“بودابار”… رواية جديدة للكاتبة لنا عبد الرحمن
“بودابار” هو عنوان الرواية الجديدة للكاتبة لنا عبد الرحمن (منشورات ضفاف والاختلاف). يوحي عنوان الرواية بوجود حالة من صراعٍ يُخيّم على أجوائها عبر تجاور كلمتي ” بودا” و “بار”، في امتزاج روحاني وأرضي، فينتج واقعا مربكا للأبطال جميعا، يجعلهم تائهين في دوامة تحولات سريعة تحدث للمدينة ولهم، تدفعهم للسؤال عن أثر البقاء أو الرحيل. تتناول الكاتبة أجواء بيروت عام 2018 من خلال مجموعة من الأشخاص الذين يلتقون في أحد الأحياء العتيقة التي كانت تقع سابقا على خطوط التماس، وفي هذا الاختيار للمكان ما يعكس انكسارات مرحلة الحرب والسلم أيضا. فمن خلال شخصية ” دورا”، الفتاة الثلاثينة التي تختار العودة من أستراليا إلى بيروت كي تبدأ حياة جديدة، وما تواجهه في تقاطعات حياتها اليومية مع مصائر أخرى تدلف الرواية إلى عوالم مختلفة، تبدأ مع جريمة قتل واختفاء جمانة المرأة الفاتنة والغامضة بكل ما يحمله حضورها واختفائها من دلالات رمزية، ثم تحتشد الأحداث في تشابك مثير بين دورا ومروان زوج القتيلة، وبين دورا وفرح الشابة السورية الهاربة من نيران الحرب التي قتلت عائلتها في حلب، أيضا هناك لوسي الخادمة السيرلنكية التي كانت تعمل في شقة جمانة، وهيام قارئة التاروت، والطبيب السبعيني يوسف الذي لم يتخل عن مدينته. أما ديبة التي كانت تدير جماعة مسلحة وقت الحرب فإنها تتخذ من الوقائع المتغيرة حولها سُبلا أخرى لتنفيذ غاياتها.
الجدير بالذكر أن ” بودابار” هي الرواية السادسة في مسيرة الكاتبة، بعد أن صدر لها عدة أعمال روائية كان آخرها ” قيد الدرس” عام 2016، و”ثلج القاهرة” عام 2013، التي وصلت للقائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد، و” أغنية لمارغريت” عام 2010، وغيرها من الأعمال.
هنا مقطع من الرواية:
“في يوم صيفي غائم قليلا، على غير عادة شهر يوليو في بيروت، وصلت دورا إلى ” حي الأمير”. لم تتوقع أن جريمة قتل ستكون في استقبالها عند وصولها للسكن الجديد الذي اختارته بناء على نصيحة الدكتور يوسف صديق والدها. ففي هذا اليوم قيل إن جمانة قُتلت في شقتها الواقعة في الدور الرابع من مجمع “عمارات ديبة”. خلال سيرها في الشارع المضطرب من خبر الجريمة؛ تسارعت في ذهنها عدة أفكار حول هذا التزامن، لكنها واصلت خطواتها نحو الهدف الذي جاءت من أجله.
مشت دورا نحو مكتب العقارات المجاور لشجرة صفصاف كبيرة تُلقي ظلالها على الشارع. كانت ديبة تجلس خارج المكتب على كرسي صغير لا يتناسب مع حجمها الأسطواني، تُدخن الأرغيلة بأنفاس متلاحقة بينما أسعد زوجها ومساعدها الأصلع الضخم يتدلى كرشه من بين فتحات القميص ويهتز وهو يحكي لها عن جريمة القتل وهي تنصت له بتركيز شديد، فالجريمة وقعت في إحدى الشقق التابعة لأملاكها، والجثة اختفت بطريقة غامضة. زفرت نفسا طويلا كأنها تقول في سرها: “أوووف ارتحنا، ربما لو لم تمت هكذا كان علي قتلها لأخلص العالم منها”؛ ثم علت وجهها ابتسامة شاحبة حاولت إخفاء ما ورائها من أفكار، كما لو أنها تخجل من افتضاح فرحتها بقتل جارتها الشابة التي أزعجها وجودها ومجرد عبورها الشارع، ذاك المرور الطيفي الذي ينزع سلطة ديبة بهدوء شديد حين كان الجميع يتوقفون عن أداء مُهماتهم للتحديق بجمانة، من دون أن يبذلوا جهدا لإخفاء ذلك. ديبة نفسها تُدرك أنها اشتهت جمانة في لحظات سرية، اشتهاءً دفينا لا سبيل لتحقيقه، لكنها قُتلت، والشارع سيكون أكثر هدوءًا بعد رحيلها.
لم يعرف سكان الحي معلومات كثيرة عن جمانة، سوى أنها ذات جمال أخاذ، وصمت طويل، فلا يذكر أحد من السكان تبادلها أي حوار معهم إلا عبر كلمات مقتضبة، وشبه ابتسامة، وإيماءات عابرة. كانت خادمتها السريلانكية لوسي صلة الوصل بينها وبين أهل الحي، تقوم لوسي بدفع الإيجار لديبة، وتتعامل مع الناطور الذي يُحصل الفواتير، كما تتصل بالسوبر ماركت لشراء حاجيات البيت؛ لذا كان الجميع يعرف لوسي أكثر مما يعرفون ساكنة الشقة.”