“تلامس”الحرب والجنون علامتان على زمن واحد

رواية الكاتبة لنا عبد الرحمن “تلامس”، كتابة عن الشائك، المتوتّر، والمسكون بالتناقضات والفوضى لحيوات أبطال روائيين من الرجال والنساء المحفوفين بالأخطار والمنذورين لمصائر تراجيدية تقف بين حواف الحياة والموت، الجنون والانتحار، فيما الحرب برمزيتها وواقعيتها معا تأتي كعنوان كبير يظلل النهاية، بل ليجعل من تلك النهاية بداية مفتوحة للرواية ولمصير بطلتها على السواء.

“تلامس” ( الدار العربية للعلوم ناشرون والاختلاف)، رواية قصيرة، مشحونة، وتكاد تقارب مونولوغا داخليا تندلع كلماته من فم الكاتبة – الراوية، فتسجّله على الورق في جلسة طويلة، واحدة، متّصلة، تتنقّل خلالها الراوية بين فضاءات عوالم مسكونة بحوادث عاصفة لفتاة عاشت وتكوّنت في قلب التناقضات الاجتماعية، ثم أضفت ظروف حياتها الخاصة مزيدا من التناقضات التي يبدو الموت حلا لكثير منها، بعد أن تصبح الحياة نفسها جدارا مرتفعا يصعب تجاوزه أو القفز عنه.

تكتب لنا عد الرحمن من الدائرة المغلقة والبالغة التوتّر، الدائرة المشحونة بالكوابيس، والرغبات الجنسية المقطوعة من مساراتها الواقعية، بل من الجنون والجريمة والانتحار والعلاقات الشاذة في عائلة تودي بعض فصولها ببعض أبطالها إلى الموت الفاقع في جنونه. هي إذاً رواية من تلك العوالم التي تقارب اللامعقول وإن تكن واقعية الى حدّ الفجيعة، وهذا ما يلمسه القارئ من الإقناع البالغ الذي تحمله الحوادث، وكيفيات روايتها وتقديمها كمشاهد في سياق فصول الرواية كلها، وبالذات بالنسبة الى العلاقات بين شخصيات الرواية وأبطالها.

تختصر “تلامس” في عنوانها علاقات مبتورة، وعواطف لا تذهب إلى نهاياتها الطبيعية، فكل الأشياء في الرواية ترتبط بخيط خفي مع تلك الحوادث “الصغيرة” وشبه الهامشية، التي عاشتها بطلتها منذ طفولتها الأولى، وصاغت وعيها وإحساسها بالعالم ونظرتها الى المستقبل. والكاتبة تحسن التقاطها، أو بالأدق التقاط أكثرها حقيقية وغرائبية كي تكون ومن خلال تناقضها بالذات بؤرة التوتر الذي تقوم عليه الرواية.

من اللافت ملاحظة مركزية المكان، وخصوصا المستشفى الخاص بمرضى العقل، الذي ترقد فيه العمة، والذي سيظل أحد المراكز الأهم التي تنطلق منها الحوادث، بل الذي سيكون بؤرة لخاتمة الرواية مع موت العمة المريضة بجنونها في اللحظة ذاتها التي تعلن من خلالها أصوات الإنفجارات جنوناً أكبر يلفّ البلاد هو الحرب، في نهاية مفتوحة تضع البطلة وتضع القارئ أمام مصيرها المجهول، والمفتوح على كل الاحتمالات المعقولة وغير المعقولة في زمن هو أقرب إلى اللامعقول.

في الرواية يمكن الوقوف على عوالم اجتماعية تشي بحكايات أبناء الطبقة الوسطى اللبنانية في بيروت في زمن يزحف بسرعة نحو مظاهر العولمة ولهاث التطورات اليومية. هنا يمكن رؤية العلاقة الوطيدة بين هذه الحالة الاجتماعية – الثقافية، ووقائع حياة البطلة وما يمر بها ومن حولها من تفاصيل وجزئيات تنطوي غالبا على ذروة التوتر. ثمة جموح يأخذ بتلابيب الوقائع نحو نهايات بالغة السواد، نراها من حدقة الراوية – البطلة وقد اصطبغت بلوعة تبدو في سياقات المظهر الخارجي للمدينة ذات وقع أبلغ وأشد ألما. تنجح الكاتبة في الربط بين الآلام والعذابات الفردية بل والكوابيس، وبين الزحف المتسارع لتطور مديني لاهث يعصف بالأرواح والنفوس، ويفيض بالتناقضات في الزواج كما في السياسة، في البحث عن وظيفة كما في مواجهة الحرب والاختلاف عليها وحتى الاختلاف في تفسيرها والعثور على مبرّراتها المقنعة.

إنها رواية لا تذهب عناوينها وحكايتها إلى الحرب مباشرة، ولكنها مع ذلك رواية تكتب وقائعها الحرب، بل هي بالتحديد من صنع كوابيسها ومصائر أبطالها، وطرائق تفكيرهم ونظرهم الى العالم والمستقبل، وحتى خياراتهم العملية والعاطفية، التي تظل دائما مبتورة وناقصة وبلا نهاياتها الطبيعية التي يعيشها الناس في أماكن وأزمنة أخرى.

“تلامس”، نشيد جارح يحتفل بالحياة، وينجح في تقديم عمل يقوم على شخصية محورية ومن حولها مجموعة شخصيات اخرى، تكمل حكاية كل واحد منهم حكاية البطلة الروائية ومأساتها معا. هي بنائية روائية تحمل الكثير من التشويق وبراعة السبك وتكمل واقعيتها وبساطتها تلك الحوارات الناجحة والمنطقية بالعامية اللبنانية، والتي أضفت بعدا وحضورا حميمين للعوالم والأماكن وتفاصيلها. قدّمت الكاتبة انتباهات ذكية، خاطفة وموحية لكثير من مشاهد الحياة في ييروت اليوم، وأحلام الأجيال الجديدة، وللتوتّرات الاجتماعية والسياسية ولكن من دون الغرق فيها، إذ نجحت في المحافظة على الحدث المركزي لحياة بطلتها الشابة وأفقها المسدود.

هنا أيضا يمكن ملاحظة اللغة السردية البسيطة والبالغة الإيحاء، والتي تجعل الرواية كلها أقرب إلى روح القارئ  إذ تمكّنه من مواصلة القراءة بسلاسة ومتعة.

عرفت لنا عد الرحمن كيف تلتصق بالعادي والحميم فعثرت على عالم روائي بالغ الثراء، تحضر من خلاله ككاتبة تعد بالكثير في زمن يعتبره صار كثر زمن الرواية.

راسم المدهون 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى