عن “أغنية لمارغريت “

 

ليس من الممكن معرفة إنسان ما تمام المعرفة، أو أن ندعي معرفته بشكل تام وواضح فقط من مجرد علاقة متقطعة أو عدة مقابلات متفرقة أو حتى منتظمة، الكتابة وحدها قادرة على تقديمه وكشف حقيقته وسبر أغواره بالشكل الصحيح الواضح من دون علاقات أو لقاءات أو سابق معرفة، الكتابة تكشفه صورة ونجاتيف معا.

وبالكتابة استطعت معرفة واكتشاف ما لم أعرفه من الواقع الحي، فمن رواية “أغنية لمارغريت” أعدت اكتشافي ومعرفتي لصديقتي لنا عبدالرحمن التي جعلتني الكتابة أقسمها إلى لنا عبدالرحمن ما قبل رواية أغنية لمارغريت، ولنا عبدالرحمن ما بعد رواية أغنية لمارغريت.

أعرف لنا منذ 11 سنة حين كتبت عن روايتي مزون وردة الصحراء من دون سابق معرفة، وكانت كتابتها بداية طريق المعرفة بيننا التي استمرت في لقاءات سريعة عابرة لم تمكني من معرفتها بشكل عميق، أو بالأحرى أعطتني معرفة قاصرة كونتها من انطباعات عن هذه المرأة الرقيقة واللطيفة والروحية، لكن لم تمنحني الفرصة الكافية للإحاطة بأصالة إبداعها وعمق شخصيتها التي عرتها وكشفتها لي روايتها أغنية لمارغريت التي كانت بمثابة مفاجأة لي، فهي من الروايات التي أحب أسلوب كتابتها وموضوعها الإنساني الكاشف لأعماق النفس البشرية بكل ضعفها المتأرجح ما بين الشك واليقين، والأمل والقنوط، والقوة والضعف، وبكل التساؤلات الفلسفية لحقيقة وماهية الحياة والوجود والزمن ومدى جدواه أو عدميته.

رواية مكتوبة بالتناص ما بين واقعين لحياتين متشابهتين في حال العزلة الرهيبة التي تفصلهما عما حولهما، حتى إن كانتا في قلب الحدث.

تلك التقاطعات الغاطسة في عزلتها هي التي مدت خيوط نسيجها فيما بين حياة زينب الفتاة الفارة مع أهلها إلى بيت خالها هربا من الحرب اللبنانية التي طالت حيها ومدينتها، وما بين حياة الروائية الفرنسية مارغريت درواس التي تعيش أيامها الأخيرة في عزلة الحدود الفاصلة ما بين الحياة والموت.

زينب ترصد في رسائلها عزلتها في مدينة ممزقة وضائعة ما بين الحرب وضبابية السلام، وحياة أسرتها المضطربة في هذه الأوضاع المتوترة بسبب ظروف الحرب والتهجير، وخوف أمها من فراق أولادها ومن موت الأصدقاء، تكتب لنا عبد الرحمن تلك الرسائل في تناص متناغم حزين وشجي يرصد التشابه فيما بين الحياتين في عزلتهما ونظرتهما الخاصة في عيش تلك العزلة، وتوجه تلك الرسائل إلى يان أندريا الحبيب الأخير لمارغريت درواس حتى إن لم تصل إليه.

كتابة متأنية متأملة تتذكر وتنبش في كل التفاصيل الممحوة التي تبحث عن ذاكرة عتيقة للأماكن المدللة وأيضا تلك المهمشة من مدينة بيروت وذاكرة أمكنتها المتغيرة من أثر حروب متكررة، ومن حياة ناسها الأحياء والأموات في حروبها.

هذا التشابك في الأحاسيس والوعي في التفاصيل التي حددت الكتابة بالخط الأسود حياة وأفكار مارغريت درواس، وبالخط الفاتح حياة زينب، وهناك خط ثالث تُرك للراوي العالم بالتفاصيل، وكل هذه الخطوط نسجت بتناغم روح واحدة وحدت ما بين حياة الاثنين في سرد شاعري جميل.

رواية أغنية لمارغريت كُتبت بعمق وتأمل وحساسية رهيفة يقظة لأصغر التفاصيل الحياتية العابرة، فمثلا ربطات البقدونس والنعناع والزعتر البري التي ينادي عليها البائع في الصباح تصير يقظتها الصباحية في الشارع مجرد ذكرى تنتشر في كل بيت.

رواية فيها الكثير من الوجع أو كما تقول لنا: كثير من الوجع تحت معطفي، الحياة شرك كبير، ولا يوجد ما يعوض الغياب، روحي كتلة منّتفة متشظية من الوجع، لأنني أستسلم لقوة تتجاوزني، وإن لم أترك نفسي لها فسأسقط على الأرض ميتة الروح.

طائر هدهد ماكر نقر قلبي، وترك في صدري ثقبا بحجم رصاصة، مكان قلبي صار فجوة سوداء، وكما لو أن وحشا كبيرا التهم عضلة القلب عندي وترك مكانها فراغا.. وتركني أحيا هكذا بجسد جراحه مفتوحة تواجه الشمس والهواء.

رواية أغنية لمارغريت هي من النوع الذي يطرح أسئلة الوجود في زمن عابر لا يعبأ بمن يمرق فيه.

—-

*كاتبة وروائية كويتية.

فوزية الشاويش السالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى