باتريك موديانو يعيد اكتشاف ذاكرة الطفولة المضطربة

الفرنسي الحائز نوبل يرثي الأمكنة التي تتغير مع أزمنتها وناسها

 

                                                الروائي الفرنسي النوبلي باتريك موديانو (غيتي)

 

تشابك الذكريات البعيدة، عتمة الحنين، غواية الشغف، ضباب الأماكن، الأشخاص الذين رحلوا تاركين مكانهم شاغراً في الداخل، الشوارع التي بهتت وشاخت ملامحها. كل هذه التفاصيل المجتمعة تشكل معالم الكتابة لدى باتريك موديانو، داخل حبكات مرسومة في الهالة التي تخلقها الرواية، مع العودة الأبدية للماضي الزائل، كما لو أنه ساحر يقوم دائماً بالخدعة السحرية نفسها كل مرة.

“شيفروز” هو عنوان رواية موديانو الصادرة حديثاً عن دار “غاليمار”، وهو أيضاً اسم البلدة التي عاش فيها الكاتب سنوات طفولته، التي تقع في وادي شفروز جنوب غربي العاصمة الفرنسية.

ومثل سائر رواياته الأخرى يعود الكاتب النوبلي لاستدعاء الذاكرة على الطريقة “الموديانية”، في تجوال ممتد حول ذكريات غير دقيقة وأجواء غامضة يندمج فيها الواقع بالخيال، مع استدعاء لتفاصيل صغيرة مضت، بحيث شبه بعض النقاد سرد موديانو بالسرد البروستي من حيث التدفق في تذكر الماضي واستعادته.

نجد في الرواية صدى لحكاية موديانو نفسه وتنقلاته بين غرب باريس وشيفروز، وهذا يمكن ملاحظته في معظم رواياته، حيث يمتد خيط الذاكرة المراوغة لتشغل معظم أعماله، حتى إن بعضهم يأخذ عليه التكرار وإعادة الحكايات والشخوص نفسها في شكل مختلف، وهذا نجده أيضاً في هذه الرواية مع حضور شخصيات وأسماء ظهرت من قبل في أعمال موديانو، وفي حضور تفاصيل تنتمي إلى زمن مضى، مثل الأغنيات التي يبثها الراديو والحديث عن شبكات الهاتف القديم قبل ظهور الهواتف المحمولة والحوانيت الصغيرة والشوارع القديمة المظللة بالأشجار السامقة.

  غلاف شيفروز الرواية الفرنسية (دار غاليمار)

غالباً ما تحدث موديانو عن رواياته بأنها قادمة من الأحلام أو الكوابيس، ومن شأنها أن تعيد إلى ما لا نهاية مشاهد من الماضي وأجواءه المحتشدة في الداخل، ثم عبر الكتابة تحدث إعادة ترتيب الأحداث بشكل مختلف في كل مرة، لكن في رواية “شيفروز” تحديداً ثمة ملمح ينتمي إلى سيرة موديانو أكثر من أي رواية أخرى له، على الرغم من حضور تقاطعات وأسماء من أعمال سابقة، إلا أن الاقتراب من الماضي يتخذ شكل “السيرة” هنا، بداية من عنوان الرواية وهو المكان الذي أمضى فيه الكاتب طفولته وجزءاً من شبابه. يقول “ما لا يتلاشى هو الذكريات والطريقة التي نجد بها الزمان والأماكن المدفونة، ولا يتطلب الأمر سوى بعض التفاصيل الصغيرة مثل ساعة أو بوصلة أو اسم مكان أو نغمة أغنية، مقصورة في قطار، غرفة خلفية مظلمة حتى يظهر الماضي بكل وضوح”.

شباب الستينيات

تتركز الأحداث في “شيفروز” حول عام 1966، وينقسم الزمن إلى ثلاث مراحل، الطفولة، الشباب، واللحظة الآنية التي ينطلق فيها السرد. بعد مرور أكثر من 50 عاماً يعيد البطل “بوسمان” اكتشاف الأماكن والأشخاص ضمن حيز مراجعة عميقة للذاكرة. البطل يشبه موديانو في وجوده مع أخيه الأصغر في البلدة البعيدة الباردة تحت رعاية مجموعة من النساء اللواتي عهد لهن من قبل الأبوين بتربية الطفلين. يحاول الطفل معرفة ما كان يحدث، فالأب والأم غائبان بعيداً، وحين يأتي الأب في زيارة يتصرف كشخص غريب تغيب عنه الحميمية والدفء.

هكذا نجد إحساساً بالوحشة والاضطراب يخيمان على البطل “جان بوسمان”، هذه الشخصية التي ظهرت من قبل في روايته “الأفق”. تظهر أيضاً كامي الفتاة التي أحبها البطل والتي تساعده في مواقف عدة ضد مجموعة من الأشقياء كانوا يهددونه، وكذلك صاحبة فندق “شاتام” التي ظهرت في روايته “سلالة” تعاود الظهور في هذه الرواية، وفي بيت شيفروز قيل إن هناك أشباحاً تختفي داخله، وكان على بوسمان مواجهة هذه المخاوف والتحرر منها.  في شبابه كان كتاب “بوسمان” المفضل وكذلك موديانو هو “فن الصمت”، هذا الكتاب الذي تأثر به ويعتبر أنه عايشه طوال حياته، ليس لأنه قليل الكلام فقط، بل لأنه في طفولته لم يستمع إليه أحد.

يتتبع صاحب “مقهى الشباب الضائع” تحولات جغرافيا الأماكن وتحولاتها، فليس البشر من يتغيرون فقط، بل الأماكن أيضاً لا تظل على حالها. يقول “في ذاك الوقت لم يتوقف عن السير في شوارع باريس، في ظل أضواء أعطت الناس والشوارع التي يمر بها لمعاناً فسفورياً مشعاً، لكن شيئاً فشيئاً مع تقدمه في السن لاحظ أن الأضواء تتضاءل وتعيد البشر والأشياء إلى أحجامها وألوانها الحقيقية، الألوان الباهتة للحياة اليومية. أخبر نفسه أن انتباهه كمتفرج ليلي قد تضاءل أيضاً. لقد تغير هذا العالم وهذه الشوارع لدرجة أن كل هذه الأماكن المتغيرة لم تعد تعني شيئاً بالنسبة إليه”.

لعبة المرايا

بطل الرواية جان بوسمان يتلمس طريقه مثل عالم آثار تحجب اكتشافاته المتتالية الصورة كاملة، وتتداخل الحقيقة مع الحلم، وفي هذا الفضاء المضبب تظهر شخصيات أخرى وتختفي، فبوسمان أضاع البوصلة التي حصل عليها في المدرسة الداخلية. يذكر موديانو نفسه في أحد حواراته أنه تم وضعه في مدرسة داخلية من عام 1956 إلى عام 1960، هذا المكان الذي لا يمكنه نسيانه.

تشكل الطفولة المضطربة مع غياب الأب والأم والحياة مع غرباء بغيضين، جرحاً غائراً يبدو من الصعب الشفاء منه. موديانو لم يتمكن من عبور هذه الطفولة لذا يعود إليها في كل مرة ويمضي نحو البيت القديم ليتأمل تفاصيله، ويتذكر الطفل الذي كان يجلس في تلك الزاوية، الطفل الذي يشبهه تماماً، يتفقد ذاك الطفل مع ملاحظة “أن عقارب ساعة يده قد توقفت”، إنه تشبيه مثالي معبر جداً.

يتحدث موديانو عن الأماكن بأسلوب شعري دامجاً بينها وبين الأحاسيس المضطربة التي تتكرر مع فصول السنة. في الشتاء يتخيل الراوي أن “شيفروز” هي من أكثر الأماكن التي تتساقط فيها الثلوج، ربما أكثر من أي مكان آخر، ويقول “لقد تغير المشهد كما لو أنه عبر الحدود إلى مكان آخر، في كل مرة سلك فيها الطريق نفسه من باريس وبورت دوتويل، سيشعر بالإحساس نفسه، الانزلاق إلى منطقة باردة جداً”.

رواية موديانو هذه عبارة عن دوامة لا نهائية تعود بلا انقطاع إلى ركيزتها الأولى، “الطفولة”، ربما لأن صاحب “ساحة النجمة” لم يتحرر فعلاً من عذابات تلك المرحلة ولم يتجاوزها أبداً كي يمضي نحو مواضيع أخرى تتعلق بسائر مراحل حياته، لذا يظل ثمة سؤال يحضر عند الحديث عن موديانو: ما الذي من الممكن أن يكتبه بعد الآن، بخاصة وأن نص “شيفروز” بدا أكثر التحاماً وقرباً مع الرواية السيرية؟ لكن في النتيجة ربما يكتب موديانو عن الذاكرة بهدف واحد هو “النسيان”.

لنا عبد الرحمن 

www.independentarabia.com

زر الذهاب إلى الأعلى