“تميمة العاشقات”عالم غرائبي لنقد الواقع المكرس
اختار الكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن في آخر أعمالها الروائية «تميمة العاشقات»، الصادرة من الدار المصرية اللبنانية (2022م)، القالب الغرائبي للخوض في إشكالية العلاقة بين المرأة والرجل، بدءًا من العنوان الذي يُحيل إلى ما تزخر به الرواية من عوالم ما ورائية، إلى الافتتاحية التي تبدأ برحلة زينة نحو عالم آخر ترى فيه الصور التي تتناثر عبر الزمن، وتلتقط الأحداث عبر الأثير. تقدم الرواية حكايات ست نساء من بيئات وعصور زمنية مختلفة: ألارا الفرعونية سنة 1542 قبل الميلاد، ألارا الحسيني في القاهرة سنة 2013م، ميري مجيد، جبال لبنان- القاهرة 1965م، آني داديان، أذربيجان-لبنان 1918م، رحمة، بغداد-الموصل 1772م، شمس الصباح، إشبيليا 1230م. هذه الحكايات تتبعها زينة «فتاة المستقبل» في شكل خيوط أثير؛ إذ تتمكن من الاطلاع على تجاربهن، والتعرف إلى حكاياتهن، مصايرهن ومصير علاقاتهن مع الرجال في الحياة الأولى، ثم بعد مغادرة كوكب الأرض إلى العالم الآخر. فعلى الرغم من اختلاف الأزمنة والعصور والأمكنة فإن بطلات الحكايات تشترك في مسار مُقاوم ضد سلطات عديدة، تُمارس كلها القهر ضدهن بهدف إخضاعهن، مقابل إصرارهن على المقاومة، ورغبتهن في الانعتاق والتحرر، وخلق مصير مختلف.
تتصاعد حركية السرد في كل حكاية لتشكل ذروته بؤرة الحكي عند ذروة الخضوع، فيما تنحل العقدة حين تتفكك عُرى القهر/ التسلط، وتتمكن بطلة الحكاية من الانعتاق أو مباشرة محاولة تحقيق ذلك. على مدار 221 صفحة ترصد الكاتبة لنا عبدالرحمن تاريخ النساء وتحولاته من خلال تَقاطُع مصاير نساء/ بطلات الحكايات، وتحول هواجسهن من سؤال المصير: «من أنا؟» إلى سؤال يبدو أكثر أهمية: «ما مصيري؟» ص65. بدايةً شُغلت النساء بسؤال المصير قبل سؤال الهوية؛ لأن الأنثى عمومًا لم تكن معنية بترف سؤال الهوية وتعريف الذات/ أو تحقيقها بقدر ما كانت محكومة بسؤال المصير «إلى أين؟».
تتعرف بطلات الحكايات الست بكونهن نساء، وليس تكرار الحكايات بأسماء مختلفة، وتنويع البيئات والأديان واللغات إلا تأكيدًا لهذه الحقيقة: وحدة المصير، ثم لاحقًا تأتي الصفات التي تصبح هامشية مقارنة بأهمية المصير: «إنها امرأة، ملكة أو أميرة… أو كاهنة» ص38. لذلك لم يكن غريبًا أن تلجأ ألارا في مصر القديمة إلى الربة إيزيس هروبًا من الإله، وكذلك تهرب زينة/ النساء إلى رصيد حافل من النضال المشهود ولكن أيضًا الخفي لتستمد كل واحدة يقينها/قوتها/هديها، فقد عادت زينة لتنبش في سير النساء وتاريخهن، عادت وحدها من دون اصطحاب أحد، لا آدم الرجل الذي أحبته ثم انفصلت عنه، ولا رام، الروبوت الذي اتخذته بديلًا من الرجل.
الارتحال قدر أو الارتحال نحو القدر؟
يمثل الارتحال في الرواية ثيمة رئيسة ذات حمولات دلالية متعددة، ولا سيما أن الرواية مسكونة بهاجس مصير بطلاتها، فيبدو الارتحال بداية وسيلة للخلاص مهما تنوعت أشكاله. فسواء كان ارتحالًا «عموديًّا»، من خلال السفر إلى الله بتوسل طريق الإيمان (كما فعلت ألارا الفرعونية)، أو كان أفقيًّا من خلال السفر والرسم (ألارا المصرية) والغناء (ميري)، أو من خلال الهجرة: هجران الحبيب وهجران البلد (آني)، والهروب (رحمة)، والأسر (شمس الصباح)، يمثل فعل الارتحال في كل الحالات تعبيرًا عن الرغبة في الخلاص. وقد تطور هذا السعي للخلاص إلى مستويات متتابعة ومختلفة، من السعي للخلاص من الهلاك الجسدي والموت، إلى السعي للخلاص من القهر والتبعية، ولكن الارتحال بات ملتبسًا بأقدار النساء/ بطلات الحكايات، غير واضح إن كان وسيلة لتغيير أقدراهن، أو أنه بات هو ذاته قدر.
في المقابل تُظهر الرواية تباينًا في مستويات مقاومة النساء، ففي العصور القديمة وما تلاها (ألارا الفرعونية، رحمة، آني) كانت النساء تواجهن الفناء، فيما بدأت في عصور متقدمة تتطلع إلى البحث عن تحقيق الذات: ألارا الحسيني في مصر الحديثة. ولعل الرواية تتنبأ بمرحلة ثالثة هي التي تمثلها زينة، فتاة المستقبل، حيث ستقرر النساء مصيرهن، وإن كان قرارًا بنصف إرادة، وبحرية مصادرة في الواقع، ما دامت زينة تحررت من آدم ليكبلها الروبوت رام، الذي استطاعت السفر من دونه بمشقة، ولتصل في نهاية سفرها بتوجيه من نساء الحكايات إلى خلاصة تصلح لتصير «وصية» للنساء تُجمل حقيقة علاقة المرأة بالرجل.
الحكايات الرئيسة وحكاية الهامش
تؤكد الكاتبة طوال الرواية أن علاقة المرأة بالرجل هي دائمًا علاقة ملتبسة، متوترة ولا يمكن أن تكون هادئة مطلقًا حتى حين يبدو الرجل مختلفًا كحازم بالنسبة لميري، ومميزًا كأمان بالنسبة لـ«ألارا الحسيني»، ومراد حبيب آني. العلاقة بين الرجل والمرأة في كل هذه الحكايات هي وصلات متكررة من التوتر. فحازم لم يستطع أن يملأ عين ميري، وأمان كان نسخة مكررة من الرجل الذي يشرع بالدين لنزواته، فيما تحول مراد من حبيب إلى عدو. وإن بدا لوهلة أن هناك نموذجًا راقيًا للرجل المثقف، المتفهم، الذي مثله أبو الوليد زوج شمس الصباح؛ خصوصًا حين ترك لشمس الصباح حرية اختيار مصيرها في البقاء معه أو العودة إلى موطنها وأهلها حيث أُسِرَت، إلا أن النهاية جمعت بين كل هؤلاء في قالب واحد يمثل الرجل الأناني، ترجمته إجابات نساء الحكايات عن سؤال زينة عن الرجال الذين أحببنهم، فجيما آثر الحرب وألارا الفرعونية تعرف ما تريد «تركته ومضيت، ما لي به، وأنا أريد الحياة بسلام» ص217، أما آني فلم تبحث عن مراد: «لقد شاهدته من بعيد لكنه لم يرني، ولم أرغب بالحديث معه» ص217.
وتقول شمس الصباح: «وجدت محمدًا عاكفًا على كتبه، بادلني عبارات قليلة عن شوقه لي، لكنه واصل القراءة» ص 217، أما رحمة التي كانت الأكثر تأثرًا فقالت وهي تضع يديها على وجهها: «مرة واحدة فقط شاهدت فيها هوفان يجول قرب النهر، يعزف على نايه، حين شاهدني قال لي: إنه أهنأ حالًا لأن رُوحه حرة، وأني سجنته معي…» ص217. واسَتْها ميري التي أجابت أنها لم تجد حازمًا ولا أمجد، فكلاهما «اختار الرجوع إلى عالمه» ص217. ألارا الحسيني كانت الوحيدة التي لم تتعلق برجل، فالنساء في القرن الحادي والعشرين بِتْنَ أكثرَ وعيًا، والعالم بات أمام تحديات أكبر خصوصًا مع الوباء الذي غادرت الأرض وهو يكتسحها. لذلك كانت ممتنة لمغادرتها في الوقت المناسب.
إنه تاريخ النساء الذي تقدمه الرواية في حكايات رئيسة لست بطلات. ولكن الرواية في الأخير جمعت ثماني نساء، بدت حكاية اثنتين منهن هامشية ولم تشغل مساحة كبيرة من الرواية، ولكنها في حقيقتها هي النموذج/البديل الذي تقترحه الرواية، أو تقترح التفكير فيه، والمفاضلة والاختيار بينهما. النموذج الأول هو زينة التي انفصلت عن آدم/الرجل لتختار شريكًا آخر تمامًا، وهو الروبوت رام. ولكن حنينها لآدم لم يزل يحيا بداخلها، تؤكده أحلامها ليلة رحيلها، ثم قرارها النهائي بالمغادرة من دون رام وقد بات يمارس عليها سلطته أيضًا. ولا تبدو زينة، التي جاءت من عالم ثار على ما بات يبدو علاقة تقليدية بين الرجل والمرأة، حيث يمكن للمرأة أن تنجب من دون الدخول في علاقة مع الرجل، فزينة لا تعرف والدها بل أتت «من بنك النطف» ص219، النموذج الأمثل الذي تقدمه الرواية، بل يبدو أن النموذج الذي مثل حالة استثنائية ووحيدة لإنصاف المرأة هو دارا، المرأة «الفرحة، المتحررة» ص216.
دارا لم تكن حكايتها لتُلحَق بحكايات النساء الأخريات التي تعبر قصصهن عن تاريخ من القهر والضياع والتوتر، بل جاءت حكايتها هامشية، ولكن متفردة، حكتها بلغة مختلفة -الإشارة- لا تستطيع كل النساء استيعابها، فوحدها ألارا الفرعونية كانت تفهم لغتها وهي تعبر باختصار عن حياتها: «أنتُنَّ غريبات جدًّا، حياتكن غير معقولة، نحن كنا نواجه التنانين، ونتحدى الثعبان الهائل الذي له رؤوس ثلاثة، ونمتطي رقبة الديناصورات ونغفو» ص206. إنه التعبير عن القوة التي امتلكتها النساء في العصور الأولى، «والبشرية في مهدها» ص216. هذه الحكاية التي بدت هامشية، والتي لم تقولبها الكاتبة في خط سردي يبدأ وينتهي عند نقطة ما كما الحكايات الأخرى، بل قدمتها باختصار كنموذج، أو ما يشبه الوصية التي ختمت الرواية، والتي يمكن أن تغير تاريخ النساء لو تَدبَّرْن فيها ويستلهمنها، ولكن كيف؟
الميزات الفنية للرواية
من أهم ميزات هذه الرواية أنها قدمت شكلًا مختلفًا في تناولها لموضوع بات مقولبًا في صور نمطية وكليشيهات متكررة؛ إذ تمكنت الكاتبة لنا عبدالرحمن من طرق إشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة ووضعية النساء وما يعانينه من خلال بناء حبكة وقالب مختلف، يبدو في الظاهر أنه يقول مسلمات مكررة، إلا أنه في العمق يطرحها بأشكال مبتكرة. فالكاتبة أثثت نصها بعرض بيئات متعددة وشخصيات من عصور وأزمنة مختلفة، وهو ما أعطى الرواية غنى وعمقًا يجعل طرحها إشكاليًّا وغير مباشر، يشد القارئ إلى عمق الحكاية ويدعوه إلى التأمل في حمولتها الدلالية والرمزية التي تبدو بسيطة ببساطة الحكايات المقدمة، ثم تنفتح نحو مستويات أعمق تكشفها القراءة المتفحصة. إضافة إلى التنويع في أشكال السرد وأصوات الرواية، حيث زاوجت بين الراوي العالم في مداخل الحكايات، قبل أن تعطي لبطلة كل حكاية فرصة الحكي، وهو ما ينقلنا مباشرة، وفي اللحظة الأنسب، إلى حميمية التجربة المعيشة، ويلج بنا في أعماقها فينقلها لنا نابضة، حية.
وعلى الرغم مما تخلل النص من بعض الهنات التي ارتبطت ببعض المواضع التي طغى عليها السرد المتتابع في خط أفقي تقليدي، والراوي العالم، حيث كادت تفقد متعتها مع تباطؤ حركية الأحداث؛ فإنها في العموم تمكنت، بما استعاضت به من أدوات، من بناء نص متكامل وعميق يفتح القراءة في كل مرة على أسئلة أخرى جديدة، كالسؤال الإشكالي الذي أشار إليه غلاف الرواية عن «مخاوف في علاقة الإنسان مع التكنولوجيا، وما تحمله من مخاطر تقلص من حضور المشاعر الإنسانية لصالح الآلة». هذا السؤال أتى ليخدم العقدة الرئيسة للرواية، ولكنه يفتح المجال أمام القارئ ليتساءل ويتأمل المستقبل الممكن، ويعيده إلى طرح سؤال المصير المرتبط بهويات ذات منطلقات وأبعاد مختلفة تمامًا هذه المرة، سؤال قد يكون موضوع نبش في نص قادم، وهكذا هي الرواية الممتعة، تلك التي تنشغل بطرح الأسئلة، وليس تقديم الإجابة.
فوزية بوغنجور – باحثة جزائرية
مجلة الفيصل : السعودية