«الأنا» لدى لنا عبدالرحمن تسرد… و «الهو» يسيطر
يأخذ « الآخر» مساحة كبيرة في رواية الكاتبة لنا عبدالرحمن «تلامس» الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم، ناشرون (بيروت) وأظن ان القارئ الاعتباري ذا الثقافة المتوسطة لن يرى أبعاد هذا الآخر في النص كما قد يراه غيره. فقد بنت لنا عبدالرحمن نصها على هذا « الآخر» بمكونات مختلفة لتنتج معنى ما.
بطلة الرواية « ندى» تظل هامشية في هذا النص، بطلة تتحدث عن الآخر، وترى نفسها من خلاله. وحين تجد « آخر» – متمثلاً في شخصية «محمدو» – يؤسس لكيانها المستقل تهرب منه بلا سبب مقنع، وتعود للانصهار في «الآخر» الذي يطغى عليها ويصنفها بعيداً من العناصر الفاعلة في الحياة. بساطة «ندى» تكمن في هذا التخفي وراء اهتمامات غير جادة تمثل جوهر حياتها. فهي صبية في مقتبل العمر، لها مدونة على الأنترنت تكتب فيها أشياء كثيرة تخطر على بالها، تحب السينما والفن، لكننا لا نراها تدخل قاعة سينما أو تحضر حفلة، إنها متقوقعة أمام الشاشة التي تطل على العالم من خلال حياتها البسيطة والساكنة. ومع أنها الشخصية المحورية في الرواية، وقد أخذت دور الراوي أيضا، إلا أنها لا تعرف شيئاً عن حالها، لا تعرف أهدافها ولا رغباتها ولا تفسيراً منطقياً لكل تصرفاتها. وفي المقابل تعرف الآخر معرفة عميقة بدءاً من الأقارب إلى الأصدقاء، ثم إلى الجيران…
دور السارد العليم الذي لعبته « ندى» وطغيان تهميش الذات أعطيا للنص كله صبغة تبين مدى حضور «الآخر» في حياتنا كمجتمع عربي، إذ لا يوجد كيان مستقل لفرد فيه. هناك دوماً تلك الجماعة التي يبدأ منها المرء وإليها ينتهي، تماماً كما بدأت قصة الرواية من العمة المجنونة التي تخيف «ندى» من ناحية ان تصبح مثلها. ومع أنها كانت تحاول أن تهرب من هذا المصير إلا أنها وجدت نفسها فيه في النهاية حين راوغتها الحرب. وبدلاً من أن تترك بؤرة الحرب وتبتعد، من خلال خيارات وضعتها أمام نفسها، إلا أنها اختارت العمة المجنونة، تذهب لفضائها المكاني في لحظة حاسمة من دون أن تقدم تبريراً مقنعاً وتنصهر في تلك الشخصية.
وإن كان الأدب العربي زاخراً بنماذج كثيرة من «الآخر»أو الـ «هو» فهو عند لنا عبدالرحمن النموذج الذي يمثل الغياب في كل معانيه والذي يلغي الأنا في شكل تعسفي أحياناً وغير واعٍ في أحيان كثيرة. فالجنون يعني فقدان العقل واللاتوزان وغياب الحس المسؤول والخضوع لنظام قمعي وإجباري في الحياة.
إن اختيار شخصية العمة المجنونة كقرين للشخصية الرئيسة في الرواية أعطى أبعاداً عميقة للنص كله ولمعانيه، وإن لم تستثمره الروائية جيداً لأنها دخلت في متاهة تفاصيل أخرى، قلصت من مساحة الاجتذاب الجمالي وأضعفته، كما أثرت هشاشة بعض الحوارات بين شخصيات الرواية في المضمون الجمالي للنص، فإذا هو بعيد عن دسامة الحوارات الروائية التي يلجأ إليها بعض الكتاب لجعل الحوار إضافة جمالية للنص مستخدمين خلفياتهم المعرفية من إرث ثقافي وفكري وفلسفي.
كانت اللغة بسيطة وسطحية في هذه الحوارات، باللهجة اللبنانية التي يستخدمها العامة. وفي الغالب شكلت كسوراً في البناء السردي للأحداث، الذي كان فعلاً جميلاً ومشوقاً، وبدا واضحاً في الجزء الثاني من الرواية.
وفي كل الحالات تبدو الصفة الغالبة لهذه الرواية هي التهميش الكبير للأنا والابتعاد تماماً عن الإسراف في المكاشفة والبوح على عكس الروايات المنتشرة راهناً التي تسرد بضمير الأنا، ويأخذ فيها السارد (الأنا) المساحة الأوسع لتشكيل الفضاء الروائي. لدى لنا عبدالرحمن كانت «الأنا» ساردة وكان «الهو» الفاعل الحقيقي للأحداث.
وليس غريباً أن نجد هذه الصفة غالبة في نص نسائي. فالمرأة العربية التي بدأت تكتب نفسها، وقضاياها، بضمير الأنا كاشفة أعماقها بما في ذلك المسكوت عنه، قد تكون أيضا لنا عبد الرحمن التي تكتب الآخر بكل أنواعه وتحيل نفسها الى هامش الأحداث. حتى في وصف تلك العلاقة الحميمية بين ندى ومحمدو، ندخل متاهات فجائية تبعدنا عن عمق تلك العلاقة، وكأنها تتوقف عند حدود شاشة الكومبيوتر، ومعلومات سينمائية طارئة. كان العنوان موفقاً جداً مقارنة مع محتوى الرواية: عالم أبيض واضح وعالم أسود معتم… ولا بدّ من أن ننوه بأن «تلامس» الرواية الخامسة للنا عبدالرحمن، وهو قفزة في نتاجها الأدبي.
—
* نقلا عن ” الحياة ” اللندنية
فضيلة الفاروق