قيد الدرس .. فوات زمن الإجابات

ربما يشير الوقع الأول لعنوان رواية (قيد الدرس) للكاتبة والروائية لنا عبد الرحمن إلى عملية التعلُـم واستمرارها، ما يشي بنضارة محتملة للمتلقي وأُفق للأمل في وجود فرص أخرى للتحقق والنجاح، ما زال هناك وقت .. مازال هناك فرصة أخرى. لكن أية فرص تتاح لنا في عالم تتناحر فيه القوميات وتزدوج فيه الولاءات في خليط كولاجي يربك عين ووجدان المتتبع؟!

تلتقط لنا عبد الرحمن خامة جديدة وموضوع جاد. وبين الجدة والجدية يدلف السرد متدفقا بشكل آسـر يصعب معه افلات النص من بين يدي القارئ.

“لعن الله السابقين.. لقد قالوا كل ما كنا سنقوله”، لكن لأول مرة أصطدم كقارئ براوية تتناول الحرب الأهلية اللبنانية من المنطلق الذي اختارته لنا “لنا”، حيث أحداث في الماضي القريب لا زالت أصدائه حية في ذاكرتنا.

اللقطة الذكية التي تلتقطها لنا في اختيارها لشريحة منسية “ننتمي لقرية ضاعت هويتها بين لبنان وفلسطين.”صــ 99. من كان يكتب في بطاقات هويتهم بخانة الجنسية: “قيد الدرس”!

سبع قرى تفرق دمها بين لبنان وفلسطين والكيان الإسرائيلي، حُـرم أهلها من أية جنسية لانتقالها من السيادة اللبنانية للفلسطينية ونشوب حرب 1948، فيتجمد وضعهم وتكون هويتهم محل دراسة وقيد الدرس.

رواية تاريخية لكن !

رواية لنا عبد الرحمن تطرح نموذجا للرواية التاريخية التي تعد من أصعب الأنواع الروائية؛ لسعيها الدؤوب إلى الهروب من سطوة التأريخ وجهامة الحقائق، بل بشاعة تلك الحقائق. كيف لسرد أن يتعامل مع المآسي بفنية؟؟ وكيف له الانفلات من شَـرَك الميلودرامية خاصة وأنت تقرأ يوميات أسرة قياسية لبنانية.

كيف تنجو من فخ التأريخ وأنت تكتب كتابة ابداعية، وكيف تتتصر للابداع دون خيانة التاريخ.. الحل الذي وجدته لنا هو الكتابة عن الانسان لا عن القضية. والاختيار كلما نحى نحو المعيشي والاعتيادي كلما استطاعت من خلاله أن تقول مقولاتها الكبرى ولكن بصوت خفيض ومسموع في آن.

فما أصعب تناول موضوعات مثل الهويات المتناحرة أو تراتبية القهر أو المواطنة، وكلها قضايا كبرى تحتاج لتناول فني تجده لنا عبد الرحمن في قصص حب الأكراد مع اللبنانيين، أو البدو مع البيروتيين، أو اللبنانين حاملي الهوية مع هؤلاء قيد الدرس.!

تبدأ الرواية وتنتهي بالعام 2012، ويُـتبادل السرد بين صوتي حسان واخته ليلى، كل من موقعه.. حسان من الطائرة وليلى من مطبخهم، وما بين هذين الفضاءين (الطائرة والمطبخ) بما يحملانه من دلالات متناقضة تقع أسئلة الأبطال حول الارتحال والاستقرار والبحث عن هوية ومعنى لحياتهم ولوجودهم.

حسان : “مقعد الطائرة يساعدك على البقاء سارحا في أفكارك. تراجع ذاكرتك كلها في رحلة العودة، تبحث عن أول الحكاية، رغم أنها ليست حكايتك وحدك/ عالمك الفوضوي هو حكايتك، وأنت تبحث عن الكلمات، وحكايتك تشبه طبقات الموسيقى المتكسرة عند  فاجنر، والعيون الحزينة عند مودلياني، وقصة دراكولا المختبئ تحت الأنقاض في دير السرو. حكايتك لا يمكن كتابتها إلا من رقعة الظلام التي تعرفها جيدا.” صـ  9

ليلى : “مرآة إطارها نحاسي على شكل شمس طالها عطب السنين، لكنها لم تنكسر. لما وضعتها جدتي سعاد هنا؟ كم من الوجوه نظرت في هذه المرآة قبلي! وهل خمنت جدتي أني سأنظر إليها يوما كي أراقب خطوط التجاعيد الرقيقة التي بدأت تتشكل حول عيني ، لكن هذه الخطوط لا تفزعني. إنها السابعة والثلاثين فقط.. وفي النهاية تبدو الأشياء متساوية؛ لأن هناك حجرا كبيرا يلقى علينا من خلف ظهورنا من دون أن نعي. شعرات بيضاء متوارية في مقدمة رأسي.. أما وجهي فلا أراه، أحس أنني أرى وجه أمي.” صـ 11

من خلال طبق ورق العنب تستدعي ليلى المونولوج الكاشف لتاريخ من الهزائم، وتتذكر كيفية حدوثها وتتبع مسار آليات الانهيار.

جمال الرواية في انتباهها إلى انتهاء المعارك الكبرى وعودة المحاربين إلى الحياة وهي المعركة الكبرى الحقيقية، وشخصياتها ما بين صانعي حرب وصانعات حياة، متوحدين يبدون غريبي الأطوار ومهاجرات عدن بعد رحلة تيه، مرتحلين وباحثين عن جذور يمنُّـون أنفسهم بعودة قريبة للوطن.

ولا تخش الكاتبة اللغة المحلية واللهجة اللبنانية التي تتخلل السرد على لسان الأبطال، فتتجسد أمامك الشخصية اللبنانية لتكمل لنا عبدرالرحمن تشريحها.. كيف اكتسبت الشخصية اللبنانية هذه القدرة المتجددة على النهوض بعد النكبات، وحبها للحياة والشغف الشديد بها. وكيف تكون روح المقاومة هي السبيل للخلاص. كيف تكون الحياة في منزل مقفر بلا سقف هو عين الكفاح والمقاومة. وكيف يكون تدبر المعيشة بشرف لتلك الأسرة اللبنانية هو الجهاد الأعظم!!

ثمة تحية دفينة للفنون الجميلة تهديها لنا بالرواية لكل من السينما والعمارة حين تفرد فصلا  لفيلم ذهب مع الريح” وتعقد موازاة مع الحرب الأهلية الأمريكية التي أسفرت لأبطال الفيلم عن وضع مشابه لأبطال الرواية بعد الحرب الأهلية اللبنانية: “كنا نعرف أن ‘‘ذهب مع الريح’’ مجرد فيلم، ولكنها كانت المرة الأولى التي يعرض أمامنا فيلما يقدم رؤية عن واقع ما، تبدو لنا بعيدة وقريبة في آن واحد، بحيث إننا كنا عاجزين عن الحديث حول مضمون الفيلم بوضوح، من دون أن نجد فيها شبها من أحداث وأشخاص نعرفهم.” ص 133

ثم العناية بالعمارة والعمران كشاهد على تغير التاريخ في بيروت “تذكر نجوى كيف تغيرت المدينة بالكامل منذ عام 1975، وكيف صارت هناك حدود واضحة للموت؛ فقد كان بيت ‘‘وادي أبو جميل’’ قريبا من وسط المدينة الميت، الذي يشكِّـل حدا بين المدينتين، حتى يُخيّـل لمن يمر هناك أنًّ الظلام الممتد بين الجانب الشرقي والغربي من المدينة قادر على اغراق البلد كله. لكن المدينة الموجودة الآن، عاصمة تنهض من بين الركام، يعاد اعمارها من جديد، في محاولة لاعادتها كما كانت؛ والعودة إليها تكشف كما من القباحات لا تتوارى تحت الأنقاض، وركام من السنوات.” ص 173

اللغة الحيادية

اللغة الحيادية التي مالت لها الرواية لم تقف ضد التماهي مع السرد، بل أحيانا ما مالت إلى التقريرية في بعض المقاطع حين كانت تسرد تاريخ الأشخاص وسيرتهم الذاتية بنزعة تراجم الأعلام وبشكل أقرب للبيبلوجرافيا، هذ الحس التحريري الإخباري يتناغم مع المضمون السياسي الذي تقدمه “لــنـا” لنا. لكنها تلجأ له بمقدار محسوب ممسكة بزمام ايقاع السرد فلا تمل كقارئ، بل تُستلب كمتابع نحو اكمال الحكاية/ الحدوتة.

ولا تستمر لغة الرواية على وتيرة واحدة، إذ يُـشكل بوح ليلى سردا غاية في العذوبة.. “لم أتمكن من تجاوز عتمة السنين، ونسيان ما كان، تجاهل خطوط رقيقة شكَّـلها الغياب، شعيرات رمادية توشك على الحضور، ابتساماتنا التي أرجأناها لوقت آخـر، رائحة روز ماري على وسادة مهجورة لم نغفو عليها سويا، وفنجان قهوة صباحي لم يثنَّ.” ص 195 – 196

المصائب مجددا .. قوت يومي للأسرة اللبنانية التي نحن بصدد تاريخها، ولا تتركنا “لــنـا” نواجهها فقط، بل ترصد آليات التوافق التي تتخذها هذه الشخصيات لمواجهتها كاعتراف ليلى بأنها تعلمت الطهي من جدتها التي تبدو دائما مشغولة بأمر ما لتدبر الحياة.. الحياة وصنعها ومقاومتها.

الجديد في الرواية أيضا حديث الشتاتين حيث ضحايا تهجير 1948 وضحايا الحرب اللبنانية 1982 وقد تجسد في حوار “لطيف الخازندار” و “حسان عبد الله” اللذَين تشاطرا الحسرة جراء نكبيتهما.

أزمة الوعي

أزمة الرواية تتشكل في وعي أبطالها الذين يدركون حجم مآسيهم..”كانت أزمة نجوى مع فكرة الوطن أقل تعقيدا من زوجها، فهي لم تعرف إلا بيروت.. والدها عواد الكردي ولد وعاش بلبنان، ورغم حديثه عن كردستان ، إلا أن انتماءه كان للبنان بكل أراضيه، نجوى مشكلتها في هوية قيد الدرس التي حملتها لأنها كردية لكنها لم تحلم بأي وطن آخـر؛ صحيح أنها كانت تتمنى أن تحقق أحلام زوجها في استعادة فلسطين وتحرير جنوب لبنان، لكن في أعماقها كانت تستشعر أن ما يحلم به باسم يرتبط بفكرة الانتصار من أجل فكرة مجردة أكثر من حنين العودة إلى مكان معين؛ وفي أعماقها، تحس أن فلسطين صارت حلما بعيدا، كما هي كردستان.” صــ 73

لكن وبالرغم من تناول الرواية لموضوع تاريخي إلا أن المعاصرة أو المجايلة هو ما نلمسه حيث أضحى مصطلح الشتات السوري أو العراقي يحل محل الشتات الفلسطيني الذي استأثر لعقود وحصريا بهذا المصطلح، وحتى بالرغم من التجنيس القانوني لهؤلاء “قيد الدرس” إلا أن روح التيه لا زالت تسكن نفوسهم.. “في عام 1994، حدث التحول الأكبر في حياتنا، فقد أعطى مرسوم جمهوري الجنسية اللبنانية لمن يستحقونها، وكنا ضمن من شملهم المرسوم. عدنا لبنانيين، بعد أن أثبتنا أننا من أبناء القرى السبع، وظل أبي قيد الدرس لأنه خارج الأراضي اللبنانية.. هكذا استعدنا هويتنا المفقودة من جديد، بعد أن عشنا لسنوات بهوية ملتبسة.” صــ 168 – 169

تلك الهوية تظل محل بحث فيطاردها حسان في زواجه من امرأة فرنسية ذات أصول عربية ويسافر لفرنسا ليجد أمثاله من المخلًّطين والمهاجرين وإن خَـفُـت أسئلة الهوية لديهم، حتى أنه ينسجم في لندن أكثر من باريس لضمور سؤال الهوية في الجاليات الأجنبية هناك بشكل أكبر من مثيله الفرنسي، منتصرة “لــنـا” بذلك للانسان على اطلاقه دون ما يثقل كاهله من تاريخ معقد وهويات متصادمة، وإلا ما استمر حسان بعد حصوله على الجنسية اللبنانية في سؤال نفسه السؤال ذاته.. “عشت دائما على الحافة، تواجه عجزك في الحفاظ على توازنك كي لا تسقط هنا أو هناك. إلى من تنتمي أنت! وهذا البلد الذي وُلدت وعشت به، وحملت هويته بعد سنوات طويلة، لا تجد ذاتك على أرضه. ألعاب السياسة والطائفية تطغى على أي احتمالات بالأمـل.” ص 218

لا تُسائل رواية “قيد الدرس” للنا عبد الرحمن الماضي فقط، بل تطرح أسئلة المستقبل أيضا، أي أمل ينتظر سكان هذا العالم والعالم نفسه تحول إلى تيه كبير. تتبدل الجغرافيا ويتغير التاريخ وتتفت الدول شرقا وغربا، وتنفرط الاتحادات حتى الأوروبي منها، ويزول وهـم الاندماج ووزيف الإيمان بالتعددية الثقافية، وتبقى بذرة التعصب والبحث عن هوية وحيدة ويقين خالص ما، الغُربة كبرى سواء في الوطن أو في المهجر. لذا لم تخفت أسئلة الهوية لدى الأبطال حتى بتغيُّـر خانة جنسيتهم. لكنه التيه المستمر، والبحث الجاري عن الذات، ولا شيء يشبع فجوات الروح.

تتركنا لنا عبد الرحمن وقد استقر في بيت هذه الأسرة ثلاثة أحفاد لثلاثة أبناء، أحدهم لداعشي والأخرى لفنانة استعراضية والثالث ابن ليلى الساردة.. شهادة على واقع لبناني متعدد الأطياف، متنوع المشارب، يذكرنا بزوجات الجد الثلاث اللاتي كن مختلفات، كل منهن كانت لونا ورائحة وذائقة مستقلة، وهو ما يبرر ويكشف ثـراء الروح اللبنانية، تلك الشخصية الوثابة المتطلعة الموحية لنا بالانطلاق، بيد أن خيطا غير مرئي يربطها بتلك البقعة المكانية من شرقنا السعيد، ما يغرينا بوضعها هي الأخرى “قيد الدرس”.

أسماء إبراهيم

زر الذهاب إلى الأعلى