«أغنية لمارغريت»: معزوفة حب وحرب

 

تدخلنا رواية لنا عبد الرحمن “اغنية لمارغريت” الصادرة حديثاً عن “الدار العربية للعلوم ناشرون” في بيروت، الى سردية روائية رومانسية السياق، اكتوائية المضمون.

ثمة خطان رئيسان للرويّ هنا، الخط الأول يتصل بزينب بطلة الرواية التي أخذها شغف كبير بقصة الحب التي عاشها كل من الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، والكاتب يان اندريا، رغم فارق السن الكبير الذي كان يفصل بينهما.

الخط الثاني يتصل بالواقع الساخن الذي شهدته زينب في الحرب التي شنتها “اسرائيل” على لبنان، في شهر تموز (يوليو) من العام 2006. كانت الضاحية الجنوبية لبيروت هي الضحية أو الهدف الأبرز  لقوات العدو الاسرائيلي.

هي “أغنية عن الحرب والحب والحياة” جمعت عبد الرحمن خيوطها ومناخاتها ومعانيها ومؤثراتها في مزيج غلبت عليه اللغة التي تسعى الى مكاشفة البواطن أو السرائر في قلوب شخصيات الرواية، الرئيسة منها والهامشية. وساندتها المخيلة التواصلية مع الذين يتركون الأثر في الوجدان. هنا تتقفى الكاتبة العلاقة “السحرية” التي جمعت مارغريت ويان، من خلال رسائل رمزية أو أدبية تخطها زينب لحبيب مارغريت، ومن خلال مقاطع ائتلافية تتداخل في متن الرواية، حيناً، وتبتعد أحياناً، كمن يقبض بيديه وعينيه، على واقعين: أحدهما ساخن دامع مرعب وصادم، والثاني حالم مغر مدهش وآسر.

تكتب زينب لتكتشف ماهية علاقتها بدوراس، تخاطب يان لتفهم لماذا “أحبته مارغريت وعاشت معه حتى لحظاتها الأخيرة. ولماذا ظل هو بقربها، يساعدها على الرحيل بهدوء”. لكن زينب لم تكتف بتوجيه الخطابات الى يان… بل صاغت وهي تسرد حياتها اليومية مع عائلتها في الحرب، مقاطع من سيرة حياة عاشتها مارغريت في بيتها، داخل رفتها في الطابق العلوي، اذ كلما كشفت لنا زينب عن يومياتها المحكومة بالعزلة الداخلية والعاطفية و”الحربية” على حد سواء، كلما سارعت الى بيت مارغريت وحياتها وخصوصية غرامها بيان.

تقول زينب موجهة رسالتها الى يان أندريا ـ ص 10 ـ: “يان… الوقت الآن ليل، لكنه تشابه مضن يرهقني، يدفعني الى الكتابة لك. أبحث عنها، وعنك. أنت تعرف ما لا أعرفه لكنك لا تعرف شيئاً عني. سأثق بك كي تضع حداً للتشابه الذي يرهقني، للتشابه الذي ربما يكون وهماً، أو هروباً من الحقيقة. لكن هل هناك ما يسمى حقيقة. أتفهمني يان؟ أتدري لمَ اكتب إليك؟ ربما لأنني أظن انك عرفت العزلة التي أحكي عنها، عزلة الزمن، والوقت القليل، والحب، الحب بكل أشكاله وتقاطعاته. ثمة تقاطعات كثيرة في الحب، أليس كذلك؟ هل آلمتك مارغريت يوماً؟ هل كنت تحبها الى درجة انك لم تفكر بالألم. بماذا كنت مأخوذاً فلم تدرك الوجع إلا في وقت متأخر، بعدما غابت عن عالمك؟ أنت لا تملك الاجابات عن كل هذه الأسئلة، أعرف، لكنني أستمر في الكتابة اليك، في الوقت الذي لم يعد أحد يتذكرك. أفتش بين أوراقك أعبث  بذاكرتك، وأسألك عنها، مضى على رحيلها أعوام كثيرة. بأي اكسير تمكنت من أسر قلبك حتى الآن؟ سأستمر في الكتابة لك، عنك، عن مارغريت، وعني الأصل الى يقيني الخاص الذي يمنحني الخلاص”.

نبض الرواية المنقسم الى قسمين، استطاعت الكاتبة لنا عبد الرحمن أن تؤمن له “مضخة” لغوية وتعبيرية ذات دفع واحد قادر على تأمين الضخ للجهتين أو للجبهتين معاً. جبهة الحب في عالم الأدب الواقعي، وجبهة الحرب في عالم الواقع العبثي، فيما تتفتت أواصر العائلة في رحلة الهروب من منطقة الى أخرى، وفي رحلة الصدام مع الأخ والأم والشارع والصديق، والحبيب، والبائع والبلد. نقرأ ـ ص 16 ـ: “حملت زينب صينية الطعام الى المطبخ وهي تفكر أن وقت الحرب مهم بالنسبة اليها، لأنه أبعد عن ذهنها التفكير في الانتحار. فالموت مجاني ومتوافر بكثرة. الموت لم يعد حدثاً. أي أنها لو ألقت بنفسها الآن من هذه النافذة، من هذه الشقة، ومن الطابق الثاني، في مبنى يطل على حديقة الصنايع، التي يسكنها النازحون، فلن يكون ذلك سوى خير غريب، لكنه لن يكون حدثاً مهماً. فكرت في أن موتها سيكون مجانيا، لكن ليس هذا السبب فقط ما يبعد فكرة الانتحار عن ذهنها، بل الموت قبل الوصول الى فكرة الخلاص الذي نبحث عنه”.

عند هذا المفصل من اليوميات المتشابكة والشائكة العيش، تنقلنا الكاتبة الى “طاولة مارغريت وهي تجلس في المقهى في قلب باريس، تواجه الباب المطل على بولفار “السان ميشيل”، تتأمل مارغريت الفتاة التي تسير في الشارع، تتشبث بمعطفها وتتكلم بانفعال مع الرجل الذي يسير برفقتها، تعاتبه، تتشاجر معه، كان يان منهمكاً في الحديث عن نص مسرحيته الجديدة، بدت ملامحه تفيض بالحيوية والرغبة في الحديث مع مارغريت عن أحداث المسرحية وأبطالها، لكنها قالت له فجأة:

ـ كل هذا سيصبح ذكريات في وقت ما، مجرد ذكريات منسية…

بدا يان متفاجئاً من كلماتها، سألها بخيبة:

ـ ما الذي سيصبح ذكريات؟

مررت كلتا يديها على خصلات شعرها القصير الذي طغى عليه اللون الرمادي، ثم قالت:

ـ كل شيء، كل شيء سيصبح ذكريات، جلستنا هذه، أنا، أنت، اليوم، هذه اللحظة، مسرحيتك التي تحكي لي عنها، تلك الفتاة التي تتشاجر مع الرجل الذي تحبه. كل هذا سيصير مجرد ذكريات قد لا يعرف بها أحد.

خيبات عديدة، رصدتها رواية “اغنية لمارغريت” منها الخيبة الخاصة التي تتوالى في جوهر الشكل والاسم والقلب والبيئة. ومنها الخيبة السوداء التي تنتشر بين المواطنين في حمم الصواريخ وأشلاء القتلى، وانهدام المباني والممتلكات. ومنها الخيبة التي تحول الأحاسيس العفوية الى جبل من البراكين أحيانا، أو الى قمة ثلجية في احيان اخرى. لكن اللغة التي تحمل المسار البنائي للرواية، تحاول تخطي منظومة الفشل والبحث المتصادم مع اللاجدوى، وتتقابل مع الوجه الداخلي للحرب… اي يوميات الناس تحت اتون نارها، وليس تفاصيلها وتواريخها وبطولات المقاومة… انها لغة تحاذي ضفة الحرب، وضفة الحب، عبر التجوال في مركب الاغنية التي تنشدها البطلة في رحلة بحثها عن خلاصها، عن راحتها الوجدانية التي تتماهى بين الروح والجسد، بين العقل والفؤاد، بين الكتابة والتأمل، بين الخيانة والوفاء، وبين الحب الحقيقي والحب العابر.

يبقى أن أسجل تحفظي الشخصي عن عبارات واردة في الرواية تتنافى مع علم التوحيد. وهو تحفظ يطاول معظم الأعمال الروائية والقصصية والشعرية التي تصدر من آونة الى اخرى، والتي ترد فيها عبارات مشابهة لها في التوصيف والتشبيه.

——-

– الطبعة الأولى: 2011 بيروت.

– عدد الصفحات: 115 صفحة من القطع المتوسط.

غادة كلش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى