” أغنية لمارغريت ” تطرح سؤال الحب والحرب

 

 

 

الولوج إلى قلب العمل الفني الشيق ” أغنية لمارغريت ” للكاتبة لنا عبد الرحمن ؛ نقلني إلى أجواء باريس الممطرة ومناخ لبنان بربيعه الجميل وصيفه الملتهب , وعشت في أزمنة متضاربة تنسج كلها لغة نابعة من القلب تصور قصة حب يتم إستحضارها في واقع لبناني قلق للغاية ؛ يعاني من الصراع والحدة والكراهية بسبب الحرب الآلية التي مرت بها هذه البلاد . وقد غاصت الشابة الصغيرة ” زينب ” في قصة روائية فرنسية وقعت في غرام شاب يصغرها بسنوات كثيرة ويبادلها العشق , ومن خلال هذه المعادلة تنمو لغة القلوب تتحدى كل شئ تقريباً , مع تجاوز لرقعة الزمن , فالحب يوحد القلوب ويدفع في شرايين الجسد الدماء . وقد تكون هناك أجساد شابة لكنها هرمة وتعاني من الشيخوخة لعدم قدرتها على الحب . وكانت مارغريت دوراس في الخامسة والستين ياني أندريا في الثامنة والعشرين ؛ ولعل الثقافة ومشاعرهم المشتركة وانغماسهما معاً في احتراف الأدب وعشاق الفن من أسباب التقارب وعبور الفجوة الزمنية بينهما .

وعندما كان الصوفيون يطلقون طاقة الحب في قلوبهم , كانوا يكتشفون أنفسهم أولاً وينعمون بهذا الإكتشاف , ثم ينطلقون نحو العالم الخارجي , فالحب هو المنقذ من الضلال , وهو القادر على عبور بحيرات الألم والعذاب والخواء . كان الصوفيون يشعرون بثراء الحياة على الرغم من فقرها المادي المحيط بهم . وكانوا يعتقدون في قدرتهم على اكتشاف قدرة الروح على انقاذ الجسد من عوامل التحلل والغبار والتشتت والجوع المادي . لقد سجل العاشق الفرنسي الشاب تجربته في كتاب حمل عنوان : هذا هو الحب . وفجّرت كلماته ورسائله الحنين الجارف لدى فتاة لبنانية تحكي قصتها في هذا التداخل الفني الجميل .

كان وراء أغنية لمارغريت الشعور العام لدى بطلة الرواية بالحاجة إلى الحب في زمن الصراع والتوتر والتهجير نتيجة الحرب الأهلية الدامية . كان لبنان يتعارك مع نفسه وروحه , لذلك عبرت نفس رقيقة منطلقة الحدود واخترقت الزمن لتجد هذه القصة الرائعة التي حدثت بالفعل في الواقع ويتم استحضارها مرة أخرى لتروي الأرض العطشة المتطلعة إلى حنان وحب وعاطفة .

إن النفوس تموت بسبب جدب العاطفة , وكان الرسام ” بيكاسو ” يجدد حياته دائماً بالحب والغرام والولع بالعشق , وهو مفتاح تجديد خلايا النفس . وعندما كان يفشل في العثور على إمرأة يحبها يهجر الرسم والإبداع وينكفئ على نفسه في حزن أليم . وعندما يخرج الفنان من كهف اليأس بسبب الحب , تتجدد الطاقة وتنفتح ظهور الإبداع فيكون الإنتاج معانقاً بالأمل والحب حيث تنهمر ينابيع الخير من كل صوب .

والشر هو الجدب وهو المدمر لخلايا الإبداع , بينما الخير هو عمق عاطفة الحب ويُفجر مشاعرها الجميلة . وقد عكفت على قراءة هذه الرواية القصيرة والكبيرة جداً في العوالم التي تطرحها بلغة بسيطة شاعرة مكثفة إلى أبعد الحدود .

كان ” العقاد ” أن بيت الشعر البليغ أكثر تعبيراً عن رواية يتجاوز عددها الألف صفحة . وهذا الكاتب العبقري كان دائماً يقع في الأخطاء الرهيبة بسبب تعميمه وإصدار الأحكام القاطعة . ولو كان قرأ رواية لنا عبد الرحمن لغير رأيه بالتأكيد , إذ أن صفحات قليلة تختذل تجربة عميقة للغاية تطوف بأرجاء دورة الزمن وترحل إلى باريس وتقف في لبنان وتفتح كتاب جرئ يُسجل حكاية حب بين إمرأة كاتبة ومُسنة وشاب صغير عشقها بوله .

والحب يقرب المسافات مثلما يخترق الحواجز الطبيعية واللغوية والإجتماعية . والحب لا يعرف فجوات السنين , وكل قصص العاطفة العظيمة تدور حول هذه الحلقة , فإن القلب عندما يرى المعشوقة ويقع في غرامها يقفز ويتخطى كل شئ .

وأهل البلادة فقط والغباء لا يعترفون بهذه اللغة , بينما أهل الفن والجمال فيحتفون بقانون العاطفة الرائع , حيث تقول ” كارمن ” في رائعة ” بيزيه ” أن الحب طفل بوهيمي لا يعرف قانوناً .

لقد تشبعت الشابة ” زينب ” بقصة حب ورحلت إليها وانهارت الحواجز , حتى تخيلت نفسها مارغريت , وبدأت هي ذاتها تكتب الرسائل إلى هذا العاشق النبيل , نعم إن العشق ينطلق من النبل , كما إنه لا يعرف قانون البلهاء والناس القش . وفي المدن القبيحة المقهورة بالقمامة والذباب والفساد , تصبح النفوس مغلقة وغير قادرة على إفراز المشاعر وتطلق رصاص العداء على الحب والمحبين , لأن الجوعى لا يعرفون العشق كما أن الحمقى يقتلونه أيضاً .

كانت ” زينب ” في الرواية الرائعة متعطشة لحب ما ينقذها من ركام القلق والخوف ومن الموت الموجود في كل مكان . ونحن عناصر تحاصرنا البلاهة والقبح والدمامة , فنعبر حواجز الزمن بحثاً عن الآخر الذي يحتضن تجربة مثيرة لإنقاذ أنفسنا من صخور البلادة .

هذه الحبكة الفنية رائعة سمحت لنا بالإبحار مع لنا عبد الرحمن وبطلتها الشابة التي تملك هذا القلب الجميل الكاره للقبح بكل أشكاله والذي يحاول انقاذ نفسه بالإنغماس في حكاية داخل دفتر العشق , عندما أحب شاب يافع إمرأة مسنة , جميلة بفكرها وشابة بحيوية عقلها وقلبها الرائع الخلاب .

لقد عشقت هذه المرأة التي هبطت على الورق من باريس إلى صحراء سيناء فاستمتعت بها في حضور أغاني إديث بياف ورأيت نهر السين البيع وتجولت في شوارع باريسية تنضج بالزهور والجمال والرشاقة في كل مكان . وعندما تحاصرنا الأيام الكئيبة تنفتح أمامنا طاقات الخيال , وهذا هو سر خلود الأدب إذ يفتح النوافذ ويجدد الأمل ويجعلنا نعيش داخل الحبكة الروائية بكل حواسنا .

لقد رسمت المؤلفة خطوط عملها بإقتدار , خصوصاً هذا القفز الرائع في دوائر الزمن والربط بين قصة حب خلابة وبين الواقع المدمر الذي كان يحيط بالبطلة < زينب > حيث كانت تعيش أجواء الحرب الأهلية اللبنانية وما خلفته من تهجير وصراع وتشتت وحالة عدم اتزان . إن أغلب أعمال الكاتبة اللبنانية تبحر داخل أجواء هذا الكابوس وعلى الرغم من إنحساره لا تزال سحبه السوداء راقدة في جوف الذاكرة .

إن لبنان الجميل تعارك مع نفسه ؛ فتفجرت أنهار القبح في بيئة كانت تنتج الشعراء والغناء والموسيقة .. هذه المعادلة هي حكمة التاريخ , فعندما تنضب طاقة الحب تنفجر الخلافات والصراعات ويرفض كل شئ الآخر . وفي أزمنة الحروب لا ينمو الحب , لذلك هذه الفتة الرقيقة والوحيدة والحالمة , أغلقت باب الواقع وفتحت نافذة الخيال على قصة مثيرة جمعت بين رجل وإمرأة يفصل بينهما اختلاف سنوات العمر , لكن عاطفة الصدق الجارف قربت بينهما . ويساعد على نمو مشاعر التقارب الخلايا العقلية والوجدانية ومذاق الثقافة المشترك , وكأنه يمكن عبور حواجز الحروب بالحب وفهم الآخر , انك عندما تقرأ ما تحب من خلال حبر العاطفة تجد التوافق والإنسجام معاً , لكن الكراهية تفجر الغضب بكل أشكاله مع تدمير .

من بلاغة لغة البناء الموسيقي الكلاسيكي اعتماده على التوليف والتناغم بالقفز بين عدة جمل , يتم نسجها ثم اعادة تفكيكها والسماح لكل نغمة بالعزف المنفرد , ثم الرجوع مرة أخرى إلى التآلف والتداخل لتشكيل موجة موحدة غامرة بالعاطفة والإنفعال الرائع .

كنت استمع إلى سيمفونية شهرزاد للمؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف , وقفز إلى الذهن هذا الشعور , وعند قراءة رواية لنا عبد الرحمن شعرت بهذا الإحساس , فهناك عدة أنغام متفرقة يتم جمعها من خلال شخصية ” زينب ” ثم بعد ذلك تتفرق في كل اتجاه داخل حكاية مارغريت وعشيقها ثم تتجه الامواج والألحان مرة أخرى لتتدفق على جميع أركان الحبكة الروائية .

إن العمل الروائي المدهش يفجر الخواطر ويعكس تداعيات مختلفة ؛ وجمال الرواية انها تدفعنا دائماً سواء نحو أنفسنا أو في اتجاه الغير أو لتأمل المشهد العام في عمق العواطف .

قال الشاعر عبد الرحمن صدقي : أن الشعر وجدان , ويمكن استعارة هذا التوصيف لنطبقه على رواية لنا بعد الرحمن , بأن الرواية  الجميلة تعزف بالفعل على أوتار الوجدان ؛ وهناك تداعيات اجتماعية ونفسانية في هذا العمل غير أن العاطفة الكبرى المحركة للأحداث تتبلور عن حكاية داخل أخرى تنقلنا فصولها من حدث لآخر , ثم تعود الحبكة للتفاعل في عزف جميل لنرى خارطة عريضة من أفعال الزمن والناس وردود الأفعال , لكن عمق هذه الرواية هو الإحساس الداخلي والإيقاع الأكثر نشوة بأن الحب يبني والكراهية تدمر .

وقد تكون تلك حكمة معروفة , غير أن النسيج الروائي يبرز من خلال تدفق في السرد يرقى إلى مرتبة الشعر , إنه نثر لروح القصيدة البليغة بكل المعاني والإشارات الوجدانية المتدفقة .

أغنية لمارغريت عزف بلغة القلب في نسيج روائي مدهش وبديع وهذا ملخص الحكاية كلها .

 

يسري حسين

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى