‘ أغنية لمارغريت’.. رواية تضافر السرد التجريبي بحكايات الحرب
‘ أغنية لمارغريت’، هو العمل الروائي الصادر حديثا للكاتبة لنا عبد الرحمن، وهو العمل الروائي الثالث لها بعد إصدارها رواية ‘ حدائق السراب’ في العام 2006، و’ تلامس’ 2008. وفي ‘ أغنية لمارغريت’ يسير السرد الروائي ضمن ثلاثة خيوط سردية، عمدت الكاتبة إلى تضفيرها معا لتكون حبكة روائية تشكل الميزة الأساسية في هذا العمل التجريبي.
فقد اختارت عبد الرحمن – على مستوى الزمن – أن تكتب عن ثلاثة أزمنة لكل منها إيقاعها الخاص ولغتها، لكنها تتقاطع فيما بينها في هاجس الزمن، الذي يبث قلقه منذ الأسطر الأولى في النص، حيث التوتر يسود حركة الأبطال، ليس بسبب الحرب فقط المسيطرة على أجواء السرد، بل لأن الصراع الداخلي لبطلة النص ‘ زينب’ يقود القارئ إلى تساؤلات وجودية عبثية عن الحياة، والموت، عن العمر الذي لا بد أن ينتهي في وقت ما. وكما لو أن كل ما يحدث مجرد عبث لا طائل منه. وإن حاولت الكاتبة أن تختم نصها بشحنة من الأمل عبر قول بطلتها زينب في ختام النص جملة: ‘ صوت الموسيقى كان حقيقة’، فإن هذا الانفتاح على أفق آخر لم يخفف من الحس الضبابي المأساوي الذي يسور النص منذ البدايات وحتى النهاية.
وتبدأ الرواية مع البطلة زينب التي تنتقل من ضاحية بيروت الجنوبية برفقة عائلتها بسبب الحرب الإسرائيلية في العام 2006، هكذا ينفتح النص على حدث التهجير القسري للعائلة، أي أن الحدث ينطلق من قلب مأساة اجتماعية لا تخص عائلة ‘ زينب’ فقط، بل تعني بلدًا بأكمله واقعاً تحت أتون الحرب، فتقول: ‘ لكن الحر خانق الآن، والعثور على ماء للاستحمام في وقت الحرب أمر يرتبط بالقدَر الذي قد يرمي بك للتواجد في خيام النازخين، أو أن تكون في قلب بيت. نحن الآن في بيت مغلق، لا يأتي إليه أصحابه إلا أياماً قليلة في صيف كل عام’. من هنا يدخل القارئ مباشرة إلى جو مشحون بالتوتر منذ الصفحات الأولى، ففي الخارج تعلو أصوات القذائف، وفي الداخل هناك توتر مسكوت عنه بين الأم والابنة، لكن تمكن ملاحظته بسهولة عبر الجملة التالية: ‘ تسبب لها أمها إحساساً بالتوتر، تحديداً حين تضطر زينب لتبديل ثيابها في وجودها، وهذا ما تتجنبه دوماً، فالأم لا تفوت فرصة لانتقاد جسد ابنتها الرفيع دون تناسق’.
وفي الخط السردي الثاني، ينزلق النص إلى متاهات أكثر عتمة وغموضا؛ حين نرى ‘ زينب’ تعمد إلى كتابة رسائل إلى شخص مجهول، هو ‘ يان أندريا’، ومنذ الرسالة الأولى تكشف الكاتبة أن يان أندريا هو الحبيب الأخير للكاتبة الفرنسية ‘ مارغريت دوراس’، والذي يصغرها بما يزيد على 28 عاما؛ عاش معها 15 عاما، ورافقها حتى لحظات موتها الأخيرة. و’ زينب’ مأخوذة بروايات ‘ دوراس’، وبحكاية ‘ يان أندريا’ معها، منذ اليوم الذي قرأت فيه كتاب ‘ أندريا’ عن ‘ دوراس’، والذي حمل عنوان ‘ هذا هو الحب’.
تحكي ‘ زينب’ بأسلوب عذب في رسائلها إلى ‘ يان أندريا’ عن الحرب، عن أيامها المعاشة، عن عائلتها الغريبة، ثم تسأله عن ‘ مارغريت دوراس’، عن السنوات التي أمضاها معها، لكن أسئلة زينب لا تقف عند حد محاولة الهروب من مأساة الحرب بالكتابة إلى شخص بعيد، بل إنها تستدعي ‘ يان أندريا’ إلى رسائلها لتطرح عليه الأسئلة الوجودية التي تقلقها، وكأنها بما تقوم به من كتابة للرجل الذي أحبته مارغريت دوراس، تبحث عن إجابات لأسئلة حارقة تهذي بها وحدها في ضوضاء عزلتها، فتقول: ‘ أشمّ رائحة بيروت، تعبق بأنفي رائحة تتجمع فيها عصارة كل الحروب التي مضت، وها أنا الآن من ذاكرتي الواعية هذه، أصير جزءاً متشابكاً مع الحدث. نكتشف أننا من الممكن أن نعيش مع الخراب، مع خراب المدينة، وخراب الجسد. هل ستحكي لي يوماً عن جسد مارغريت، عن رؤيتك لهرمه، لخرابه؟.. أود أن أحكي لك عن التلف الذي يتجمع طوال هذا الوقت تحت سطح مدينتي، بيروت التي هرمت وتخربت أيضاً’.
لا يحضر صوت زينب في النص إلا عبر الرسائل، لكننا نتابع مسيرة حياتها عبر راو خارجي، يكشف ما تحاول ألا تبوح به في رسائلها. فهناك علاقتها الشائكة مع أمها، وأخيها الأكبر، وأيضا علاقتها الغائمة مع ‘ مازن’، ذاك الشاب الذي أحبته، لكنها لم تقو على اتخاذ أي موقف ايجابي نحو تلك العلاقة.. ‘ مازن’ لا يظهر طوال النص، وكما لو أن هناك تلميحًا لأن الحقيقة في حياة ‘ زينب’ غائبة ولا وجود لها. كما أن العلاقة الشائكة مع الأم والأخ نلمح لها ظلالا في مكان آخر تحكي فيه الكاتبة عن ‘ مارغريت دوراس’، والتباس علاقتها بعائلتها أيضا؛ لذا فمن المهم معرفة التشكيل النفسي للبطلة زينب التي تتعامل مع الواقع بأسلوب مزدوج، فهي من ناحية ترى في الحرب فرصة مناسبة، لأنها أبعدت عن ذهنها التفكير بالانتحار، وفي الوقت نفسه تهرب من الحرب بكتابة مجهولة تريد عبرها الخلاص. ‘ زينب’ الشخصية المرتبكة، التي رسمت الكاتبة تفاصيلها ببراعة شديدة لتكون مشابهة للوطن الذي تجري الحروب على أرضه، فالبطلة التي تغطي رأسها بحجاب أبيض، الفتاة الثلاثينية، السمراء، النحيلة، التي تراها أمها غير جميلة مفضلة عنها بنات أخيها اللواتي يهتممن بالموضة والماكياج، تتقاطع علاقاتها في صداقة، أو حب يبدد أوهام التشتت الحاد، في محاولة للغوص عميقا؛ لتطرح تساؤلات تحيرها عن الصلة مع الحياة ككل، مع البلد الذي تنتمي إليه، ولا تنتمي في آن واحد. فتقول: ‘ هي تعيش في بلد هش، جزء منه فيه حرب، وجزء آخر من الممكن أن يحتفل الناس فيه بفرحة الزفاف. ماذا تفعل هنا؟ أتت لتشارك بالفرح؟ لأي قسم من البلد تنتمي هي؟ الانشطار الذي تحس به يتمدد وينقسم على نفسه، يتحول في أجزائه الكثيرة إلى كم من الأسئلة لا تجد إجابات عنها، أسئلة ترتفع عالياً كما في التغيرات الجيولوجية حين تنشق الأرض ويخرج منها جبل كامن. يحدث أن يخرج منها جبل من التساؤلات لا يمكنها تجاوزه’.
لا تتوانى ‘ زينب’ عن الاعتراف بهزائمها النفسية والاجتماعية، عن فشل قصة حبها مع أستاذها الجامعي الذي عاشت مبهورة بسحر شخصيته لعامين كاملين، ولا عن ذهابها لطبيب نفسي ساعدها على العبور من ذاتها الهشة، إلى ذات أخرى أكثر صلابة. وإن كان القارئ يتابع بشغف عالمها الباطني وحكاياتها عن الحياة قبل الحرب وبعدها، فإن ثمة إحساسًا بوقوفها على حافة تحاول السير عليها بتوازن، تسعى لإيجاده عبر مساعدة امرأة مجهولة، فقدت ابنها الصغير خلال فرارها من الجنوب، أو عبر مراقبة شاب وشابة مراهقين يتبادلان الغزل عبر الشرفة. أو عبر السير في الشارع بلا هدف ناذرة نفسها لمجهول قد يأتي أو لا يأتي.
ويحضر الخط السردي الثالث الذي يتوازى مع رسائل ‘ زينب’، ومع سرد الراوي الخارجي لتفاصيل عالمها، ليكتشف القارئ زمنا آخر هو السنوات الأخيرة في حياة ‘ مارغريت دوراس’. تتسلل الكاتبة إلى زمن ‘ مارغريت دوراس’ لتتابع حياتها العصيبة في ظل نوبات غضب وشجن وقلق عارم، لا يقل في مأساويته عن القلق الذي تعاني منه ‘ زينب’ في أيام الحرب، هكذا يتقاطع العالمان في ذات الكوابيس الوجودية عن الزمن، عن النهايات الحتمية للجسد والأيام، لكن هذه المرة تكون الأسئلة مطروحة من زاوية ‘ مارغريت’ خلال عزلتها، ومعاودة تأملها لحياتها الماضية والحالية، فتقول: ( هي الآن لديها إحساس بالحاجة للعزلة، العزلة بعيداً عن أي أحد، فقط كي تكتب. وهنا في بيتها هذا، تنكسر هذه العزلة بـأصوات الأطفال الذين يركضون قرب بركة الماء..حين تراهم تجد نفسها منجذبة إلى تأمل ضحكاتهم. كانت تحس بأن تلك الطفولة تسير إلى التناقص يوماً بعد يوم، ولن يلبث هؤلاء الأطفال أن يكبروا بسرعة ليجلسوا على الشرفات، ويشاهدوا اندفاع أطفال آخرين مكانهم. كان هذا التفكير الحلزوني، يدخلها في متاهة لا تؤدي إلا لمزيد من الجدل حول فكرة الزمن ووهم الغايات، وحول أيامها التي تمضي بسرعة، فيما الشغف يرهقها لإنجاز ما لم تتمكن من كتابته بعد. ثمة فوضى عابثة تسري في دمها، تدفعها للثورة على فكرة ‘ الوقت’، وتسحبها نحو تفاصيل ماضية وأليمة، لم يتشارك معها أحد في إعادة ترتيبها).
يمكننا اعتبار رواية ‘ أغنية لمارغريت’، من النصوص الأدبية المهمة مضمونا وأسلوبا، لأنه يتميز ببنية سردية متماسكة، لم يقلل منها فعل التجريب في أسلوب السرد المتداخل الذي اختارته الكاتبة لهذا النص، إلا أنها تمكنت من تشكيل نص ثري على مستوى الحدث واللغة، فجاء خاليا تماما من أي حشو أو إضافات، بما يتوافق مع الموضوع المطروح في الكتابة عن حياة ‘ مارغريت دوراس’. وعن تشابك ماضيها مع حاضر فتاة شابة معاصرة، تبحث عن الخلاص عبر فكرة الحب، تعيش الحرب، وتقاوم أشباحها بالكتابة. وكما لو أن لنا عبد الرحمن أرادت القول عبر هذا النص بأن فعل الكتابة الذي شكل أسلوب الحياة لـ ‘ مارغريت دوراس’، يشكل وسيلة مقاومة لبطلة روايتها ‘ زينب’، والتي تعيد تأمل الماضي وتكتب أغنية لمارغريت.
—-
القدس العربي 2011-01-24
منال صبرا