظل ظروف قاهرة تدفع إلى الموت الواقعي عبر رصاصة شاردة، أو الموت قهراً على فراق الأحبة.

وقد شهد لبنان فترات طويلة من النزاعات بما في ذلك الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 حتى عام 1990، وهذه الحروب خلفت تأثيرات عميقة ومستمرة على المجتمع والسياسة والاقتصاد، والرواية بصفتها فناً يعكس الواقع ويكشف عن طبقاته التحتية، وجدت في الحرب مادة مأسوية تتدفق للتعبير عن الهموم الإنسانية والأزمات الوجودية، لكل من خاض غمار الحروب واكتوى بنيرانها، لذا وجد الروائيون اللبنانيون في الرواية ملاذاً لهم لمعالجة مشاعر الدمار والخسارة والانتماء والخيانة والحب، والبقاء في ظل تهديد الموت.

والروايات التي تناولت الحرب أو تأثيراتها غالباً ما تسعى إلى استكشاف تساؤلات حول الهوية والبقاء والهجرة والجيل المقبل وحياته في ظل ظروف متغيرة، إضافة إلى أن الكتابة عن الحرب من الممكن أن تكون وسيلة للعلاج النفسي بالنسبة إلى الكتّاب والقراء في آن، عبر القيام بعملية بوح سردية للكشف عن الصدمات والذكريات والمناورة من أجل النجاة، فالروايات بلا شك تساعد في الحفاظ على ذاكرة الأحداث للأجيال المقبلة وتعمل كسجل للتاريخ الشخصي والجماعي.

صدى الواقع

شهدت الرواية اللبنانية تطوراً ملاحظاً بفضل التركيز على ثيمة الحرب مما أدى إلى تعميق البعد الأدبي في الثقافة اللبنانية، وهذا الاتجاه لم يكن مجرد صدى للواقع المعيش بل أسهم بصورة فعالة في إثراء الأدب اللبناني من خلال الكشف عن بعد إنساني فيه تقاطع مع كل حروب الأرض، فالخسارة في وجوهها المتعددة هي القانون الوحيد الذي يحكم الحياة في أوقات الحروب،

لذا قدمت الروايات التي تناولت مواضيع الحرب بتعقيداتها وآلامها طرحاً غنياً بالتجارب الإنسانية العميقة، وهذا يمكن أن نجده في كثير من الأعمال الروائية مثل “رحلة غاندي الصغير” لإلياس خوري، و”الظل والصدى” ليوسف حبشي الأشقر، و”حكاية زهرة” لحنان الشيخ، و”جسر الحجر” لليلى عسيران، و”حارث المياه” لهدى بركات، و”الإقلاع عكس الزمن” لإميلي نصرالله، وروايات علوية صبح وحسن داود ونجوى بركات وإيمان حميدان وجوج شامي. في عام 1983 أصدر رشيد الضعيف رواية “المستبد” التي تصف الحرب من وجهة نظر أستاذ جامعي يجبره القصف على اللجوء هو وطلابه إلى غرفة الناطور، والزمن الذي اختاره الكاتب لروايته هو في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وينعطف السرد ليشير إلى بدايات الحرب عام 1975 وإلى الواقع العصي على التغيير، يقول الراوي “كان هذا التوقيت مفروضاً عليّ لأسباب خارجة عن إرادة الجميع، فقد كان البلد في حال حرب وكانت الكلية منذ أول الحرب مضطرة إلى اختزال فترة التعليم إلى ما بعد الظهر”.

تطول القائمة كثيراً بيد أن رواية الحرب لم تقتصر على تسجيل الأحداث أو رصد الموت والدمار وحسب، بل تجاوزت ذلك إلى التنقيب في أعماق الروح الإنسانية والتأثيرات المترتبة على الهوية الشخصية والمجتمعية جراء الحروب والصراعات، وهذا التنقيب أسهم في تشكيل وعي جديد يُبرز القدرة على الاستمرار والصمود في وجه الصعوبات والخسائر، فقد ترك كل روائي بصمته الخاصة في الكتابة عن الحرب، إذ لا يمكن أن نجد تشابهاً بين رواية وأخرى، سواء من جانب المضمون أو الأسلوب السردي.

ولم تحصر الرواية اللبنانية نفسها في تصوير مأساة محدودة بل تحولت إلى وسيلة للتعبير عن الأمل وإمكانات التغيير الإنساني، ففي رواية “الفارس القتيل يترجل” للكاتب إلياس ديري استباح المسلحون مقهى الانتظار بينما البطل عواد يواجه واقعاً قاسياً في الخارج، الدمار والعنف، وفي الداخل تنهار علاقته مع حبيبته لايا، يقول “لا أقدر أن أمارس فعل الحب معك والوطن يحترق، كيف نقتل الحرب من دون أن نتحول إلى كئيبة على الجدران، وليس بين الباقين في المدينة من يعرف متى تنتهي؟ ومتى يعود الذين غادروا؟”.

تجاوز تأثير الحرب في الأدب اللبناني حدود الزمان والمكان، ولم يقتصر فقط على الكتّاب الذين عاشوا الحروب مباشرة، فبالنسبة إلى جيل الكتّاب اللبنانيين الشباب الذين لم يختبروا الحرب مباشرة، فقد ظلت آثار الحرب حاضرة ومؤثرة في أعمالهم، وهذا ما نجده مثلاً في رواية “اعترافات” لربيع جابر، و”أستديو بيروت” لهالة كوثراني، و”حرب شوارع” لشارل شهوان.

وبالنسبة إلى الكتّاب الذين لم يعيشوا الحرب في سن النضج فإن تأثيرها يبقى جزءاً لا يتجزأ من الوعي الأدبي والثقافي، وهذا التأثير حدث لأسباب عدة لعل أبرزها يكمن في الذاكرة الجماعية للحرب للمجتمع اللبناني بكل تبعاتها، إذ بدت الروايات التي كتبها الروائيون الشباب في جيل ما بعد الحرب عاكسة للقصص والأحداث التي تناقلتها الأجيال، سواء من خلال العائلة أو المجتمع، وهذه القصص تغلغلت داخل نسيج هويتهم الثقافية والأدبية، وظهرت أيضاً ثيمات أخرى تجاورت مع الحرب مثل قضايا النزوح والفقد، كما عند ربيع جابر في “طيور الهوليدي إن”، والهجرة والحنين إلى الوطن كما في رواية “صلاة من أجل العائلة” لرينيه حايك، ولنقرأ هذا المقطع الدال منها، “أول مرة التقيته كانت خلال الاجتياح الإسرائيلي، ينزل مع أسرته عند أقاربهم، جيراننا، الناس يتدفقون من الناحية الغربية ويجلسون حتى على سطوح السيارات وفي صناديقها، وجوه فزعة تكثر على مدى النهار، انفجارات تصدع قلوبنا، ليل بيروت كأنه نهار تشق سماءه القنابل المضيئة ونيران القذائف، تسقي أمي الهاربين ليموناضة أو تمد لهم قناني ماء”.

كان للهزة العنيفة التي أحدثها الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من حروب أهلية أن تركت بصمة واضحة على بنية الرواية اللبنانية، فأصبحت أداة قوية للتعبير والتساؤل عن اليقين وتوثيق الأحداث وكشف تجارب الضحايا والمهمشين وقصصهم، ومن خلال الإبداع السردي استطاع الكتاب اللبنانيون أن يقدموا تأملاً شاملاً ومتعدد الأوجه لتأثيرات الحروب، مما ساعد في توثيق الأحداث التاريخية والحياة اليومية عبر تناول حكايات الأفراد العاديين الذين تأثروا بصورة مباشرة بالحروب، وكأن هذه الروايات قد منحت صوتاً لمن تُركوا في الظل ضمن السرديات التاريخية الرسمية.

بيد أن الرواية لم تكن وسيلة سردية لرواية الحكايات فقط بل مرآة عكست التحولات في بنية المجتمع، فقدمت تحليلاً اجتماعياً للتحولات الإيجابية والسلبية على حد سواء، بخاصة تلك التي نتجت من الحروب الطائفية والنزاعات المتعددة التي مر بها لبنان، وأثرت بصورة عميقة في تفكك النسيج الاجتماعي فيه.

كما تناولت كثير من الروايات تفكك العلاقات بين الطوائف، وأظهرت كيف تحولت الثقة المتبادلة بين اللبنانيين إلى شكوك وانقسامات مما أدى إلى تراجع في القيم المشتركة، وصعود الانتماءات الطائفية والسياسية المتطرفة، ونجد هذا في رواية “التائهون” لأمين معلوف، ولنقرأ منها ما يعبر عن هذا، “لم يكن عندي ولو للحظة واحدة ذرة شك في أن سلوك صديقي القديم أثناء أعوام الحرب يمثل خيانة للقيم المشتركة التي كنا نؤمن بها، وأرجو ألا يسعى إلى إنكار ذلك، ولكن ألم يخن بسبب ولائه؟ فبدافع التعلق بالوطن رفض الرحيل في بداية الأحداث، ولأنه قرر البقاء اضطر إلى القيام ببعض التسويات، والقبول على مرّ الأحداث ببعض التنازلات التي ستقوده إلى ارتكاب المحظور”.

وكشفت الروايات أيضاً عن تأثيرات الهجرة على الروابط الأسرية والاجتماعية، سواء من خلال قصص الأفراد الذين تركوا وطنهم بحثاً عن حياة أفضل، أو أولئك الذين بقوا وحاولوا إعادة بناء حياتهم في ظروف صعبة، كما  سلطت الضوء على التغيرات الديموغرافية الكبيرة وتأثيرها في الهوية الوطنية، فمثلاً في رواية “بناية ماتيلد” لحسن داوود يركز الكاتب على حركة الزمن ودلالاته في ما قبل الحرب وما بعدها، من خلال الأحداث التي تقع في بناية ماتيلد التي تشهد أرضها ونوافذها وجدرانها على فظاعات الحرب، وزوال الذكريات وتقطع السُبل بين الأبطال للعثور على إجابات عن تساؤلاتهم الحقيقية.

طبقات جديدة

أظهرت بعض الروايات اللبنانية دور المرأة خلال الحروب وبعدها، مع غياب الرجال بسبب القتال أو الهجرة، أو عطبهم الجسدي بسبب الإعاقة، فاضطرت النساء إلى تولي مسؤوليات أكبر داخل الأسر، وقد عكس الفن الروائي هذه التحولات سواء من خلال قصص النساء اللواتي تركن الوطن كما في رواية “مسك الغزال” لحنان الشيخ، أو اللائي تحولن إلى قوى اقتصادية واجتماعية تواجه التحديات في ظل الظروف القاسية، كما في روايتي “مريم الحكايا”و “دنيا” لعلوية صبح، وكذلك عالجت الرواية اللبنانية مسألة الهوية الوطنية، إذ أصبح الولاء للطائفة أو الحزب أقوى من الولاء للوطن، وعكست بعض الروايات هذه الإشكالات في محاولة لفهم ما يعنيه أن يكون الفرد لبنانياً في ظل الصراعات والانقسامات، وأبرزت الفوارق الاقتصادية التي تفاقمت بفعل الحروب والأزمات، مع تركيز بعض الروايات على صعود طبقات جديدة نتيجة الفساد والحروب، في حين أن الطبقات الفقيرة تضررت بصورة كبيرة، وهذه الأعمال تكشف عن حقيقة مفهوم العدالة الاجتماعية الغائب في لبنان، وهذه القضايا عالجتها علوية صبح في روايتها “افرح يا قلبي”، كاشفة عن انقسام الإخوة وصراعاتهم داخل الأسرة الواحدة، واختيار بطلها غسان الهجرة إلى أميركا لأن قناعاته في شأن الوطن تختلف تماماً عن رؤية إخوته وقناعاتهم.

لقد تأثرت القيم الاجتماعية اللبنانية بصورة واضحة، وهذا ما عكسته الرواية، فالحروب والأزمات دفعت كثيرين إلى إعادة التفكير في مفاهيم مثل التضامن التعاون والإيثار، إذ أصبحت الفردية والأنانية أكثر وضوحاً في بعض السياقات، وفي المقابل نجد تأكيداً على ضرورة وجود مقاومة جماعية ضد الظلم والفساد والتفرقة.

وعلى رغم كل التأثيرات السلبية للحروب فإن الروايات اللبنانية أظهرت أيضاً الجانب الإيجابي من هذه التحولات، والمتمثل في قدرة المجتمع اللبناني على النهوض والإبداع على رغم كل الظروف القاسية، كما عمدت إلى الكشف عن الوجه الإنساني النبيل القادر على مواجهة بشاعة الحروب ودمويتها.

د.لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى