“فن الخسارة” الرواية الفرنسية الوحيدة في القائمة الأمريكية 2021
تتناول الروائية الفرانكوفونية الجزائرية أليس زنيتر تاريخ مواطنيها الذين تناستهم فرنسا بعد الحرب
ما من شك بأن التنقيب في التاريخ بالنسبة إلى العديد من الروائيين، يحمل في باطنه رغبة في العثور على إجوبة عن أسئلة مقلقة، تظل تطارد صاحبها طويلاً بغية العثور على حلول منصفة لأزمات داخلية تؤرق الحاضر، بخاصة حين تكون هذه التساؤلات على تماس مباشر مع إرث عائلي وتاريخ سياسي مُشتبه في إدانته بالخيانة للوطن. هنا تأتي الكتابة كي تُمثل محاولة لإماطة اللثام عن بعض الحقائق بالنسبة إلى الطرفين، المدين، والمدان، أو كي تحمل اعتذاراً أو تبريراً لكل ما حدث. ربما من هذا المنظور كتبت الجزائرية الفرانكوفونة أليس زينتر روايتها “فن الخسارة”، ثم وقع اختيار صحيفة “نيويورك تايمز” على هذه الرواية، لتكون ضمن أفضل عشر روايات تاريخية لعام 2021، وهي الرواية الوحيدة المكتوبة بالفرنسية التي جاءت ضمن القائمة، وقد صدرت في فرنسا عام 2017، عن دار نشر فلاماريون الباريسية. ” فن الخسارة” هي الرواية الخامسة للكاتبة التي تبلغ من العمر 36 سنة، فهي من مواليد عام 1986، ونالت عنها جوائز عدة، منها جائزة “غونكور الليسيه”، وجائزة “لوموند الأدبية”، وغيرها. صدر للكاتبة أيضاً رواية “الأحد الداكن” ورواية ” قبل النسيان مباشرة”، وروايات أخرى.
الجد الخائن
وإذا كان القارئ العربي قد اعتاد على قراءة الروايات الجزائرية التي تتناول بطولات الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، حين خاض هذا الشعب غمار حرب طويلة ليحصل على استقلاله حتى أنه لقب بـ”بلد المليون شهيد”. ولكن في المقابل ثمة وجه آخر لهذه الحرب غير الذي نعرفه، ولم يتم التطرق إليه كثيراً، يتكشف جزء منه في رواية “فن الخسارة” التي تبدأ في الجزائر في ثلاثينيات القرن الماضي. تتناول أليس زنيتر قضية بالغة الحساسية في التاريخ الجزائري، حول جماعة “الحركيين”، وهم مجموعة من الجزائريين الذين اختاروا الانضمام إلى جانب الفرنسيين رافضين استقلال الجزائر. تفتح زينتر هذا الملف مع سؤال حول مصير الأجيال المتعاقبة من أحفاد الحركيين. تتساءل أليس عن أصولها الجزائرية، عن البلد البعيد الذي لا تعرفه، وعن “جدها” الحركي الذي قاتل إلى جانب الفرنسيين، وصمت عائلتها حول هذا الأمر، الذي يُعد عند الجزائريين خيانة عظمى.
في السادس من سبتمبر (ايلول) 1962، بعد شهرين من الاعتراف الرسمي من لدن فرنسا باستقلال الجزائر، تصل إلى قرية صغيرة في جبال الألب 25 ألف عائلة من اللاجئين الجزائريين ينتمون إلى الحركيين. رحلة وصولهم إلى فرنسا لم تكن سهلة أبداً، إذ خاضوا غمار عذابات كثيرة ورفض الفرنسيين لاستقبالهم لأسباب عدة، سياسة واجتماعية. مثلاً يُعارض محافظ “فوكلوز” وصول أعداد كبيرة من الجزائريين المسلمين إلى دائرته، ولكن بمساندة أحد الضباط الفرنسيين ودفاعه عنهم لما قدموه من خدمات للجيش الفرنسي، يتم نقلهم إلى إحدى القرى الجبلية ذات الموارد الضعيفة وعدد السكان القليل. كان جد أليس زينتر ووالدها من ضمنهم، وسوف يظلون في هذه القرية حتى عام 1966، تعاني العائلات من الفقر والبرد، ويبني الحركيون مساكنهم الصغيرة وسط الجبال. تقيم العائلات في خيام عسكرية، يعمل الرجال في الغابات المحيطة، في تقطيع الأخشاب، وفي مهن حرفية أخرى، ويشعر الحركيون بأنهم منبوذون في الجزائر وفرنسا، في وطنهم هم خونة، وفي فرنسا غرباء مسلمون.
وفي القرية التي وصلوا إليها لا يتواصل السكان المحليون مع الوافدين الجدد حتى هبوب عاصفة ثلجية عنيفة في أحد أيام شهر يناير (كانون الثاني)، تدمر العاصفة المستوطنات غير المستقرة وتُشرد النساء والأطفال. بعدها يحدث تضامن نموذجي بين السكان، حين يُساعد الأهالي الوافدين المنكوبين عبر الترحيب بهم في منازلهم من خلال منحهم أماكن للراحة والدفء. تذكر الكاتبة أيضاً أن وصول الحركيين وعائلاتهم إلى هذه البلدة ساعد على إبقاء المدرسة مفتوحة بعد أن كانت على وشك الإغلاق بسبب قلة عدد مرتاديها من الطلاب.
تقتفي زينتر أثر التاريخ الماضي من خلال أبطالها “علي” الجد، “و “حميد” الابن و”نعيمة” الحفيدة التيةاختارت المواجهة أيضاً، كي تنكأ الجراح المسمومة وتطهرها علها تلتئم. نلتقي في الجزء الأول من الرواية مع “علي” الجد الذي يعمل في زراعة أشجار الزيتون، ويُنتج الزيت عبر معصرة خاصة، لكن مصيره يتغير تماماً مع التغيرات من حوله، ويصبح “حركياً”. في الجزء الثاني ، يحاول علي البقاء على قيد الحياة مع أسرته في مخيم “ريفسالت”، ابنه حميد يطرح عليه أسئلة عن أسباب الرحيل والغربة، وتظل الأسئلة بلا إجوبة، فيما الأب الذي يظل جريحاً إلى الأبد، يواصل الصمت، ليس لديه ما يقوله، ثم شيئاً فشيئاً تتسع فجوة من سوء الفهم بين الأب وعائلته. الابن حميد يكون من الجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين أولاد الحركيين، يعيش في شبه انطواء، ولا يفكر مطلقاً بالعودة الى الجزائر. أما نعيمة حفيدة علي، التي تُمثل الجيل الثالث المهاجر، فإنها تعيش سعيدة في باريس ولا تعرف شيئاً عن ماضيها. حتى هجمات 2015 التي أجبرتها على طرح أسئلة على نفسها حول ماضي العائلة الغامض، لماذا كان جدها حركياً، وهل هو خائن بالفعل؟ وكيف كانت العلاقة بين فرنسا والجزائر في زمنه؟ مثل هذه الأسئلة تدفعها أن تتخذ قرارها بأن تسافر إلى الجزائر وتنقب في أحداث الأمس البعيد.
أقدار متحولة
تحتشد الرواية بكثير من المشاعر والأحاسيس المتشابكة، وتستحضر الأقدار المتحولة بفعل أحداث كبرى مثل الحرب والاستعمار والهجرة، والاقتلاع والتراث العائلي، وكيف يؤثر كل هذا فينا ويترك بصمته. لا تطرح الأسئلة بشكل مباشر، ولا تقدم الإجابات بقدر ما تحاول أن تقدم نوعاً من التفهم العاطفي بعد مرور هذا الزمن. وثمة سؤال يلوح، هل فعل هؤلاء الرجال ما فعلوه عن اقتناع أم إجبار؟ عن احتياج أم طمع؟ و بما أن زنتر تنتمي إلى الجيل الحديث، فإنها تطرح السؤال الفلسفي المشروع حول ما إذا كان في داخلهم رغبة للتشبه بالمحتل المسيطر والتماهي معه!
تصوغ أليس زنيتر بمهارة، شخصيات روايتها بالتناوب في وصف العالم الداخلي لهم، مع ملاحظة اختلافهم، بين الجد الحركي، والأب المجروح داخلياً، ويشعر بالعار لما فعله والده، فيقرر أن يسدل الستار على الماضي، ثم الحفيدة التي تعود لتنبش في كل ما كان. تلقي الرواية الضوء أيضاً على علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة، تصف عنف العلاقات الفرنسية الجزائرية الذي يظل حاضراً على مدى ثلاثة أجيال. تروي هذا كله بشجاعة في صفحات طويلة يبدو أنها استمدتها من مصادر مكتوبة وشفاهية عدة، حكايات غنية تاريخياً واجتماعياً وسياسياً، ولكن بمرور الزمن انخرط “الحركيون” في المجتمع الفرنسي، وحاولوا أن يسدلوا الستار على ماضيهم، بدليل أن زينتر لم تكن تعرف شيئاً عن ماضي جدها من خلال أسرتها، بل احتاجت أن تبحث وأن ترحل إلى بلدها الأصلي لتعثر على جذور الحكاية. تكتب زينتر أيضاً في هذه الرواية عن المجتمع الفرنسي الحديث، وعن أسئلة الهوية فيه، تبحث بجرأة وديمومة عن الحقيقة. فهي ليس لديها رغبة بالتنصل من الماضي بقدر إرادة فهمه وإدراك حقائقه المحجوبة، بغرض الحصول على حريتها الداخلية من كل الأسئلة التي لاحقتها طويلاً.
لنا عبد الرحمن
independentarabia