“أغنية لمارجريت” رغبة البوح التي انتصرت على تخاذل الجسد

مثل أيقونة محيرة عاشت وماتت الكاتبة الفرنسية مارجريت دوراس. ومثل فاكك الشفرة، اقتربت اللبنانية لنا عبد الرحمن بجرأة، مستدعية دوراس أو “دورا” كما يفضلها الفرنسيون، لتصير بطلة رئيسية في رواية وجع، تطرح الأسئلة، وتحرض على التأمل. رواية اسمها: “أغنية لمارغريت”.

شَغَف مختلط بوخز الرغبة في البوح، ساق زينب بطلة الرواية، فراحت تكتب الخطابات إلى “يان أندريا”، الحبيب الأخير لمارجريت دوراس، كاتبتها المفضلة؛ والذي كان في الثامنة والعشرين عندما بدأت علاقتهما، وكانت هي في الخامسة والستين، عاش معها قرب خمسة عشر عاما، مرافقا حميما، وعاشقا حتى الموت، وبعدما رحلت حكى قصتهما في كتاب عنوانه “هذا هو الحب”.

وفيما كانت زينب تكتب إلى يان، وتتساءل عن شكل علاقته بمارجريت، راحت لنا عبد الرحمن تتخيل شكل هذه العلاقة، وتنسج الحكايات بينهما، تستنتج لحظات ميلاد روايات “دورا”، التي شكلت مع حبيبها الصغير “لوحة عبثية مجنونة، تكسر كل الأفكار الثابتة عن خطوات الحب، والسن، والزمن. في العلاقة مع يان كما في العلاقة مع جسدها”.

بعد قليل، وبتلصص ربما يكون شريرا، ستعرف أن الكاتبة مهمومة بفكرة تحولات الجسد في مجرى الزمن، وأن عنوان رسالة الدكتوراه التي أنجزتها: “دلالة الجسد في السيرة الذاتية، في الرواية العربية: الرواية اللبنانية نموذجا”.

تنزع نفسك من الاستغراق في محاولات التفسير لتستكمل الرواية المليئة، على صغرها، بالأحداث والمشاهد الصادمة لعائلات تهجرت بسبب الحرب.

كانت البطلة وأسرتها أسعد حظا من غيرهم، فأقاموا في بيت الخال بمنطقة “الصنايع”، تمتعوا برفاهية الاستحمام وقضاء الحاجة في أمان لم يتوفر لباقي المهَجرين الذين سكنوا مخيمات الحديقة المجاورة. تراهم زينب من شرفتها، تتمشى بينهم أحيانا، ولكنها أفضل حالا، حتى لو كان البيت الذي تسكنه يحوي غرفة القتيلة، تلك الحجرة المغلقة التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها: “كان الجميع يحكي عن حوادث غريبة تقع لكل من يحاول الحياة في تلك الغرفة التي قتلت بها شابة في العشرين”، أفضل حالا، ولو كانت البطلة تخشى إضاءة النور عندما تقلقها روح “مارجريت” ليلا، فتمد يدها في الظلام إلى الورقة والقلم الذين تحتفظ بهما بجانبها، تخط أفكارها دون رؤية، لتصوغها أسئلة إلى يان في الصباح: “ثمة تقاطعات كثيرة في الحب، أليس كذلك؟، هل آلمتك مارغريت يوما؟، هل كنت تحبها حتى إنك لم تفكر بالألم؟، بماذا كنت مأخوذا فلم تدرك الوجع إلا في وقت متأخر، بعد أن غابت عن عالمك؟”، ثم تصحو على دوي الغارات طاغيا على صوت فيروز، الذي كان يحمي لبنان من “مدن ممسوسة بالحرب، أدمنت الدم ورائحة البارود”، فلم تعد فيروز “تحتل الصباح، وبردت القهوة أمام نشرات الأخبار”.

ربما لا يروقنا أحياناً تناول الحدث السياسي أدبيا، لكن الرواية الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، لا تتناوله بقدر ما تسير بين شخوص هذا الحدث، فتتعرف على نفسيات البشر، وطريقة تلقيهم للأجواء.

تصف البطلة لصديق خيالها بعض الأماكن مختلفة الهوية، فتجد مرارة وأنت تجول معهما ببعض الأحياء مألوفة الاسم، مثل “شارع الحمرا”، تضحك بسخرية موجَعة عندما تكتشف أن عبارة “حي ذو طابع تراثي” المكتوبة على لافتة حديدية بأول الشارع، لا تعني قيمة تاريخية، أو معمارية مثلا، لكنها تشير إلى أن هذا الحي لم يصبه ضرر الحرب. فبيروت القديمة لم تعد هنا: “زالت، وحلت محلها أسواق حديثة مبنية على طراز قديم، لكنها بلا هوية، أو أسرار”.

هي أيضا فرصة لقارئ غير لبناني، كي يتعرف على أماكن ربما سمع بها، يستنشق رحيقها، عندما تصفها الكاتبة عبر رسائل زينب إلى يان أندريا، تحدثه عن مدينة “زَحلة”، التي سوف تنتقل إليها الأسرة، تتذكر معه سيرها في رفقة صديقتها ساندرا بمحاذاة النهر، والتقاطهم الصور أمام كازينو عرابي، وتمثالي أحمد شوقي وعبد الوهاب: “في زحلة الهواء يكون باردا في الليل، ويترك لسعة لذيذة عند أول الفجر، تلمح الندى على ورق الورد الطري”.

تكتشف أنت، أن شعورك بتبدل الأماكن التي عشت فيها يوما، ضيق مساحتها مثلا، أمر عام يشترك معك فيه آخرون: “تتغير رؤيتنا للأماكن، تتبدل علاقتنا بها مع الوقت، كل شهر، ومع كل فقد”، ربما لهذا السبب تهتم بالتفتيش عن علاقتها الأولى مع هذه البلدة الغامضة، المعلقة، الغافية على كتف الجبل.

وسط كل هذا الضجيج، تحوم روح “مارجريت” حول زينب، وتطفو على السطح ذكريات أيام عاشتها مع مازن، أو “نبي الحنان” كما أسمته، علاقة رائقة، كان ينقصها فقط قليل من التحرر في كتابة مشاهد الحب، فنلمح محاولات الكاتبة للغوص أكثر، ولكن ثمة توجس يطوّق المسألة، وإن لم يداري حلاوة الوصف، ورومانسية الرؤية، خصوصا في حضور موسيقى صاحب بحيرة البجع، تشايكوفسكي.

يتوازى الفقد بين محاور الرواية، فبينما يذهب الأخ الأكبر تاركا الأسرة إلى خاله في الخليج، وتكتشف البطلة أن وجوده كان ونساً رغم مشاكله، وفيما تفقد أعز صديقاتها، المصورة التي كانت تسجل الحرب فوتوغرافيا، يفقد يان أندريا حبيبته مارجريت، بعدما انهارت مقاومتها، واستسلمت لتحولات الجسد الهرم الذي كان شابا، قبل سنواتٍ طويلة، يجففه الحبيب الأول برفق وعناية بعد سباحة مشتركة، وهي بعد لم تتجاوز السادسة عشر.

ربما ينطبق الشعور بالفقد أيضا على انتهاء أجواء الحرب، نعم انتهت الحرب، واستيقظت زينب لتعرف أن أخاها وأمها ينتظراها في بيتهم القديم، لملمت أشيائها الخفيفة، روايات كاتبتها المفضلة: “العشيق”، “هيروشيما حبيبتي”، “انخطاف لول.ف. تشاين”، لم تنس دفترها، وعطر “كوكو شانيل” الذي لا يحبه يان أندريا.

في الشارع، تلمح شابين يتعاونان في حمل بيانو استعدادا لنقله، تكتشف أن الموسيقى التي كانت تسمعها بين حين وآخر كانت حقيقية. سوف تذهب لبيت ساندرا وتجمع الصور التي التقطتها أثناء الحرب، فيما تغلق أنت الرواية التي احتقنت بها أياما، وتركتها حينا دون أن تنفصل عنها، كنت فقط تختلس وقتا على صفحات البحث، لتتعرف أكثر على ملامح أديبة فرنسية، صاغت روايتها الأخيرة في زمن لم تعشه، وعبر كاتبة لبنانية تركت نفسها لفعل الكتابة.

—-

* جريدة الشروق  8 ـ7 ـ 2011

هشام أصلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى