بودا بار .. عزف جديد على لحن الهوية

تمنح الكاتبة اللبنانية “لنا عبدالرحمن” أول فصول روايتها “بودا بار”، الرقم (صفر) وتميز شكله الطباعي عن بقية فصول الرواية باستثناء الفصل الأخير، وكأنهما معا يشكلان إطارا لأحداث الرواية، لكن هذا الفصل الصفري ليس بعتبة زائدة، يتحدث الراوي في مفتتحه عن بيروت، يقول: “هذه المدينة محكومة بعتمة مغوية، تؤدي بكل من يحيا على أرضها إلى إدراك أنها مدينة البُقع المتجاورة”. في ظل هذه العتمة تعود دورا المهاجرة إلى بيروت في يوم استثنائي، فاليوم صيفي غائم على غير عادة شهر يوليو في بيروت.

سكان الحي لا يعرفون الكثير عن جارتهم القتيلة، هي فقط شديدة الجمال، ميالة للصمت، كانت خادمتها السريلانكية لوسي هي الصلة بينها وبين أهل الحي، لذا كان الجميع يعرف لوسي أكثر مما يعرفون ساكنة الشقة.حتى الذين عرفوا جمانة يصفونها كوصف العميان للفيل، فزوجها مروان يصف جمالها بأنه: ” جمال مُستباح مثل حرير سخي يثير طمع التجار”، بينما تتوقف صديقتها بتول أمام عشقها لرجال غريبي الأطوار، ومع حسون الأبله كانت فارعة القامة، والمعلم ناصف يصفها بأنها تدفع للفتنة، وهكذا الوزير ورجل الثلج والرجل الضفدع، كلهم يرونها من الخارج  ويلمسون جزءا منها، ولا يرسم أي منهم صورة متكاملة لها، لا نعرف من قتلها ولماذا؟ ولا أين اختفت جثتها، ويظل الأمر لغزا مع تنازل الراوي العليم عن سلطة الحكي للقاتل في آخر فصول الرواية، حتى القاتل لم يكن يعرفها، كان مجرد أداة تم استخدامها في لعبة القتل، هو واحد من ضحايا الحرب فقد ابنه وزوجته فلم ير في جمانة إلا مجرد جثة تضاف إلى الجثث.

وتنتهي الرواية دون أن تكشف عن هوية الجناة ولا لماذا قتلوها وأين أخفوا جثتها؟ هكذا تجعل الرواية من جمانة معادلا للمدينة نفسها، وقد صرحت بذلك حينما قال مروان زوج القتيلة “كم تشبهين هذه المدينة، عشاقك كثر وأحباؤك قليلون”،  فهي ليست مجرد امرأة تعرضت للقتل،  بل هي مثل المدينة الجميلة المرغوبة المشتهاة التي يتمناها الجميع ولا يتورعون في ذات الوقت عن قتلها.

بودا بار

يذكر عنوان الرواية “بودا بار” بنوع من الموسيقى الشرقية القديمة “موسيقى الزن” المرتبطة بالديانة البوذية، وهي موسيقى تشجع على التأمل، وقد استوحاها موسيقيون غربيون لكن فرغوها من مضمونها الروحي وأكسبوها صخبا أفقدها هويتها، فكشفت عن تناقض مسماها “بودا بار”، فبوذا اسم يوحي بدلالات روحية بينما البار كمكان مخصص للرغبات الحسية، فكأنهما نقيضان اجتمعا في الرواية واللحن والمقهى الكائن في حي الأمير في بيروت، حيث تقع أحداث الرواية، هذا التناقض هو ما يدفع دورا للضحك، ثم التجول في المقهى ذو الشرفات الواسعة، المزين بتماثيل هندية وصينية، ترى دورا في تجاور الكلمتين دلالة على ذروة الروحانية والمادية في آن واحد.

نقرأ في ص 33: ” هذا التجاور بين المطلق والملموس، ربما هو الذي جعل من موسيقى بودا بار تحظى برواج مثير عند مستمعيها، كما حظيت الأماكن التي حملت الاسم ذاته بخصوصية تميز المكان مع ديكورات وألوان تستدعي الغموض في حضور تماثيل بوذا، وغياب موسيقى الزن”، هذا الغياب للموسيقى والحضور للتمثال يؤكد التناقض بين شطري اسم “بودا بار”، كما أنه يجعل من المقهى نفسه معادلا لبيروت بما تحويه من متناقضات وما تجمعه من فرقاء وغرماء.

عودة دورا

تبدأ الرواية بعودة دورا من أستراليا، يتصادف وصولها إلى حي الأمير مع اكتشاف جريمة قتل الحسناء جمانة، ومع نفي الكاتبة نفسها في مستهل الرواية لإمكانية وجود الصدفة التي تعتبرها ضرورة قدرية، ندرك أن ثمة قصدا للكاتبة من تزامن وصول دورا مع شيوع خبر مقتل جمانة، ثم اختفاء جثتها بعد اكتشاف الجريمة.

تعمل دورا  في مساعدة اللاجئين، وتقطن حي الأمير ونستكشف ملامحه من خلال تجوالها فيه، ونتعرف إلى الشخصيات من خلال تعامل دورا معها، وأولها الطبيب يوسف، وقد اختارت الكاتبة له اسما مشتركا بين الطوائف، وهو  رجل تجاوز السبعين، خبر المدينة جيدا، وعاصر كل حروبها، وكان محبوبا من المسلحين على الجانبين، فكان يعبر شطري بيروت دون أن يترصده قناص هنا أو هناك، نقرأ في ص 18: “كان يواجه مصيره بشكل شبه يومي حين يعبر الشارع الذي يفصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية ليخرج شظية من ساق مصابة، أو لينقذ مسلحًا على وشك الموت في الشرقية كان اسمه دكتور جو، وفي الغربية الحكيم يوسف وفي كلا المكانين ظل محبوبًا بشكل لا يمكن تصديقه، كان صديقًا للمسلحين في لحظات ألمهم، يحبون هدوءه، قدرته على تحمل فظاظتهم، بذاءاتهم، ومداواة جروحهم بلا لوم، لم يكن يوجه لومه لأحد مدركًا أن رحى الحرب تدور في طاحونة أكبر من سيطرتهم”.

وهو لم يغادر بيروت طوال حياته، لكن يشعر بالأسى لكون المدينة التي أخلص لها تغيرت كثيرا عما كانت عليه. يوسف حفيده يحمل اسمه لكنه ينتمي لجيل مختلف، فلا يريد أن يستكمل مسيرة الجد، يريد الجد أن يورثه بيته ومهنته وحب المدينة، لكنه يحب الموسيقى، يريد أن يدرسها وأن يسافر إلى أوروبا، يتناقشان كثيرا حول هذا الأمر دون التوصل إلى حل نهائي يحسم الموقف.

ويظل الموقف بينهما مؤرجحا فيعاني الحفيد التيه حتى يلتقي بفرح الفتاة السورية النازحة هربا من الحرب، يرتبطان معا بعلاقة حب، ويقررا السفر إلى برلين ليبدأا حياة جديدة، لا تجزم الرواية بأنها ستكون أفضل، بل تنتهي ودورا عبر زجاج النافذة الشفاف تُشاهد جناح الطائرة يعبر كتلة كبيرة من غيم الشتاء، وكانت تستمع إلى موسيقى بودا بار تنساب إلى داخلها، لتؤكد تماهيها مع اللحن الذي فقد هويته الشرقية القديمة ولم يتبق منها سوى الاسم المعبر عن ازدواج الهوية والتباسها.

وأخيرا تبدو دورا وكأنها كانت امتدادا لجمانة، لكن جمانة التي لم تكن تمتلك إلا جمالها وحبها للحياة لم تعرف كيف تحمي نفسها فضلا عن مساعدة غيرها، فتعرضت للقتل، أما دورا فتستطيع الاستمرار لأنها خرجت من حدود ذاتها، وكانت تعرف جيدا ماذا تريد؟ فكانت مهيأة لأن يستمر دورها في الحياة.

….

أحمد رجب شلتوت

جريدة ” النهار العربي ” بيروت

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى