تجليات الوعي وأزمة الهوية في رواية ” قيد الدرس”
ربما كان سؤال الهوية هو المدخل الطبيعي الذي تنطلق منه أي قراءة أو محاولة للدخول إلى عالم رواية قيد الدرس، ولكنني أريد أن أطرح سؤالا آخر، وأنطلق من منطلق آخر، لا يعارض سؤال الهوية ولا ينفيه، بل على العكس، يكمله ويضيف إليه، لا ينفصل عنه، يؤثر فيه ويتأثر به، ويمكننا القول بأن كل منهما هو سبب ونتيجة للآخر في الوقت نفسه، ألا وهو سؤال أو أزمة الوعي والمعرفة بمعناها الواسع.
بداية من العنوان “قيد الدرس” الذي قصدت به الكاتبة شكلا من أشكال العلاقة بين مجموعة من “المواطنين” والدولة، تسببت بعض التعقيدات التاريخية والجغرافية في حرمانهم من الاستمتاع بالجنسية أو بطاقة الهوية، فأصبحوا أشبه بما يسمى بـ”البدون” في بعض دول الخليج العربي، فهم أشخاص ينتمون عاطفيا وثقافيا واجتماعيا وجغرافيا لوطن ما دون أن يمتلكوا اعترافا رسميا من الدولة بهويتهم وانتمائهم لها، وهي مأساة إنسانية حقيقية. ولكن الرجوع إلى الدلالة الأكثر عمومية لعبارة “قيد الدرس” خصوصا لمن يجهلون هذا المصطلح وما يعنيه من قبل قراءة الرواية، أقول أن الرجوع للدلالة الأكثر عمومية تضعنا أمام “درس- تعلم- فحص- تحليل- فهم”، وكلها خطوات تقود إلى المعرفة أو مراحل في تشكيل الوعي، وكونها “قيد الدرس” يعني أن هذه العملية مستمرة ولم تنته بعد، وهذا ما يعيدنا إلى المفارقة في المعنى الاصطلاحي “إن صح هذا القول” في العنوان، وكأن الحكومات -على مدى عشرات السنين- لا زالت تدرس حالات هؤلاء المواطنين لكي تتخذ قرارا بشأنهم، وأن هذه الحالات لا تزال “قيد الدرس”.
أما عن إهداء الرواية، فقد آثرت الكاتبة أن تحرمه -أي الإهداء- من الخصوصية الشخصية التي تتسم بها إهداءات الأعمال المختلفة الإبداعية منها وغير الإبداعية، وأن تجعله لكل من يبحث عن هويته، وكل من يجتهد ليعي نفسه وعالمه، شريطة الفاعلية والإيجابية في السعي، “إلى الذين واجهوا أشباحهم بثبات.. إلى الخاسرين كثيرا، الحالمين دوما.. إلى الذين ربطوا أجسادهم إلى سارية السفينة، أو صموا آذانهم عن الغناء الفتان.”، والفاعلية هنا لا تكون فقط بالإثبات أو الفعل الإيجابي، وإنما قد تكون بالفعل السلبي، “صموا آذانهم عن الغناء الفتان”، أي أنهم لا يقبلون ما يقدم إليهم بلا تردد، بل يختارون ما يتلقونه، أو بعبارة أخرى، يبتكرون طريقتهم الخاصة في تشكيل وعيهم.
خطوط سرد متقطعة
تنسج الكاتبة لنا عبد الرحمن روايتها عبر خطوط سرد متقطعة، تسافر في الزمان وفي المكان، تبدأ بلحظة ما “2012” ثم ينقطع الخط السردي ليبدأ خط سردي جديد “رحلة الهرب من بيروت 1982″، وتتفرع عن هذا الخط خطوط أخرى تفتش عن جذور الأشياء والأشخاص والعلاقات، إلى أن تصل في النهاية إلى اللحظة التي بدأت منها الرواية في نهايتها، وهذه الدائرة المغلقة من السرد تحاول بها الكاتبة تأطير علاقة الشخصيات بربطها برابط أو ربما بهوية ظلوا يبحثون عنها طوال الوقت، أو أنها تحاول أن تضع هذا التاريخ الشخصي والسياسي لهذه الشخصيات داخل دائرة مغلقة لكي تظل “قيد الدرس” بالمعنى المعرفي.
وهي تربط هذه الخطوط السردية المتقاطعة والمتشابكة والمتفرقة على مستوى الشكل من خلال تقسيم الرواية إلى 4 فصول تدور أحداث كل منها في فترة زمنية محددة، بما تقتضيه مسيرة السرد من استدعاءات وانعطافات وتعججات واستحضار للماضي أو المستقبل، مستعينة في سردها للأحداث بالأفعال الماضية والمضارعة المرتبطة بسوف أو السين الدالة على المستقبل.
الراوي في الرواية فهو يتنقل بين ضمير الغائب “الراوي العليم” الذي يحيط بما وراء الأحداث، وشخصيتين من أبناء العائلة “حسان وليلى” الذان يرويان بعض التفاصيل من وجهة نظرهما بضمير المتكلم
لكننا نلحظ في سرد حسان أنه يأتي بصيغة المخاطب في موضعين محددين، وهما متباعدان على صفحات الرواية، ولكنهما متقاربتان جدا زمنيا على مستوى السرد، وهما اللحظتان الأحدث، الحاضرتان، اللتان تليان رحلته الطويلة في الحياة التي ظل يرويها بضمير المتكلم، وكأنه بعد تشكل وعيه قد انقسم لشخصين يحاوران بعضهما البعض، أو كأنه اكتشف أن هذا الحوار داخل الذات هو الوسيلة الأفضل لاكتشاف الذات والوعي بها، وكأن الكاتبة بهذا التنوع في الراوي تختبر أكثر من شكل من أشكال التعرف على الحقيقة.
الحرب مؤثر رئيسي في الأحداث ا
كانت الحرب الأهلية اللبنانية دائما مادة ثرية لكثير من الكتاب والأدباء “وخصوصا الروائيين” نظرا لما تزخر به الحرب -ولا سيما الحروب الأهلية- من قصص إنسانية ومآسي ومفارقات مثيرة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما تحمله لبنان في الوجدان العربي عموما من معاني الجمال بشتى تجلياته، والحرية المطلقة والتعدد الثقافي والفني والسياسي والاجتماعي والطائفي الذي يصل إلى التناقض مع الحفاظ على القدرة على التعايش، أقول إن الحرب كانت ملهمة لكثير من المبدعين لكتابة نصوص تستحضر هذه الحرب، وتقدمها من وجهات نظر مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر نظرة ما يمكن أن نسميه بـ”السائح” الذي يزور لبنان أثناء الحرب ليروي لنا مشاهداته التي تأتي من الخارج، كما هو الحال في رواية “بيروت بيروت” لصنع الله إبراهيم، ومنها ما يجرد الحرب من تفاصيلها ليرصد أثرها النفسي على الإنسان في معناه المجرد كما هو الحال في “كوابيس بيروت” لغادة السمان، أما الحرب اللبنانية عند لنا عبد الرحمن في روايتها قيد الدرس فهي تظهر لنا بشكل مختلف، إذ لا نكاد نستمع إلى صوت الرصاص، ولا تنفجر القنابل على صفحات الرواية، ولا تسيل الدماء وتتناثر الأشلاء بين الكلمات والسطور، رغم أنها “أي الحرب” مؤثر رئيسي في مجرى أحداث الرواية، لكنها بتفاصيلها منفصلة عن الأحداث، أو بالأحرى فأحداث الرواية منفصلة عن الحرب رغم أنها تتأثر بها تأثيرا مباشرا وضخما، يدل على ما أقول أن “باسم عبد الله” كان يذهب “يغيب” عنا ليذهب إلى الحرب، ثم يعود إلى نقتة السرد ليشارك في الأحداث، والإشارة إلى حياة الأسرة وسط أتون الحرب هي إشارات قليلة ومختصرة، كذلك فإن شخصية الأخ الذي أصر على البقاء وسط النار لم يكن لها حضور فاعل في الرواية، وعلينا هنا ألا نغفل كونه مختل عقليا. ويتجلى تأثير الحرب في الأحداث بصورمتعددة، فهي من “اختطف” رب الأسرة، وهي السبب في هروب الأسرة وإقامتها في دير السرو، ولكنها كانت تمارس هذا التأثير في هذه الرواية دون صخب إن صح هذا التعبير. كما أن ظهور الحرب في الرواية ظل مرتبطا بالهاجس أو بالشاغل المسيطر على السرد وعلى الشخصيات، أعني هاجس الهوية، حيث يأتي ذكر الحرب مقترنا بالاجتياح الإسرائيلي وبتحرير بيروت والجنوب اللبناني بل وتحرير فلسطين، دون الخوض في تفاصيل التناحر والاقتتال الطائفي ووجهات نظر الأطراف السياسية المختلفة، والإشارة إلى انتماءات الأسرة الطائفية مختصرة جدا، فهم ضد حزب الكتائب، بدليل خوفهم من جنوده على الحدود، وهم يتابعون أخبار الحرب عبر إذاعتين ينتميان -فيما أظن- إلى الناصريين والشيوعيين آنذاك.
تشكيل وعي الأبطال
بحثت كل شخصية من شخصيات الرواية عن هويتها، أو سعت لتشكيل وعيها بطريقتها الخاصة، وخرج الجميع بنتائج مختلفة، فالأب “باسم عبد الله” فتش في الكتب عن هويته، وكان يستمتع بإعادة سرد ما قرأه في كتب التاريخ عن بلاد الشام في أيام الإمبراطورية العثمانية وكيف كانت قبل سايكس بيكو، ولما لم يستطع أن يظل محبوسا في الماضي بحث عن الحقيقة عن طريق الانضمام إلى أحزاب مختلفة بحث فيها عن نفسه، وأخيرا وجد هويته في البحث “بذراعه” بانضمامه إلى الكفاح المسلح الذي لم يجد نفسه إلا فيه، فانتمى إلى بندقيته على حد تعبير الرواية. أما نجوى فقد رفضت واقعها، وظلت تبحث لنفسها عن واقع آخر تعيشه، ومارست اعتراضها على واقعها أحيانا بشكل سلبي، كانت تتسم بالسلبية في القيام بمهامها كأم داخل البيت، معتمدة على أمها ثم على ابنتها في تدبير شؤون المنزل، لكنها كانت تمارس دورها الإيجابي دائما في الاعتراض والعقاب والشجار والغضب من أفعال الآخرين، وقد تسرب هذا الشعور بالغربة منها إلى من حولها، حيث اختلف معها أبناؤها كلهم تقريبا، وكذلك أختها بعد أن عادت من المهجر، والبدويات والفلاحات في وادي السرو كن يشعرن بأنها غريبة عليهن، وقد كان مظهرها الذي حرصت عليه أحد أهم محددات الهوية لديها، وقد ورد بكثافة شديدة الحديث عن شكلها المختلف عن الفلاحات والبدويات، وشعرها الأحمر وقامتها الطويلة، كما أن الفعل الثقافي الذي دعت أبناءها لمشاركتها أياه كان مشاهدة فيلم “ذهب مع الريح”، الذي قالت إنها شاهدته من قبل، وكأنها تحاول أن تدخلهم في هذا الواقع المختلف، الذي يقول عنه حسان: “فيلم يقدم رواية عن واقع ما، تبدو لنا بعيدة وقريبة في آن واحد بحيث إننا كنا عاجزين عن الحديث عن مضمون الفيلم بوضوح من دون أن نجد فيه شبها من أحداث أو أشخاص نعرفهم”، واستدعاء هذا الفيلم تحديدا وهو عن الحرب الأهلية الأمريكية يكاد يكون البديل الذي تستبدله نجوى بواقعها المرتبط بالحرب الأهلية اللبنانية، وكأنها ترجو لبنان ما بعد الحرب أشبه بأمريكا ما بعد الحرب.
**
ومن مظاهر الخلل في وعي نجوى أن ليلى ابنتها حين قررت الفرار والانفصال عن حميد لم تكن أمها تعرف الأسباب الحقيقية، والذي عرفها فقط هو حسان، رغم أن المنطقي أن الأم هي التي تعرف تلك التفاصيل وليس الأخ، وكذلك في شجارها مع جارتها البدوية، الغريب جدا في شجار نجوى مع إنعام مرتبط أيضا بالمعرفة والوعي، فالجزء الذي أذاعته للبدويات -في العرف- هو الأكثر حساسية “قذف المحصنات” في حين أخفت الجزء الأبسط -في العرف أيضا- وأطلعت عليه صدي قتها نجمة وهو سرقة ملعقة أمها الذهبية. كما أن ثمة فارق بين وعي نجوى ووعي حسان وليلى، نجوى ترى زوجة حسان لا تشبههم، في حين عرف هو إلى أي مدى هي تشبههم، فنجوى أصلا ترفض واقعها، وبالتالي فهي لا تعرف أو بالأحرى لا تعي ما هو شبهها ولكنها تعرف كيف تريد هي أن تكون، تبحث دائما عن واقع مختلف ولا ترضى ولا تقبل بواقعها.
ولقد ارتبط الشجار بين نجوى وزوجها أيضا بالوعي، إذ كان اختلافهما واختلاف أولوياتهما محرك أساسي لخلافاتهما، ويبلغ الخلاف ذروته مع تمزيق نجوى للكتب، “مصدر وعي باسم ومكون هويته” وفي المقابل يقوم هو بتكسير المرآة، “وسيلتها للتعرف على نفسها، وملامحها التي تمثل لها شأنا هوياتيا مهما”.
**
أما حسان، فقد رأى في الترحال مصدرا سحريا للمعرفة ولتشكيل الوعي، ففي البداية وهو طفل انبهر بكتاب “رحلات جاليفر”، وأحب لعبة “المونوبولي”، وفي بداية الرواية التي أتانا فيها حسان مكتمل النضج يقول: “ليتك تبقى كما أنت الآن.. عالقا بين السماء والأرض. حالة من التحرر، تسكنك، منذ بداية أي رحلة سفر تحب المطارات، حركة الناس فيها، وجوه الغرباء الغامضة، تعجلهم، حيرتهم، تلهفهم للوصول، حالات تلهمك أمنية استمرار السفر، والوصول إلى اللامكان. تكتشف في كل مرة أن الرحيل الدائم وقت مقتطع غير متصل بالزمن، تكون خلاله في حالة أمان قصوى، غير مرهونة للمكان، للهويّات، وللتعريفات التي يبحث عنها الآخرون.
مقعد الطائرة يساعدك على البقاء سارحا في أفكارك”، وهنا يظهر الجانب الحقيقي وراء حبه للسفر والرحيل، فالأمان مرتبط بالفكاك من أسر المكان، والذوبان في غموض المسافرين وحيرتهم … إلخ. وهذا ما يوصلنا لطريقته الأخرى في إقامة العلاقة بالمعرفة أو في تكوين وعيه، فهو يصنع حقائقه التي تقنعه، كان وهو صغير يخترع قصصا وهمية لزملائه في المدرسة عن عائلته، ثم تحول إلى رسام كاريكاتير يرى الأشخاص والأشياء بشكل مختلف ويصورهم من وجهة نظره، “سيقولون إنك تعبث بالحقيقة، وسوف تقول لهم بنزق “إنها حكايتي””، فهو لا يعتقد بإمكانية الوصول إلى الحقيقة حتى مع الاعتراف، حيث يقول: “يبدو من المهم أحيانا أن نعترف، أن نواجه الحقيقة كما نذكرها، كما هي بالنسبة لنا، لكن حتى في هذه المحاولة لن نتمكن من الكشف سوى عن جزء ضئيل مما كان”.
وقد اكتشف حسان عندما سافر إلى فرنسا أن ما كان يعانيه في لبنان من أزمة في الهوية ليس له الوطأة نفسها على بعض من تعامل معهم في فرنسا رغم تعدد هوياتهم، كالجزائري الفرنسي، أو الأمريكي الأسود من أصول أفريقية أو من جاءوا من أبوين مختلفي الثقافة والعرق يقول: “في فرنسا التقيت بمن ولدوا مثلي من أبوين ينتميان لأكثر من مكان وهوية، لكنهم لم يعيشوا معاناتي التي تبدو محض معاناة عربية” والسبب في هذا هو أن هؤلاء ينتمون إلى وعي مختلف، وتتشكل رؤيتهم لنفسهم وللآخرين بشكل مختلف عن رؤية العربي، فالعربي -حتى الذي يمتلك بطاقة هوية محددة ويشعر بانتمائه لوطنه- يعاني من أزمة وعي بذاته وبالآخرين، ربما كانت هذه الأزمة نابعة من معاناته الهوياتية إن صح التعبير، وربما كانت أزمة الهوية عنده ناتجة عن أزمة وعيه. ولا ننسى أنه في عالمنا العربي- في دير السرو- “مات فاضل بسبب رغبة الاكتشاف”
أما ليلى، الراوي الآخر في الرواية فقد عانت طوال الوقت من الارتباك في معرفة نفسها ومعرفة من حولها، وخسرت الكثير في قصص حب وعلاقات زواج فاشلة باختيارها أو فرضت عليها، كما كانت علاقتها بأسرتها -أبيها وأمها- علاقة متوترة حيث رفضت معظم مواقفهم وتصرفاتهم، لكن المرض هو الذي كشف لها بعض الحقائق عن ذاتها وعن حب زياد وعن عدم حب زوجها ماهر لها، حيث يرتبط التفكير والمعرفة بالألم. “يأتي المرض ويفرض علي سؤاله: من أنت(“.
وأزمة الهوية عند حسان وليلى لا تقتصر على هوية قيد الدرس، أو الانتماء لوطن، حيث كان من مظاهرها أنهما لا يشعران بأبيهما، يفضل حسان “لطيف الخازندار” على أبيه لأنه رأى منه ما لم يره من أبيه، ووقف معه مواقف أكثر إيجابية، وساهم في تشكيل وعيه من خلال الكتب والتشجيع على الرسم، في حين كان موقف أبيه من رسومات ابنه باهتا.
أما ليلى فتقول: “زوجها .. أي أبي .. لكني كنت أفضل مناداته بزوجها لأني لا أحس نحوه بمشاعر حقيقية”، وعلاقة ليلى به ليست واضحة “لكنها كلما فكرت في أبيها غمرها ضباب داخلي والتباس وحيرة” أما حسان فوضعه مختلف، لم يقع في هذه الحيرة والارتباك، حيث: “حسان حسم مشاعره نحو الأب الغائب، بل إنه حسم مشاعره نحوه من قبل أن يغيب، كره حسان أباه، ولم يكن يداري إحساسه، كان يصرح بهذا أمامهم جميعا، ويعدد أسباب كره له”.
**
أما حسن فقد كانت رحلته للتطرف سببها بحثه عن اليقين وعدم قناعته بانتماءاته الأسرية “حيث كان يشك أنه لقيط وجدته أمه وربته” وانتمائه السياسي بهوية قيد الدرس، ويقين الشخص المتطرف هو الأسهل طبعا، لكنه -كما يبدو من مذكراته التي قرأها حسان في النهاية- لا يبدو أنه ارتاح لهذا اليقين.
أما ياسمين فقد تعاملت مع الواقع وتفاعلت معه بجرأة، وحين حاول أخوها وأختها إثناءها عن طريقها واجهتهما بالحقائق التي منعتهما من المحاولة معها، فالحقائق جارحة.
ومن مظاهر تخطي أزمة الهوية عند الأسرة لتجلياتها السياسية لترتبط بالوعي أنه: “في دير السرو لم تكن عائلة باسم عبد الله تنتمي لأي من التصنيفات الاجتماعية الموجودة هناك”، ولم يكن هذا لأسباب سياسية، بل إن ذهاب الأطفال للمدرسة، الذي يمثل شكلا مختلفا من أشكال اكتساب الوعي ومصدر يختلف عن مصادر أقرانهم من أبناء القرية كان من أسباب المشاعر العدائية تجاههم والتعامل معهم بوصفهم أغراب.
ومن تجليات الاضطراب في الوعي الذي عانت منه شخصيات الرواية أن مظاهر الجمال دائما ما يعكر صفوها شيء ما، فإيقاعات فاجنر “متكسرة”، “ورق العنب” الذي تتذوقه ليلى يكون لذيذا، لولا زيادة الملح، ووصف الطبيعة في دير السرو جميل، “المشهد يمنح إحساس بالجمال لو لم تنتصب على الجانب الأيمن من الجسر دكاكين الصفيح” والحديث عن السعادة بالحياة في الربيع يجب أن يلتصق به الحديث عن المعاناة في الشتاء … لحظات السعادة والفخر بالتفوق الدراسي ووضع اسم ليلى في لوحة الشرف في المدرسة مرتبطة بخجلها من وضعها الاجتماعي وخوفها من رؤية زملائها لبيتهم المتواضع.
وفي النهاية، رغم كل هذا الترحال والبحث، تأتي بيروت بكل ما تحمل من معاني لتمثل وسيلة المقاومة لكل هذا التيه، حيث تكن هي الملاذ الأخير، فالرواية تبدأ بحسان في المطار عائدا إلى بيروت، وتنتهي بقوله: “إنها اختيارك، مكانك الأول حضنك الأخير”.
أحمد لطفي
جريدة ” صوت البلد”