لعنة الأكثر مبيعا

 

غابت عن الكاتبة التشيلية ايزابيل الليندي وهي تكتب روايتها الأخيرة “ما وراء الشتاء”، تلك الروح الشاردة الحرة التي كتبت بها رواياتها المؤثرة مثل: “بيت الأرواح” ،”صورة عتيقة” ،”ابنة الحظ”، وغيرها من الروايات. الروائية التي تمكنت من سرد تاريخ بلدها “تشيلي” من خلال حكايات بطلاتها النساء ومزج التاريخ بالواقعية السحرية وقصص الحب القوية والجرأة في البوح والمكاشفة، ابتعدت عن ملعبها الأساسي لتنتقل لأماكن أخرى بدت خطواتها متعثرة خلالها.

هذا الاحساس الذي تسلل عقب انتهاء قراءة “ما وراء الشتاء”، كان له صدى سابق مع روايتها ” العاشق الياباني”؛ تخلت الكاتبة في كلا العملين عن كل ما ميز أعمالها السابقة، وهذا ليس عيبا في حد ذاته ، ربما يكون من الضروري للكاتب أن يغير جلده ويفاجئ قراءه، وهذا ما فعلته الليندي من قبل حين كتبت ” زورو” و “مدينة البهائم”، وهي تجنح للرواية الفانتازية، لكن لم يكن في ذاك الجنوح أي انفعال تطغى عليه الثرثرة ويغيب عنه المسوغ الفني.

ما الذي فعلته الليندي في “ما راء الشتاء”كي تستحق هذا الكلام؟ ببساطة قامت الكاتبة الذكية بإعداد رواية تحاكي جميع الأذواق، الفقراء، الأثرياء، المهاجرين إلى أميركا والأميركين ، اليهود، المثلين، المؤمنين بالمثل الروحية، الملحدين والمحايدين نحو الأديان وسائر المعتقدات، الثورين والمحافظين، التائهين الذين أمضوا شطرا من عمرهم بين الثمل والمخدرات، والمكافحين من أجل الحياة ، ولم تكن هذه الخلطة من قبيل الصدفة،لأن الجمع بين هذه التركيبة من الممكن أن تتواجد فعلا على أرض أميركا، مسرح أحداث الرواية، لكن من العسير قبولها وهضمها في عمل ابداعي من دون وجود شبهة الافتعال، سواء في الأحداث أو من جانب اختيارات الأبطال ومواقفهم ، أرادت الكاتبة أن تضفي على روايتها طابع المغامرة مستندة على أسلوب التشويق، إلا أنها وقعت في فخ اللامنطقية، والأحداث غير المبررة.

وبعيدا عن الخوض في مضمون الرواية التي تحتاج مقالا منفصلا،ربما ينبغي القول أن غياب روح الاغتراب عند بعض الكتاب، والإحساس بالاستقرار والانتماء لابد أن يحمل معه ضريبة ما، حيث لا شيء يمكن الحصول عليه من دون خسائر. قالت ايزابيل الليندي في أحد حواراتها الأخيرة أنها تشعر بالاستقرار في أميركا وأنها لن تغير مكانها أبدا، بعد أن مرت بخمس سنوات عصيبة، من المعروف لقرائها أنها انفصلت عن زوجها المحامي والكاتب ويلي غوردون بعد قصة حب وعلاقة زواج طويلة ، لكن الكاتبة الشجاعة وضعت حدا للعلاقة المستنزفة لأسباب لم تكشفها حتى الآن، رغم أنها كانت شديدة الصدق والشفافية حين كتبت مذكراتها “حصيلة الأيام” لتحكي عن علاقتها مع زوجها ومع أسرتها كاشفة أدق التفاصيل، وربما كان من المنتظر صدور نص آخر يوازي تلك الشفافية البديعة. لكن كل ما صدر لها بعد تلك المذكرات لم يكن في موازاتها لا على المستوى الفني ولا في الصدق الابداعي.

ثمة مشهد في “حصيلة الأيام”، أذكره جيدا حين تعترف الليندي أنها أحست لوهلة ما أن بئرها الداخلي قد نضب، وتقرر حينها القيام برحلة إلى الهند ، وفي رواية ” ماوراء الشتاء” يبدو أن الاحساس بالنضوب طغى عليه الرغبة بالتواجد، فقد اعتادت الكاتبة البدء بعمل جديد في يوم الثامن من يناير مطلع كل عام.

لكن ماذا لو لم يأت الإلهام، هل يحق للكاتب أن يجره جرا للقدوم؟ أو ماذا إن أتى ناقصا، وليس في حلته الأبهى، والكاتب يدرك في أعماقه أن نصه الجديد فيه ثغرات لا تخفى على قارئ غير متخصص ؟! هل إغراء وجود كتاب في السوق وتحقيقه مبيعات عالية يكون غالبا أقوى من التريث لإعادة النظر في العمل الإبداعي؟

لنا عبد الرحمن

زر الذهاب إلى الأعلى