لنا عبدالرحمن: “بودا بار” مجموعة من التشابكات لأشخاص غرباء
تتنوع إبداعاتها بين الرواية والقصة القصيرة والترجمة الأدبية والنقد، ورغم هذا التنوع إلا أنها لا تخلو من آثار سنوات الحرب اللبنانية ومعاناة شعبها، عملها الصحافي وحصولها على الدكتوراه في النقد الأدبي، أضافا المزيد من العمق لكتاباتها، فاستطاعت الخروج عن إطار النمطية النسوية المعهودة، واختيرت قصتها القصيرة “صندوق كرتوني يشبه الحياة” ضمن قائمة أفضل قصص من آسيا 2019.
حول مشوارها الأدبي وروايتها الجديدة “بودا بار”، أكدت الكاتبة والصحافية اللبنانية “لنا عبد الرحمن في حديث لـ”السياسة” أن “بودا بار” تتضمن مجموعة من التشابكات والتقاطعات لأشخاص غرباء، لكنهم يجتمعون في حي واحد في قلب بيروت ويحملون في داخلهم صراعات الزمن الحالي: الغربة، الحروب، الهجرة، الموت، العنف، اللجوء، الجريمة مبينة لافتة إلى أن الصدفة قد تدفع بالعمل الأدبي الى الواجهة، وفيما يلي التفاصيل:
لماذا اخترت “بودا بار”؟ عنوانا لروايتك الجديدة؟
كلمة “بودا بار” تدل على نوع من الموسيقى الغربية، من المفترض أن تكون مستوحاة من موسيقى “الزن” الشرقية التقليدية، لكن هذا غير دقيق تماما، لأن الموسيقيين الغربيين أعادوا إنتاج هذه الموسيقى مع تجريدها من روحها الأصلية، ورغم أن هذه الموسيقى جميلة ولها دلالاتها الخاصة، لكنها بعيدة عن الهوية الأساسية للتسمية، فكلمة “بوذا” ذات دلالة مقدسة عند البوذيين، وإلحاقها بكلمة “بار” يبدو متنافرا فيجمع السماوي مع الأرضي في تركيبة واحدة.
ما الذي تدور حوله الرواية؟
تقدم مجموعة من التشابكات المتقاطعة لأشخاص غرباء عن بعضهم البعض، لكنهم يجتمعون في حي واحد ويحملون في داخلهم صراعات الزمن الحالي: الغربة، الحروب، الهجرة، الموت، العنف، اللجوء، الجريمة. كلها موضوعات تُشكل كيان هذه الرواية، أما مكان الأحداث فهو مدينة بيروت في عام 2018.
بدأتِ روايتكِ بوقوع جريمة مقتل “جمانة”، فهل اتخذتِ من الحبكة البوليسية قالباً للرواية؟
ليس للرواية علاقة مباشرة بالجو البوليسي سوى أنها تبدأ مع حدث جريمة القتل، ثم تستدرج القارئ إلى مناطق أخرى تتعلق بالشخصيات وماضيها وحاضرها، بالتوازي مع إثارة أسئلة قديمة وجديدة عن مدينة بيروت وخليط الناس الذين يعيشون فيها، وفي الوقت نفسه السؤال الغامض عن القتيلة “جمانة”، ودلالة غيابها داخل النص.
ما سبب حضور الرمزية بقوة في تلك الرواية؟
بسبب التفاصيل التي فرضت نفسها بما يتعلق بتركيبة الشخصيات كلها، “دورا” التي اختارت العودة إلى بيروت، “فرح” اللاجئة السورية، “جمانة” تحديدا، المرأة الأسطورية التي تُقتل وتختفي جثتها بشكل غامض، بحيث يظل كيانها كله أشبه بطيف أو وهم.
كيف تناولتِ فيها قضايا متعددة من عمق الواقع اللبناني، بهدوء سردي ووصف سريع، خلال 150 صفحة فقط؟
لست مع الثرثرة في الرواية، خلال الكتابة أتتبع عصب النص الحي، بحيث لا أضيف جملة أحس أنه من الممكن إلغائها، وأيضا حتى لا أقع في فخ التكرار والملل.
وباء عالمي
لماذا تتخذين من قضايا الاغتراب محوراً لمعظم كتاباتك القصصية والروائية؟
لأننا في هذه اللحظة الإنسانية المفرقية نعيش في اغتراب كبير، سواء على مستوى الواقع في العالم العربي بما حدث حولنا في الأعوام الأخيرة من ثورات وحروب، أو مؤخرا منذ ظهور وباء كورونا، ووجودنا في حالة عزلة إلزامية، وضعتنا في مرآة أمام أنفسنا، وأمام الآخر أيضا، وصار بإمكاننا أن نرى عن كثب علاقتنا بالمكان والزمان وبكل من حولنا، بعبارة أخرى حدث في الحياة نوع من التجرد الذي بدا في لحظة ما مخيفا جدا لأننا محاصرون بوباء عالمي، وفي لحظة أخرى نكون فيها لصيقين بذواتنا نعود إليها نحتمي بها من الصخب الذي كان حاضرا قبل العزلة المفروضة.
ما ملابسات اختيار قصتك القصيرة “صندوق كرتوني يشبه الحياة” ضمن قائمة أفضل قصص من آسيا 2019؟
بعد أن قامت الكاتبة والمترجمة الأميركية جريتشن ماكولة باختيار هذه القصة وترجمتها إلى اللغة الإنكليزية، ونشرتها أيضا في إحدى المجلات الأميركية، وبعد ترشيحها للقصة، وقع الاختيار عليها مع اثنتي عشرة قصة أخرى لكتاب من مختلف الدول الآسيوية لتكون ضمن أفضل القصص في قارة آسيا.
خيط فضي
كيف نحوتِ للتجريب في أغلب قصص مجموعتك “صندوق كرتوني يشبه الحياة”؟
لا أجد فيها ميلاً كبيرًا للتجريب كما في مجموعتي الثانية “الموتى لا يكذبون”، في “صندوق كرتوني يشبه الحياة” هناك حضور للاغتراب الإنساني بحيث يطغى على أي أمر آخر، وعبر العلاقة مع المكان والذاكرة، والسفر والعودة، ومرور الزمن الذي لا يرحم تنفتح كل هذه التساؤلات على الذات الداخلية في كل مراحلها، من الصبا إلى الشباب والكهولة، ثم الزمن المتقدم الذي تراودنا فيه أسئلة عن العمر الذي مضى وشبح النهايات التي تقترب.
أيضا شكل الاغتراب محوراً أسياسيا في هذه المجموعة، فهل كان ذلك متعمدا؟
لم يكن الأمر مقصودا، ولم أنتبه له إلا بعد أن اكتملت المجموعة القصصية، حين كنت أعيد قراءتها، وجدت أن ثمة خيطاً واحداً يضم جميع الأبطال معاً، خيطا فضيا خفيا لا يمكن فصله، كما لا يُمكن تجاهله، هو حالة “الاغتراب” التي طفت على حياة شخوص القصص.
لماذا اخترتِ فقدان الهوية والبحث عن الانتماء ليكونا موضوع روايتك “قيد الدرس”؟
لم يكن الانتماء فيها للمكان فقط، بل مراجعة الوعي في علاقته بالهوية، الهويات تكون قاتلة أحياناً، أو منجية في أحيان أخرى حسب رؤيتنا لها، لذا يظل السؤال المؤرق في داخلنا عن حقيقة انتمائنا، إلى أي مدى نرتبط بالبلد الذي ولدنا فيه وحملنا هويته، إلى أي حد يحقق لنا هذا الانتماء تصالحا داخليا ورضا عن علاقتنا سواء مع الزمان أو المكان الذي ننتمي إليه، بل في علاقتنا مع “الأنا”، لذا قضية “قيد الدرس” هي فكرة الشتات الداخلي الذي يبدو في الوقت الراهن أنه يهدد العالم ككل.
مساحة شاسعة
ما سبب اختيارك لأسلوب “تعدد الأصوات” في السرد في هذه الرواية؟
تعدد الأصوات يمنح مساحة شاسعة للكاتب لتناول الأحداث من أكثر من وجهة نظر، خاصة إذا كانت الرواية تقدم لأكثر من جيل، وتغطي مساحة زمنية طويلة، فضلا عن أن السرد في الرواية دائري واسترجاعي، من اللحظة الآنية إلى الماضي ،ثم العودة إلى الحاضر، وهذا فرضه طبيعة الحركة السردية للأبطال.
كيف عالجتِ فكرة تناسخ الأرواح في روايتك “ثلج القاهرة”؟
لزم مني البحث لمدة عامين و الاطلاع على الكثير مما كتب عن التقمص وتناسخ الأرواح في مختلف الديانات، والاقتراب قليلا من عالم الروح، قبل أن أكتب “ثلج القاهرة”، التي أعتبرها تجربة مختلفة بالنسبة إلي، حملتني روحيا وإبداعيا وجغرافيا إلى أماكن بعيدة، وجعلتني أقع في غواية قراءات ومشاهدات وارتحالات كثيرة، كي أصل لمرادي وهو كتابة هذا النص والتحرر منه.
وفي هذه الرواية قدمت حكاية بطلتها “بشرى” البنت الدمشقية التي ترجع مع أمها إلى القاهرة، ثم تجد نفسها منجذبة إلى واقع آخر في زمن مضى، لذا تمضي خلف ذاكرتها بحثا عن مبرر لكل الصور التي تراها عن حياة “نورجهان” الأميرة المصرية التي عاشت حياتها بين مصر واسطنبول ثم ماتت في ظرف غامض.
لماذا جعلت مصائر أبطال رواية “تلامس” تراجيدية تقف بين حواف الحياة والموت، أو الجنون والانتحار؟
في هذه الرواية هناك خوف من الجنون تعاني منه بطلة الرواية “ندى”، إنها تخاف أن تلقى مصير عمتها المجنونة ويتم وضعها في مصح للأمراض العقلية، من هنا تكون هذه التراجيدية التي ذكرتها، في هذا التأرجح الذي يصعب التحرر منه.
كيف جمعت بين الذاتي والمتخيل واليومي المعيش في مجموعتك القصصية “الموتى لا يكذبون”؟
مضى وقت طويل على كتابة هذه المجموعة ، ما أذكره من القصص أنها أخذت منحى غرائبيا في بعض منها، لأنها تحكي عن أبطال واقعيين جدا، لكن ما يحدث معهم لا ينتمي للواقع، فلا يمكن نفيه أو إثباته أبدا.
الدلالات الروائية
ما أبرز الدلالات الزمانية والمكانية التي تناولتها في كتابك “نظرة أخرى.. الروائي والمخيلة والسرد”؟
هذا الكتاب مجموعة من الأبحاث تضمنت قراءات نقدية في روايات عربية، تناولتُ في كل منها تيمة معينة بما يتواءم مع الرواية المختارة، فيما يتعلق مثلا بسؤالك عن المكان فقد تناولت دلالة المكان الروائي في رواية “سيدات القمر”، وذلك قبل فوز الرواية بجائزة البوكر العالمية.
وتناولت أيضا الذاكرة والتاريخ في رواية بيت الديب لعزت القمحاوي، ودلالات الثورة والهزيمة في روايات نجيب محفوظ، وأبحاث أخرى من ضمنها بحث عن الروايات التي ناقشت قضية الإرهاب والعنف في خطابها.
أوهام شرقية
كيف تجاوزتِ النمطية النسوية المعهودة في مجموعتك القصصية “أوهام شرقية” رغم معالجتها لبعض القضايا الحساسة التي تهم المرأة؟
لا أعرف ما المقصود بالنمطية النسوية، لكن “أوهام شرقية” كانت مجموعتي القصصية الأولى التي قدمت من خلالها مجموعة من النماذج الاجتماعية لنساء ورجال يتعرضون للقمع يواجهون اغترابهم الداخلي بطريقتهم الخاصة، التي تتضمن في كثير من الأحيان تلاشيهم التام في إطار الصورة التي يريدها لهم المجتمع، من دون الانتصار لذواتهم الداخلية.
ذاكرة الحرب
لماذا تبدو الحرب اللبنانيّة حاضرة بقوة في أعمالك الأدبية؟
حسب رأيي أن ذاكرة الحرب من الصعب التحرر منها بالنسبة لأي إنسان بل ولأي كاتب عايش لحظاتها، لأنها تطل برأسها المفزع الذي نحاول التخلص منه عبر الكتابة، من هنا ربما يكون الكاتب محظوظا في تلقيه هبة الكتابة التي تساعده على التحرر من ذاكرته المثقلة بالألم، لكن في النتيجة تظل فكرة النص الجوهرية والأساسية هي التي تحدد ما سيتم تناوله، ففي روايتي “ثلج القاهرة” لم أتحدث عن الحرب أبدا، بل إن أحداثها تدور بين القاهرة ودمشق وإسطنبول، لأن موضوعها الرئيسي لم يكن الحرب، بل فكرة الحيوات السابقة التي تطل في ذاكرة البطلة.
برأيك كيف تمكّنت الرواية العربية من بناء تواجدها الأدبي متجاوزة الفنون النثرية الأخرى؟
هناك تراجع للفنون النثرية الأخرى في مقابل حضور الرواية، هذا صحيح فعليا، ربما لأن الرواية أصبحت تحتوي سائر الفنون وتمكنت من تقديمها بلغة تارة شعرية وتارة سردية، لكن في الوقت نفسه لا أرى في تراجع القصة القصيرة أو الشعر دلالة صحية أيضا، لأننا نحتاج إلى قراءة الشعر والقصة والمقالة الأدبية، كل هذه الأنواع يجب أن تتلاقح وتتفاعل فيما بينها لتقدم الأجمل.من المهم بالنسبة للمبدع أن يدرك الهوى الداخلي الذي لديه في أي فن إبداعي، لا الاندفاع نحو الرائج في هذه المرحلة، وكثير من الروايات ليس فيها نسيج سردي متماسك، على مستوى الحبكة والأسلوب واللغة، وكانت تنفع أن تكون قصة قصيرة أكثر منها رواية، لكن كاتبها اختار لها القالب الروائي لأن الزمن هو زمن الرواية.
زمن الرواية
هل تتفقين مع كوننا في زمن الرواية؟
من المؤكد أن الرواية جنس أدبي استطاع أن يصهر في داخله مجموعة من الأجناس الأخرى، لكن تركيز دور النشر على طباعة الروايات أضر مثلا بالقصة القصيرة والشعر وكتب النقد، دور النشر تبحث عن الروايات لأسباب نفعية تتعلق بالمبيعات والجوائز، هذا ليس في العالم العربي فقط، بل على المستوى العالمي ككل.
ما الذي أضافه حصولك على الدكتوراه في الأدب إلى إبداعك؟
رسالتي في الدكتوراه كانت عن دلالة الجسد في السيرة الذاتية في روايات المرأة وتناولت الرواية اللبنانية نموذجا، مما أتاح لي العمل على نصوص لكل من حنان الشيخ وإلهام منصور، ومنى جبور، بالنسبة لي أرى أن أي معرفة تنصهر لتصب في رافد الإبداع.
كرنفال ضخم
بصفتك ناقدة ومبدعة كيف تقيمين المشهد الأدبي العربي الراهن عامة؟
من الصعب تقييمه ككل، لأن المشهد أصبح متسعا أكثر بكثير مما يمكن الإحاطة به، وهذا يعود لوجود عدة محاور في هذا المشهد، كلها لها حضور ينافس بعضهن فالبعض يحضر من خلال المهرجانات والمؤتمرات والجوائز الأدبية والثقافية، وقسم آخر يحضر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ويحقق انتشاره عبرها، وقسم ثالث اختار التفاعل الجماهيري ونشر فصول من رواياته هنا وهناك وفضل إقامة ندوات حولها في عدة أماكن، فيما قسم رابع فضل الابتعاد والعزلة والاكتفاء بحضور نصه بدلا عن حضوره الواقعي أو الإلكتروني.
والجوائز الأدبية، تساهم في تصعيد العديد من الأسماء إلى واجهة المشهد الأدبي في كل عام، وفي الحقيقة أن ثمة روايات كثيرة ومجاميع قصصية جيدة جدا لا يسمع بها إلا قلة من الأشخاص في دائرة صغيرة لأنه لم يتم الترويج لها جيدا، ولم تصل لأي جائزة. وفي هذا الكرنفال الضخم للأدب هناك وجهان للأمر، أحدهما هو أن نبتهج لوجود كم كبير من الإصدارات، والآخر أن لا نراهن على الزمن في أنه سيغربل الأعمال الإبداعية الجيدة ليستمر حضورها، بل البحث بشكل فردي عن الأعمال الجيدة، لأن الإصدارات الجديدة بسبب كثرتها تعلو على الأقدم، وينبغي على الناقد أو القارئ أن يبحث بنفسه عما يشبع فضوله، أكثر من أن يتكل على ما يصدره الإعلام له من أعمال أدبية هي في النتيجة تخضع لذائقة لجان التحكيم في اختيارها، أضف إلى كل هذا وجود ما يسمى عنصر “الصدفة” الذي من الممكن أن يدفع بعمل أدبي إلى واجهة الإصدارات، والمقصود هنا بعنصر الصدفة أن يأتي الإنصاف لعمل جيد من جهة غير متوقعة، كأن يُترجم أو يحصل على جائزة من الخارج فتفرض حضوره على المشهد العربي.
أخيراً.. هل من أعمال جديدة لكِ تعكفين على كتابتها أو تستعدين لنشرها؟
أعمل على كتاب في أدب الرحلات، وكتاب آخر مقالات أدبية عن تقاطعات الكتابة والحياة.
القاهرة : آية ياسر
السياسة الكويتية