لنا عبد الرحمن.. وسطوة الذاكرة السردية دراسة في رواية

 

في كتاب “المنافحة” يقول سقراط: إن حياة بلا فحص لا تستحق أن تعاش.. ويعلق علي هذا “ميشيل فوكيه” في كتابه “الانهمام بالذات” فيري أن مثل هذا القول ينجز معادلة يتآذر فيها الفلسفي مع المعاش اليومي، فيؤدي الفحص إلي تقدير العلاقة بين الذات والشيء المتصور، مع إمكانية القول بأن ذلك الفحص قد ينجز علاقة سليمة بين الفرد وفضائه عند توفر عناصر موضوعية قد تقلل من هيمنة الغياب علي الحضور. وتلخص المقولتان القضية الأساسية في رواية لنا عبد الرحمن “تلامس” التي تستهلها بعبارة من فرجينيا وولف تقول: “لا يمكنك إيجاد الطمأنينة بتجنب الحياة”. تلامس لنا عبد الرحمن هو تلك الحالة التي تقع بين الخوف والشغف، حيث تري البطلة وهي الشخصية الساردة أن الخوف إن لم يكن مدعوما بقوة جارفة لا يمكنه مواجهة الخوف وقتله. وما بين الخوف والشغف تتحرك ندا ـ البطل المركز ـ فتاة معزولة خائفة مبعثرة الوجدان ما بين بيروت والجبل، ضحية لكل من قابلته في الحياة من أشخاص وحوادث، تسكن عالماً كل ما به من كائنات خليق بالخوف والحذر، تقترب ملامحها، من ملامح الطبقات المتوسطة، ورثت من كل أفراد أسرتها ملمحاً للضياع.. الأب المنسحب والأم المتمردة الهاربة والعمة المجنونة والجدة المتسلطة. ومن هنا كان من الطبيعي أن تتشرنق حول متطلبات الذات، باحثة عن نفسها تطاردها رغبة في الانتقال إلي زمن مختلف، لكنها تفشل في مشروع الزواج وتتردد في البحث عن عمل مكتفية بما ترسله لها أمها من مال وتوهم نفسها بالانشغال بالبحث والكتابة والاستغراق في عالم الكمبيوتر ومطالعة الحياة من حولها في صورتها الكئيبة والممزقة والمبعثرة بين طوائف لبنان المتقاتلين وبين أبطال روايتها، وترددها علي ؟؟ العقلي لزيارة عمتها المجنونة.  هكذا تعيش ندا واقعاً اجتماعياً ونفسيا وحسياً ضاغطاً ومزعجاً ومخيفاً، فكان من الطبيعي أن يكون سلوكها متسماً بالهروب والتمرد.  قدمت الكاتبة بطلتها الساردة في رواية “تلامس” بطلة بلا هوية متبلورة، بطلة غير قادرة علي شيء إلا التخيل وعدم العراك مع الحياة. إنها في أغلب زمن الرواية تكون وحدها، تتجول بكل ذاتها إلي الداخل وتمارس حياتها سلسلة متعاقبة من الفشل المستمر، وتسعي إلي كسر العجز الذي تعيشه.  اتخذت الكاتبة من بيروت الحرب والصراع والطائفية مكاناً وزماناً للعمل، علي نحو يشير إلي أنها اتخذتها مرآة مهشمة تري فيها صورة لبنان في تقلباته وانقسامه وعجزه وتخبطه. وأقامت الرواية من خلال أسرة عربية تضم ثلاثة أجيال: الجدة، والابنة والحفيدة، وحاولت اختبار الأسرة والزمان، والمكان، وانتهت بإدانتها جميعا من خلال: التعسف والأنانية والازدواجية والانفصال عن الواقع. وقد تمكنت الكاتبة من خلال بطلتها الساردة من إعادة بنية مجال التنبؤ بدراسة العلاقة التي تربط الوعي الداخلي بالوعي الخارجي بالوعي الإنساني علي نحو يكشف وعياً مدركاً لبنية الواقع والمرحلة من هنا قدمت الرواية انعكاسا للموقف الكلي العام الذي ينغلق علي الإنسان وعلي واقعه الخارجي، كما قدمت تطلعاً إنسانياً عميقاً للحرية والكرامة والسلام، عبر الحوارات التي تدور بين البطلة وسائر الشخصيات.  اختارت الكاتبة للرواية عنواناً مضللاً ، هو “تلامس” وهو في صيغته الدلالية دال مفرد نكرة. والنكرة كما نعرف يمكن أن تفيد الإبهام، كما يمكن أن تفيد العموم، لذلك فهو لا يمكن أن يقدم قانوناً حتميا، بقدر ما يطرح من أسئلة تدخل الإجابة عنها في إطار الاحتمالات: ما هذا التلامس؟ وبين من وما؟ أو بين من ومن؟ وعلي أي نحو وما نتيجته؟ وهذا يعني أنه دال تصادمي، يحدث صداماً بين الذات والذات وصداماً بين الذات والموضوع، وإذا كان هذا الصدام لم يحسم أمره في العنوان، فإنه سيظل متناميا علي طوال المتن الداخلي الذي قدم جملة من الأفكار والانفعالات التي تتجه إلي الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها، وهكذا اتجهت الرواية إلي خلق الصورة العامة للواقع من خلال خلق الصورة الذاتية في متن سردي تتعانق فيه الفلسفة مع الواقع، ويحلم بأن يصبح الإنسان سيد نفسه، مبدعاً لها وهو ما اتضح بصورة مؤكدة في الربط بين الذات والموضوع من خلال الاهتمام بالناس والأشياء والمعاني والاهتمام بما وراء الواقع وتجاوز التفاصيل إلي التشخيص الكامل. قدمت لنا عبد الرحمن في روايتها “تلامس” بنية سردية تجمع بين القص والحلم والتأمل من خلال شخصية البطلة الساردة من وجهة نظرها لكل الأحداث والمشاهد. وشخصية ندا كما تتحرك في الرواية شخصية متفلسفة تري عالمها الخاص تستوعب حركة الزمان والمكان من حولها وتتفحصها متأملة ما يحدث في الواقع الخارجي من أحداث تحرك ذاكرتها وتجعلها تراجع رصيدها في محاولة لتحقيق التوازن. ومن ناحية أخري فهي في تعمقها لذاتها ولذاكرتها إنما تسعي إلي احتواء الجانب التاريخي في الوعي الإنساني أي الذاكرة الإنسانية التي تترسب فيها كل المكتسبات ومعايير السلوك والقيم. فهي من ثم رواية تسعي إلي أن تفلسف شيء جديد يمكننا أن نطلق عليه واقع اللاواقع الذي يسعي إلي إعادة تقييم الواقع المرئي من خلال الوعي بالمرحلة والوعي بالوعي الإنساني العام. ومع احتفاظ الكاتبة بالقوالب السردية القديمة باستخدام سرد الراوي العليم في قالب يجمع بين أسلوب الاعترافات وأسلوب الترجمة الذاتية، واستخدامها للبني السردية التقليدية في تحريك الأحداث وبناء العقدة الرئيسية والعقد الثانوية وتركيب الشخصيات وجدلية العلاقة بين الزمان والمكان وبين الأحداث والشخصيات، إلا أنها مع هذا سعت إلي تحديث الأسلوب السردي علي نحو يحقق لبنيتها السردية النضارة والإبهار. فأسلوبها السردي أسلوب متحرك نشط حي يرتكز علي شاعرية عالية من خلال الإيجاز والتركيز والأسلوب النفسي الحديث خاصة أنها تقدم عالم الأحلام والكوابيس وهذيان المحموم والحوار الداخلي المنساب:  “يتهاوي جسدي مع نوبات الحساسية التي تتكرر، يحس الجيران بألمي المتدلي من المسامات المفتوحة علي الوجع”. كوابيس عنها لا تنتهي، ثم الأشباح.. “الأشباح التي تأتي ليلاً لتهز سريري وتمضي ، تتركيني أحدق في فراغ غرفة ملبدة بالضباب ولون رمادي كثيف يشبه البخار المتصاعد من قدر هائل الحجم، وخيوط لا مرئية تتمازج ألوانها بين البترولي والأسود والكحلي القاتم، ألوان تشعرني بالجفاف الشديد في حلقي، كما لو أنها وجدت في هذا الكون لإفزاعي فقط”.  وإلي جانب هذه الشاعرية السردية التي تشكل البنية السردية للرواية منذ العنوان حتي نهايتها الضبابية، وفرت الكاتبة لروايتها بناءً متوازناً من الحوار والسيناريو والتحوير والتدوير وتداخل المشاهد. كما استطاعت الكاتبة أن تستفيد من الأبنية السردية الحديثة استفادة واضحة تمثلت فيما نراه من تقنيات وأبنية حديثة دفعت السرد الروائي نحو صيغة جديدة لواقعية جديدة ترتكز استراتيجيتها الفنية في عدد من الصيغ الحداثية مثل التناص مع الذات ومع ما هو خارج النص، ومثل التعليق التفسيري واللعب بالضمائر السردية والاعتماد علي استراتيجية التفكيك وكسر الألفة وسرد الجمل المتقطعة، والسرد الاسترجاعي.

بمعني أن النص السردي الذي قدمته لنا عبد الرحمن في رواية “تلامس” استطاع أن يحتفظ بملامح السردية التقليدية.. إن سطوة الذاكرة التي قدمتها الرواية كان لها تأثيرها الواضح في هذه الاستراتيجية السردية الحديثة التي أكدت بلاشك ذلك الحضور القوي والصريح لصوت السارد في الرواية وقدرته علي مساءلة العوالم الدفينة للنفس البشرية والبحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة خلف السلوك الاجتماعي.

  د. السـعيد الـورقي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى