جوناس حسين خميري يبهر السويديين بحكاياته العربية

روايته "الشرط الأبوي" الفائزة بجائزة ميديسيس تتمرد على روابط الأسرة

 

                                 الروائي السويدي التونسي الأصل جوناس حسين خميري (دار أكت سود)

 

ما الذي يحدث حين يواجه الأبناء آباءهم بنقائصهم؟ أو حين يقرر الابن في لحظة تمرد جريئة قطع ذاك الرابط الأبدي مع الأب؟ أو أن تقوم الابنة بالتحرر من القيود التي تُكبلها وتختار أن تحيا بالطريقة التي تريدها؟

تنبثق هذه الأسئلة أمام قارئ رواية “الشرط الأبوي” للكاتب السويدي جوناس حسين خميري، التونسي الجذور الذي يُعتبر من أهم كُتاب السويد المعاصرين، وقد حازت روايته هذه على جائزة ميديسس في فرنسا، عن فئة الرواية الأجنبية لعام 2021.

في سرد سلس ومؤثر في عمقه وسخريته، يقدم خميري مراجعة عميقة لمفهوم العلاقة مع “النظام الأبوي”، بالتوازي مع فكرة الرغبة الشديدة بالتمرد عليه، لكن يظل التصريح بهذه الرغبة مكبوتاً ضمن انتقادات اجتماعية ساخرة تُعيد النظر في العلاقات بين أفراد أسرة واحدة، تمور داخل كل فرد منها مجموعة من التناقضات والإحباطات والرغبات، مع غضب داخلي كبير مسكوت عنه، استمر حضوره من الماضي إلى الحاضر.

 رواية “الشرط الابوي”  (دار أكت سود)

كتب خميري هذه الرواية متأثراً بعلاقة والده مع جده، فقد كان قدوم الجد من تونس إلى السويد كافياْ لأن  يقلب الحياة رأساْ على عقب، إذ تعود الذكريات المؤلمة لتطفو على السطح. تبدو الأسرة التي يحكي عنها خميري عادية جداً في الظاهر، لكن في جوهرها يوجد شروخ كثيرة  تتجلى في التفاصل التي تدور بين الأهل بعد حدوث أكثر من مأساة عائلية: موت ابنة في ظروف دراماتيكية، ثم تخلي الأب عن أسرته، أما الابن فقد اختار الاستقرار وتكوين أسرة في السويد بعيداً عن سلطة الأب، كذلك الابنة الثانية تختار أن تعيش وفق نموذج الحياة الغربية، أما الأم فإنها تُطالب ابنها بمبلغ بسيط من المال دفعته له من قبل لشراء أنبوب فيه مرهم الصبار. هكذا يتم إلقاء الضوء عبر مشاهد سردية واضحة على طبيعة الصلات التي من المفترض أن تكون وطيدة، لكنها ليست كذلك أبداً، لأن الحضور المادي في التواصل بين الآباء والأبناء أكثر بروزاً من الوشائج العاطفية والمعنوية العليا.

عشرة أيام

تنقسم الرواية إلى عشرة فصول، وتدور أحداثها ضمن عشرة أيام، منذ لحظة وصول الجد من تونس، في زيارة لابنه وابنته. وفي حقيقة الأمر إنها ليست زيارة عادية تتكرر كل عدة سنوات، بل زيارة إلزامية لأن الجد مجبر على القدوم كل ستة أشهر من أجل تجديد أوراق إقامته في السويد، وينبغي للابن استقباله ومساعدته على إنجاز المهمة.

انطلاقاً من هذا الحدث يلاحظ القارئ لعبة تبادل الأدوار التي تحضر سريعاً، إذ تقدم الرواية ثلاثة أجيال: الجد، الأبناء، الأحفاد. يلتقون جميعاً تحت سقف واحد وتبدأ عملية استعادة الماضي بكل ما فيه من جراح قديمة تتجدد ذكراها مع الحضور الجسدي للأب المهيمن على حياة أبنائه. يصف الكاتب هذه الشخصية في أحد حوارته قائلاً: “أثناء الكتابة، بدأت أفهم عزلة الأب وأيضاً ألمه. يُمضي وقته في التساؤل: هل أخطأت؟ لقد حولتُ شخصية اعتقدت في البداية أنها طريفة بعض الشيء، إلى شخصية أكثر واقعية”.

    الرواية بالأصل السويدي (أمازون)

لا يمكن إغفال الجانب النفسي الغائر الذي يُميز هذه الرواية، إذ يتخذ الكاتب من حدث اجتماعي أو مجموعة أحداث وسيلة للتبئير عميقاً في دواخل أبطاله الذين ظلوا جميعاً من دون أسماء وكأن هذه الحكاية هي حكاية العديد من الأسر في أزمنة وأمكنة مختلفة، يسميهم “الأب الجد” و “الأب الابن” والابنة يقول عنها “الأخت”، أما الأم فيسميها “الأم الشجاعة”. يتجلى الجانب النفسي في الصراع الذي يدور داخل ذهن الشخصية المحورية “الابن”، ورغبته في التمرد على سلطة  أبيه، فالعلاقة بينهما ليست عميقة أبداً لأن الأب تخلى عنهم في الطفولة، وقامت الأم برعايتهم. لذا ظل “الابن”، حانقاً على الأب الذي يحمل عدة صفات مزعجة، فهو أناني ومتسلط وساخط ويفرض قدومه إلى استوكهولم والإقامة مع ابنه في بيته.

يرى الابن أنه فعل كل ما يُمكن فعله نحو أبيه وليس عليه أن يُقدم المزيد. في مقابل هذا يعتبر الأب أن من واجب ابنه استضافته ومساعدته مادياْ ومعنوياْ، لأن هذا يدل على نجاح الابن في حياته ومهنته. لكن المفارقة هنا تكمن في أن “الابن” لديه  معاناته الشخصية في العمل  ومع أبنائه، إذ تقع عليه تربية طفلة في الرابعة من عمرها، وطفل ما زال يحبو؛ لأنه في “إجازة أبوة” ومكلف بالبقاء في البيت ورعاية الأطفال، بينما والدتهم هي التي تعمل وتعيل الأسرة. من هنا يكون قدوم “الأب” في زيارة نصف سنوية هاجساً مزعجاً يسبب تشويشاً للابن الذي لا يمكنه تناسي الديون التي سوف تُثقل كاهله بعد سفر “الأب”. هذه الأعباء المالية تحضر مع إحساس مؤلم للغاية داخل الابن لقناعته بأن والده لم يحبه أبداً. وعلى رغم هذا الاحساس ما زال الابن يرغب في أن يكون محبوباً من الأب، وهذه الرغبة الدفينة  تجعله يكره نفسه لأنه لم يتحرر من هذا الاحتياج العاطفي. لذا سعى الابن طوال حياته أن يمضي في اتجاهات مناقضة لسلوك الأب، يسافر بعيداً، وينجب أطفالاً ويعتني بهم، ويحاول جاهداً أن يكون أباً مثالياْ مخافة تكرار مأساة ما فعله الأب بهم، حين تركهم ومضى. يقول الابن في لحظة مواجهة مع أبيه: “أنت دمرت كثيراً من الأشياء، لكني لم أصب بالدمار الذي يجعلني أهجر عائلتي، كما فعلت أنت معنا، لذا ينبغي علي أن أشكرك”.

شرق وغرب

على مدار الفصول يعطي الكاتب مساحة متوازنة لأبطاله، فلا يطغى سرد أحدهم على الآخر، بل من الممكن أن يُحكى الحدث نفسه من أكثر من وجهة نظر، ما يمنح الرواية عدة أبعاد في التلقي. يدرك “الجد – الأب”، أنه فقد سلطته على أبنائه، هذا يتضح أكثر مع شخصية ” الابنة” التي عرف أنها حامل بطفل من رجل تحبه، من دون زواج، وهذا بالنسبة له كارثي ولكن ليس بمقدوره فعل شيء، إذ لا سلطة له عليها في “استوكهولم”.

     الرواية بالترجمة الإنجليزية (أمازون)

أراد جوناس خميري في “الشرط الأبوي” أن يكتب عن دلالات سوء الفهم وكيف يؤدي إلى نزاع فادح داخل أسرة واحدة. جمع خميري بين اتجاهين من  التفكير مختلفين تماماً، هما نتاج الانتماء الاجتماعي والمكاني؛” فالأب – الجد” القادم من تونس يجسد طبيعة العلاقات العائلية الشرقية بنموذجها البطريركي الذي يجعل من حق الأب، كبير العائلة، أن يمارس سلطته بحرية شبه مطلقة، بل وأن يفرض على أبنائه مشيئته أياً كانت. فالأب هنا الذي هجر أطفاله وهم صِغار تاركاً مسؤوليتهم على عاتق الأم، لا يجد غضاضة في أن يستضيفه ابنه ويقدم له كل المساعدات الممكنة. في الجبهة الآخرى هناك “الابن” وأطفاله الذين ينتمون الى المجتمع الغربي حيث لا نظام بطريركياً يجب عليهم الامتثال له.

يُمثل هذا الجانب النواة الرئيسية للرواية، في الصراع الدائر داخل ذهن “الابن” ورغبته الشديدة في التخلي عن الأب وتركه ليواجه مصيره بنفسه. وبالتوازي مع هذه الأفكار، يعاني الابن أيضاً من إحساسه بالعبودية نحو أبنائه، لأنه مسؤول عن رعايتهم طوال الوقت، فعليه الاستيقاظ عند الفجر كي يجهز ابنته للذهاب إلى المدرسة، وعليه أن يُقلها في العودة، ويستمر في تنبيهها للأخطاء التي تفعلها، ويستحمل نوبات غضبها حين تصرخ في وجهه ” كلكم قبيحون، أنا أكرهكم”. وفي المساء عليه تجهيز العشاء خلال أقل من ساعة، يكون فيها المطبخ في حالة حرب، ثم يأتي وقت النوم والمشهد المألوف قراءة القصة والعناق. لكن هذا ليس كل شيء، إذ بعد ساعتين سوف يستيقظ الطفل الصغير ويبدأ في نوبة من البكاء. يعاني الأب الشاب أيضاً من عدم استقرار مهني، قام بعدة محاولات للعثور على عمل مستقر، جرب الكتابة والموسيقى والمشاركة في إقامة معارض لكنه لم ينجح، كل هذه الضغوط جعلته يعيش في جسد فاقد للحماسة والبهجة نحو الحياة. لا يهتم الأب في معرفة كل هذه التفاصيل عن ابنه، لأن كل ما يعنيه هو اتمام المهام التي يريد إنجازها خلال الزيارة.

أراد الكاتب عبر هذه الرواية العميقة والمضطربة، التي لا تخلو من حس السخرية، أن يطرح أسئلته وتصوراته حول معنى أن تكون والداً صالحاً، وما هو الدور الذي ينبغي على الآباء فعله كي يحولوا دون سوء الفهم مع أبنائهم. ثمة فكرة جوهرية أيضاً تتعلق بالفردية، وضرورة وضع الحدود أحياناً مع أقرب الناس إلينا دفاعاً عن حياتنا وأحلامنا. ففي العائلة التي يحكي عنها، وفي كل عائلة تتغير الأدوار بمرور الزمن. يقول : “طوال الحياة فعل الابن كل ما طُلب منه، طوال حياته الدامية نفذ كل ما قيل له. لكنه يظن  أنّ الأوان آن لتغيير كل هذا. أمسك القلم، ود لو بإمكانه الكتابة: هذه هي المرة الأخيرة التي يبقى فيها الأب هنا، لكنه  بدلاً من ذلك  كتب: “مرحباً يا أبي. أتمنى أن تكون قد حظيت برحلة جيدة”.

الجدير ذكره أن الكاتب جوناس حسين  خميري، الذي ولد عام 1978 لأب تونسي مهاجر وأم سويدية صدرت له  خمس روايات وست مسرحيات ومجموعة من المقالات والقصص القصيرة، واستطاع أن يفرض حضوره القوي في الساحة الأدبية في السويد حين حصل على جائزة أغسطس للأدب في عام 2017، ثم انطلق عالمياً لتُترجم أعماله لأكثر من ثلاثين لغة وحصل أيضاً على جوائز أخرى. يتناول في أعماله السابقة فكرة الانتماء والذاكرة والارهاب، ومنذ روايته الأولى “عين واحدة حمراء” التي صدرت في السويد عام 2004 حظي خميري بنجاح كبير، ما جعل روايته ضمن قائمة “الأكثر مبيعاً”، كما تم تحويلها إلى فيلم سينمائي حمل الاسم نفسه.

لنا عبد الرحمن

www.independentarabia.com

زر الذهاب إلى الأعلى