” تلامس”: أزمة الذات وبحثها عن الخلاص
نقلتنا الروائية لنا عبد الرحمن، إلى لبنان للاستماع والإنصات إلى تجربة إنسانية، تم نسجها في إطار أدبي فذ، يستنطق فن الرواية العبقري وقدرته على تجسيد النبض ورسم صور الإيقاع الإنساني, والإنتقال عبر موجات الصوت والجُمل الموسيقية الإنسانية, التي تتدفق في ما يشبه السيمفونية الكاملة, التي تتنوع أمواجها وتتدفق بعنف شديد وتصطدم بصخرة “الروشة ” الموجودة على الشاطئ البيروتي الجميل.
تدفق اللحن الروائي في حركات متتابعة تجعل القارئ ينتقل من صفحة لأخرى, وهو في حالة انجذاب للحدث الروائي الصاخب, الذي يجري تسجيله من خلال سرد فتاة تتحدث عن نفسها وعائلتها ووطنها, وتنسج لوحة كبيرة ممتلئة بالأحلام والهواجس والكوابيس, تتراجع في نغماتها عاطفة الحب, مع هيمنة القلق والشك وعدم القدرة على تجاوز الحاجز المخيف, الذي يمنع البشر من التفاعل مع السعادة والشعور بعاطفة اليقظة الوجدانية والتمرغ في حقولها البديعة .
“ندى” بطلة رواية “تلامس” تضعنا منذ افتتاح الرواية على حركة فنية شديدة الإثارة , تترجم لغة التعبير الفني المتألق , عندما يبدأ المشهد الأول بلحظة صدام وأزمة عارمة ومثيرة للغاية . فنحن نتذكر عندما هبط عيسى الدباغ بطل رواية “السمان والخريف” إلى محطة السكك الحديد بالقاهرة, وكانت العاصمة المصرية تحترق, في إشارة لإنهيار البنيان القديم كله وإزالته عن المشهد الحقيقي, مما ترتب عليه الزلزال الصاخب, الذي أطاح بمجد الدباغ, إذ فقد وظيفته الحزبية ومكانته على عرش حزب الوفد المصري قبل الثورة, وسقوطه بالتالي في أزمة عارمة انتهت به إلى شواطئ الإسكندرية حيث يعاني من الضياع والإفلاس والخواء وظل يبحث عن المعنى دون جدوى.
لنا عبد الرحمن تفتح روايتها بمشهد عن جنون عمة بطلة الحدث ووجودها في مستشفى للأمراض العقلية. وتصف اللقطة الجامحة مظاهر هذا التوتر بحيث تدفعنا إلى الشعور بالواقع والألم والثرثرة الوجودية البالغة الثراء, إذ هناك حالة من الخروج على العقل وغرق الإنسان الذي يندفع في دوامات هذا المرض العنيف, الذي ينزع الهدوء ويحل بدلاً منه الهوس والإضطراب.
و “ندى” تشعر بالخوف من تحولها إلى الطريق ذاته, مع وجود نفس مرهفة تشعر بالقلق الشديد مع الخوف أيضاً, الذي يلاحقها عبر كوابيس مفزعة وأحلام مخيفة, بالإضافة إلى مناخ عام تنفجر فيه الخلافات والأوضاع الإنسانية المريرة.
لقد نشأت الفتاة الرقيقة في ظل غياب أمها, التي تركت أبيها وانفصلت عنه , وذهبت إلى “دبي” حيث المال والثراء والزواج الجديد .
وأب الفتاة شبه غائب, تأكله لحظات الروتين اليومية والشعور بالفشل والإنغلاق داخل ذاته, حتى انه لا يرى ابنته او يلتقي بها مع أنهما يعيشان في منزل واحد .
هاجس العمة المجنونة وغياب الأم والأب, بالإضافة إلى تراكمات الحرب الأهلية اللبنانية على الواقع, مع عدوان إسرائيل المستمر, ينزلق الواقع اللبناني إلى لحظات جنونية تنعكس على سلوك الأفراد, مما يعني تفتت العلاقات الداخلية مع انفصال الأزواج عن بعضهم, ووجود حالات خيانة وهجر وقتل, مع عدم القدرة على التواصل والوقوف على حدود التلامس فقط لغياب العزيمة وقدرتها على اختراق الحاجز, واختيار الوقوف عند الخطوط الفاصلة.
تكبر “ندى” في هذه الأجواء وتنحصر داخل ذاتها, في ظل التعامل مع “النت” والدردشة مع آخرين والتعرف على القصص الرومانسية الحالمة لأفلام الأبيض والأسود, والاهتمام بحياة شاعرة لبنانية كانت تعيش في المهجر, وبقاء الذات محاصرة في أحلامها أو بالأحرى كوابيسها, مع عدم قدرة على الهروب من هذا المصير الفاجع نتيجة الفشل في الانطلاق نحو الآخر والانغماس في تجربة حب, تكون قادرة على إلقاء طوق النجاة للغرقى في بحار العجز والضعف.
تلتقي “ندى” بمحمدو , الذي يشكل النقيض لها بشبابه وحيويته وحبه للسفر والتنقل , وعلى الرغم من اهتمامه بالتراث الشعبي الإفريقي, لا يغرق في نهر الخرافات التي تحيط بعالم بطلة رواية “تلامس” إذ تراكم الحديث عن أسباب جنون عمتها بسلسلة من الحكايات الخرافية عن الجن الذي سيطر عليها وانجذب إلى جمالها وهي تقف أمام المرآة .
محمدو دعا “ندى” لمغامرة العشق الجامح, القادر على منح الشخصية فرصة الهروب من العجز والضعف, لكنها لم تكن قادرة على المغامرة, والقفز خارج هذه الدائرة, وظلت أسيرة لبيروت وأحزانها وخبرتها الطويلة بشأن حرب أهلية, ثم أخرى إسرائيلية, وثالثة تشتعل وتحاصر الفتاة الحالمة الرقيقة التي تحب الموسيقى وأفلام السينما الرومانسية.
تتحدث “ندى” عبر مونولوج داخلي فتقول : “أكثر ما كان يخيفني أن أصير مثلها , وأن تكون نهايتي مثل نهايتها.
هذا الهاجس المقلق يطاردها منذ السطر الأول حتى النهاية التي تتطابق مع مشاعر الخوف, حتى ينتهي المشهد الأخير في مستشفى الامراض العقلية بعد وفاة العمة المجنونة وتدخل “ندى” المكان نفسه وتنتابها حالة من الفزع والهذيان مع إنطلاق القنابل والمدافع في تكرار لمشهد الحرب الذي لم تعشه خلال اندلاع الصراع الأهلي, لكنه يأتي إليها مع هجوم إسرائيل على الضاحية الجنوبية في بيروت ذاتها.
تنطلق الروائية من مشهد روائي إلى آخر, من الكوابيس إلى أحلام الحب الوردية, والرغبة في العمل والبحث عن وظيفة, أو الاستغراق في سيرة حياة شاعرة لبنانية مهاجرة.
لا تستطيع الذات الإنغماس في مشروع يجذبها بعيداً عن الكوابيس والأحلام المرهقة, لم تكن تملك قوة الدفع حت تخرج من هذه الدائرة الجهنمية, إذ استسلمت للموت والأفول, وتركت حياة العقل والوعي تنزلق منها لعدم وجود دافع التحدي أو الإصرار للسباحة ضد التيار .
تذكرني بعض مقاطع الرواية بشريط سينمائي صنعه الإيطالي العبقري ” فيسكونتي” في فيلمه الرائع “الموت في فينسيا” إذ يفشل الأديب والفنان في معانقة نموذج الجمال الذي يراه أمامه, وعندما لا يتمكن من الوصول إلى لحظة السعادة المطلقة, تنهمر الأمواج الصاخبة مع موسيقى “مالر” الحزينة والعنيفة في الوقت نفسه تعبر عن حب ضائع وأمل يتبدد .
وعندما كنت أقرأ قصة “ندى” مع محمدو , كنت أجد في تفاعلها الرغبة للخروج من داخل شرنقة العبث الوجودي , لكن أمواج العجز هي التي اطاحت بالمشهد كله, نتيجة الخوف والرعب من التداخل والتفاعل , إذ اختارت “ندى” التلامس عن بعد والإنزواء بعيداً عن ضجيج التجربة, وفضلت الإنسحاب والهرب بسرعة بعيداً عن طوق النجاة الذي جاء إليها عبر عاطفة رجل يحبها.
تستعرض “ندى” في حالة سرد روائي مبهر, شخصيات تحيط بها, تعيش لحظات القلق بدرجات متفاوتة, تبحث عن نفسها في ظل خلافات الأديان والمذاهب وتلبد سماء الحياة بغيوم كثيفة, نتيجة مباشرة لحرب أهلية انفجرت داخل شعب واحد, وأحدثت هذه الفوضى, التي لا تزال بصماتها واضحة على نفوس البشر وعقولهم.
غرقت النفس اللبنانية , نتيجة صراع مروع , فجر الحرب الأهلية التي وصلت إلى درجة عالية من البشاعة والتمزق والجنون. وعلى الرغم من إعادة بناء المكان في قلب بيروت بالمتاجر والمقاهي الجميلة, لازالت النفس تعاني من آثار هذه الحرب في ظل استمرار التوتر وانفجار القنابل الخلافات هنا وهناك .
تنعكس حالة القلق بعد هذه الموجة العارمة , على أحوال البشر , رغم أن “ندى” لم تعش هذه الأيام الحزينة, غير أنها تسمع عنها وتلمح تفاصيل في قلب السلوك المضطرب الذي يدفع نحو التمزق و عندما يقتل رجل زوجته بدافع الغيرة أو الخيانة, وتنتحر زوجة رداً على فعل غير أخلاقي يهز القيم والعادات بشكل عنيف, عندما ترى زوجها يخونها مع شقيقتها.
هذه المآسي تعكس درجة واضحة في عمق وعي الذات بنفسها وأحوال مجتمعها, وهي تهرب من كل هذا الإرث وملاحقات الاشباح, إلى صور الفنون والموسيقى وأفلام السينما لعلها تجد العلاج والخلاص. وهي تدرس علم النفس, لكنها لا تعرف الطريق لمفتاح شخصيتها للعثور على أداوت الممانعة لحماية الذات من السقوط غي دائرة الخوف والقلق والعجز.
تستخدم الروائية أسلوب السرد, الذي يقترب من لغة الشعر, إذ أن ندى مشبعة بقراءات وثقافة عريضة, وهي محاطة بمثقفين في الجامعة التي تدرس بها, كما تستمع إلى انتقادات من شخصيات مثقفة, إذ يتحدث أحدهم عن أن الجيل السابق لها كان يقرأ ثقافة أوروبا أما جيلهم فهو ضحية لثقافة أمريكية استهلاكية تهيمن على كل شئ تقريباً.
تعتمد الكاتبة على حبكة روائية عالية الترابط في حذق فني يعبر عن قدرة تجميع هذه الجزئيات في رسم صورة ضخمة للبنان كله وبيروت من خلال قراءة ملامح هذه الذات الخائفة من شبح الجنون الذي يظل يطاردها حتى ينجح في القبض عليها في النهاية.
تستخدم الكاتبة مفردات اللهجة المحكية اللبنانية في الحوار وتعليقات للشخصيات الموجودة في الدائرة الضيقة والمتسعة التي تمثل درجات المجتمع والكيان المتحرر .
عادت لنا عبد الرحمن إلى تجربة متكاملة تدور في لبنان هي التي تعيش زحام القاهرة وضوضاء وحيوية الحياة فيها وتنغمس في نهرها الثقافي وجدلها الفكري. وعندما يخرج الكاتب من محيط مجتمعه إلى آخر , يتبلور الأول بشكل كامل ويستطيع الإتصال معه عبر نماذجه الإنسانية البليغة الدلالة والثراء في لغة التعبير .
في مشهد أخير, تفقد “ندى” هاتفها الجوال وحقيبة ملابسها , وتحاول الهرب في سيارة أجرى للخروج من بيروت إلى الجبل , أثناء هجوم الطائرات الإسرائيلية, تجد نفسها ضائعة ووحيدة لا أم ولا أب ولا جدتها رعتها منذ طفولتها.
في هذه اللحظة الوجودية الصارخة, تنطلق قذائف الطائرات المغيرة على سكان العاصمة, وتحدث القنابل الفزع والهلع، ولا تجد “ندى” أمامها سوى الذهاب بعد تعثر خروجها إلى الجبل, سوى مستشفى الأمراض العقلية لزيارة عمتها, لكنها تعرف بخبر موتها, وتتداخل مناظر الوعي مع سقوط القنابل والشعور بالهلع, وانتقال المشهد إلى محطة جنون أخرى تعبر عن المنظر الخارجي المرتبط بجحيم الحرب.
رواية فيها الكثير من الشعر الفني الجميل, الذي يتحدث عن نفوس قلقة ومجتمع ممزق وعواطف لا تعرف الطريق نحو الإستقرار. كل هذا يتم في حذق فني شديد من خلال حركات سيمفونية تنتقل من موجة لأخرى, في إندفاع صاخب من المشهد الأول ثم المرور بتهدئة حزينة وعاطفية, ثم تعود النغمات إلى التراكم للوصول إلى لحظة الذروة في مستشفى للأمراض العقلية .
رواية رائعة بهذا السرد الجميل المختصر, والجمل الحوارية والمونولوج الممتد من أول سطر إلى نهاية حزينة, نسجتها الروائية بتمعن شديد وبقدرة على الإمساك بزمام لغة التعبير التي تحتضن قراءات واطلاع على تصوف وأدب وشعر, امتزج في نسيج البناء الفني , وجاء في “تلامس” ليشير إلى روائية بهذه الحصافة والموهبة .
لقد ظللت لمدة أتهيب الإقتراب من الرواية , كنت أشعر بزخمها النفساني العميق, وعندما انتهيت من القراءة ثارت في النفس عاطفة جامحة نتيجة ثراء شخصية “ندى” وصدقها وعدم الإدعاء ولغتها البسيطة الفاضحة لذات غير قادرة على التعايش مع واقع الجنون والإحباط, وعدم إدارك المشاعر لحساسية وعظمة نهر الحب , الذي أحاطها من كل جانب, لكنها هربت منه , لأنها لا تستطيع سوى ممارسة خبرة التلامس عن بعد, وتخشى الاقتراب والإنخراط في الآخر, لأنها لم تعثر على نفسها في ظل هذا الإضطراب العارم الذي يحوطها من كل جانب, في دلالة على فوضى كونية وأخرى وجودية تسحب رياح الحب, وتأتي بأخرى مع هذيان القنابل وضجيج الموت والإنفجارات.
يسري حسين