جنوبًا نحو فلسطين

 

 

لم يمر يوم 15 ايار (مايو) في لبنان – الذكرى الـ 63 للنكبة ‘الفلسطينية’ – كما مر في الأعوام الماضية؛ يوم لا نستحضر فيه إلا النكبة، وما تلاها من أحداث مفجعة، ليس في حق الشعب الفلسطيني وحده، بل بالنسبة لكل الشعوب العربية. وكي نكون أكثر دقة في التوصيف ‘كل الشعوب العربية المتاخمة حدودها لفلسطين’، وهذه العبارة لا تعني – أيضًا – أن الدول العربية الأبعد جغرافيا أقل اكتراثًا بالشأن الفلسطيني، بل إن واقعية مكانها الجغرافي تُحتم عليها ألا تكون على تفاعل مباشر مع ما يجري في فلسطين.

فمنذ العام 1948 وحتى 2011، كان لوقْع يوم النكبة في لبنان ذكريات مختلفة بين ما قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وبين ما بعده. ما زالت تلوح في ذاكرتي الطفولية مشاهد متفرقة ليوم النكبة خلال وجود الثورة الفلسطينية في لبنان؛ حيث كانت الذكرى تتسع لمسيرات واسعة؛ لإطلاق نيران عالية في الهواء، للقيام بعمليات عسكرية على الحدود تقلق العدو الإسرائيلي، والأهم من هذا كله: للتذكير بحق العودة لفلسطين، والتأكيد عليه. وبعد العام 1982 وخروج منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية من بيروت، صار ليوم النكبة واقع مرير مضاعف، وصار التذكير بحلم العودة يتضاءل تدريجيًا، بعد أن انتشر الفلسطينيون في بقاع الأرض. شاب الجيل الأولى من التهجير، أو انتهى عمره وهو يعيش على أمل: ‘سنرجع يوما’.. ذاك الجيل الذي ظل يحمل مفتاحَ بيته بين أغراضه. أما الأجيال الجديدة – التي ولدت وكبرت بعيدا عن فلسطين – فلم تسمع سوى حكايا عن تلك الأرض البعيدة والمحتلة، ولم يكن لها نصيب في عيشها اليومي، سوى المعاناة بين أزقة المخيمات من الفقر والبطالة، وظروف معيشية غير إنسانية، تساهم يوميا في دفع الشباب الفلسطيني لحالات من اليأس وفقدان الأمل بأي تغير يُذكر؛ لكل هذه الأسباب، كان يوم النكبة يمر بخفوت، وغصة، لا تتجاوز ندوات أو مسيرات صغيرة تُذكر بحق العودة. ولم نتخيل – نحن الجيل الشاب – قدوم يوم مختلف لذكرى النكبة.

*****

في يوم 15 أيار (مايو) 2011، لم يكن ممكناً أن تمر الثورات العربية، من دون أن يكون للفلسطينين نصيب منها؛ إذ بعد أن تم كسر حاجز الخوف من الأنظمة الظالمة والفاسدة في عدة دول عربية، تمكن شبان فلسطينيون ولبنانيون من القيام بخطوة جريئة وغير مسبوقة؛ حين ساروا في مسيرة حملت اسم ‘عائدون’، مندفعين بلا خوف نحو الشريط الحدودي الذي يفصل جنوب لبنان عن فلسطين المحتلة.. لا كاميرات، لا وسائل إعلام ترصد تحركاتهم . فقط هم ومشاعرهم الحقيقية يسيرون جنوبًا نحو فلسطين. شباب في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، ولا يعرفون عن أرضهم سوى حكايا خافتة يباعدها الزمن.. قصص تختلط فيها نكبة الوطن بالمأساة الشخصية بعد التهجير؛ ليحملوا منذ تلك اللحظة ـ جيلا ًبعد جيل – كلمة ‘لاجئين’. يسيرون تحت شمس الظهيرة، في طريق طويلة ممتدة . جموع من الشبان والشابات يهتفون بشعارات، بأغانٍ وأهازيج، لكن الجميع هتفوا كلما تقدمت المسيرة: ‘الشعب يريد العودة إلى فلسطين’. مجموعة منهم كانت تغني: ‘وين ع رام الله.. وين ع رام الله..’، أو ‘ع الراباعية، ع الراباعية.. رافعين الراس فلسطينية’.

الطريق تمتد نحو مارون الراس، فلسطين تبدو بعيدة جدًا، وقريبة جدًا في آن.

تزامنت مسيرة ‘عائدون’ مع مسيرة قام بها شبان فلسطينيون وسوريون في الجولان؛ حيث تم اختراق الأسلاك الشائكة، وكانوا يرددون شعارات: ‘الشعب يريد العودة إلى فلسطين’.

أما في مصر، فانطلقت مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإسرائيلية (في القاهرة)، طالب فيها الشبان المصريون بتنكيس العلم الإسرائيلي، وإنهاء العلاقات مع إسرائيل، وقام الأمن بالتعاون مع الجيش بالتصدي لهم؛ بالقنابل المسيلة للدموع لتفريقهم، كما تم اعتقال عدد كبير منهم – كما ذكر شهود عيان للحدث.

ماذا يعني كل هذا إذن؟ أنه بعد مرور 63 عاما على النكبة، وبعد محاولات مستميتة لتقليص قضية فلسطين في ذهن الشباب العربي اليافع، وإغراقه فكريا بكل التفاهات الممكنة على المستوى الفني، والثقافي، ينطلق هؤلاء الشبان بصدر مفتوح أمام الرصاص الإسرائيلي، غير عابئين بموت أو حياة؛ لأنهم يدركون جيدا أن موتهم سيكون في سبيل تحريك حجر فلسطين الذي تسببت الحكومات العربية المتوالية في تثبيته، ومنعت أي أحد من الاقتراب منه.

على مدار 63 عامًا، كان ثمة حراك مستمر – من الحكومات الغربية والعربية – لوأد القضية الفلسطينية، بأشكال شتى؛ منها: توطين الفلسطينيين في البلدان الأوروبية والغربية التي رحلوا إليها، أو في فتح أبواب الهجرة لهم إلى أمريكا وكندا، والدول الإسكندنافية؛ كي يتم توزيعهم في بقاع الدنيا، وبالتالي تقليص عدد المطالبين بالعودة إلى فلسطين إلى أقصى عدد ممكن.

ولا يمكن أن ننسى أيضا الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وما نتج عنه من قضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى المقاومة اللبنانية، التي كانت مصدرَ تهديد وقلق للحدود الإسرائيلية الشمالية. ثم بعد أعوام من الشتات الفلسطيني، جاء اتفاق ‘أوسلو’ عام 1993، الذي كان نواة الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، بين من اعتبروا أوسلو محطة على طريق الدولة التي ستأتي بعد عام أو عامين أو أكثر، وبين من ارتاب في خطر هذا الاتفاق على حق العودة الذي هو جوهر القضية الوطنية وقلبها.

هناك اتفاقيات أخرى أيضا قيدت الشعب الفلسطيني، وباعدت حلم العودة؛ مثل: اتفاق ‘كامب ديفيد’ في مصر، واتفاق ‘وادي عربة’ في الأردن. تلك الاتفاقات التي عقدتها إسرائيل مع حكومات الدول الملاصقة لحدود فلسطين، كي تأمن جبهة تلك الحدود؛ كي لا يحدث ما يهدد وجودها، فيما ظلت جبهة لبنان مفتوحة من جهة الجنوب ، وظهرت المقاومة التي تمثلت بحزب الله ثم كانت حرب 2006. أما سورية، والتي لم تتمكن من استعادة الجولان، ورغم أنها لم تعقد اتفاقية سلام، فإنها لم تشارك بأي حرب منذ عام 1973، وظلت مواقفها السياسية مجرد تصريحات لا تهدد أمن اسرائيل بشيء؛ سواء في زمن الأسد الأب أو الابن، وظل الحرص السوري على بقاء كتلة اللهب الفلسطينية بعيدة عنها، رغم استضافة قادة حماس، ووقوفها إلى جانب حزب الله.

وفي داخل فلسطين، تخللت هذه الأحداث عدة انتفاضات من الشعب الفلسطيني، بعد يأسه من الدور الفعال للحكومات العربية، في وقف البطش الإسرائيلي، أو في التفكير في محاولة استعادة الأراضي المحتلة.

مناخ الربيع العربي مشبع بروح الثورات، وكان من نتاج تلك الثورات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، ومسيرات عربية نحو الحدود تهتف لأول مرة جهارًا وبسلمية تامة: ‘إني عائد’، وأن فلسطين عربية وستبقى.

مسيرات يوم النكبة – والذي أضحى ‘يوم العودة’ – أكدت أن فلسطين هي القضية العربية المحورية، وأن قيام دولة إسرائيل – وزرعها في قلب منطقة الشرق الأوسط – لن يتحول في يوم من الأيام إلى أمر مُسلم به في الذهنية العربية الواعية لما فعلته إسرائيل بنا، منذ قيامها وحتى الآن، وأن كل معاهدات السلام، ومحاولات التطبيع، ليست إلا أوراقًا سياسية سوداء وهشة، لم تتقبلها الشعوب.

في المشاهد الأخيرة من فيلم ‘الزمن المتبقي’ لإيليا سليمان، تظهر صورة للجيل الجديد من الشباب الفلسطيني؛ جيل مندمج في الحداثة أكثر من قضايا الوطن، يضع السماعات في أذنيه ويسمع موسيقى صاخبة، يعبر من أمامه الجرحى والشهداء في المستشفى، فيما هو يستمر في الصفير، لاهيًا عما يدور حوله. هكذا تأتي مسيرة (15 ايار / مايو) لتضيء على نبض جديد من الشباب الفلسطيني؛ ينضم إلى مسيرات في بلدان عربية مختلفة، يحتفي بالموت، ولا يخافه، ويتحد على الهتاف ذاته: ‘الشعب يريد العودة لفلسطين’.

  د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى