رواية الحرب. لعنة الحرب الأهلية في الروايات اللبنانية

 

حرب، دمار، نساء، رجال، حب، فشل، خوف، بيروت: شوارعها، مخابزها، طرقاتها. الإنترنت، الإيميل، المدونات، الفلك. الحرب تصنع الرواية، الحرب صنعت بيروت. صنعت أدباً حديثاً، إنها مفاتيح كتابات الروائية اللبنانية المقيمة في القاهرة ‘لنا عبد الرحمن’ التي احتفلت أخيراً بصدور روايتها الجديدة ‘تلامس’ الصادرة عن الدار العربية للعلوم – بيروت. إنها قصة فريدة من نوعها تدور أحداث أسطرها في بيروت قبيل حرب تموز(يوليو)، من خلال شخصيات عدة لكل منها حكاية ما أغلبها تدور في إطار الحرب الأهلية وما تعكسه علي لبنان اليوم، لتظهر لنا في النهاية أن اللبنانيين وحتي أولاد الجيل الجديد الذي لم يعش حروب الآباء، لم يشفوا بعد منها حينَ يستمعون إلي حكايات الأمهات والجدات عن تلك الحقبة الحرجة من تاريخ لبنان. هذا الكتاب هو الخامس في مسيرة الكاتبة الأدبية بعد كتابها ‘شاطئ آخر’ النقدي ومجموعتيها القصصيتين ‘أوهام شرقية’ و’الموتي لا يكذبون’ وروايتها الأولي ‘حدائق السراب’.

إن أول ما يسترعي انتباه القارئ أثناء قراءته للرواية أو إلي أيٍ من كتابات ‘لنا’، الأثر الذي تتركه الحرب في داخلها، وهذ ليس فقط في كتابات ‘لنا’ وحدها، وانما أغلب الأدباء اللبنانيين علي مر العقود الأخيرة. فنقرأ في مجموعتها ‘أوهام شرقية’ نصوصاً أبطالها يعيشون حالة الحرب اللبنانية والصراعات النفسية والهواجس التي في داخلهم آنذاك، بينما في ‘الموتي لا يكذبون’ نقرأ قفشات سريعة من حياة أناسٍ لا تزال آثار الحرب داخلهم مما تسبب لهم وللقارئ بأزمة ما. وأظن أن الذي تكتبه ‘لنا’ حول هاجسها الحربي، هو نوع من إظهار رعب تعيشه اثر كابوس يجتاح لبنان الذي يعيش اليوم علي مفترق الأضداد. هذا الرعب غشاء لما يقوله الروائي الألماني ‘غونتر غراس’ حينَ حكي عن الحرب في رواياته: ‘أنا كتبت عن الحرب في’ طبل الصفيح ‘ وفي ‘القط والفأر’. ولكن كتبته بعد شيء من الزمن. وهذا حدث أيضاً مع الأدب الإسباني. يتأخر الإنسان بكتابة الرعب الذي عاشه’. فالكاتبة لم تكتب روايتها ‘تلامس’ عبثاً، إنما بعد أن شاهدت حرب تموز (يوليو) حينَ كانت هناك في العطلة الصيفية، لتستيقظ ذاكرتها من جديد وتعود بنصوص نشرتها بانتظام في جريدة ‘القدس العربي’ إلا أنها لم ترو عطشها ولم تخبرنا باقي القصة، فبدأت بروايتها التي خطفتها من رحم اللحظة، وحضنت بعض أسطرها من تحت أنقاض الحرب وأنفاس الذاكرة. إن الهاجس المتكون في رواية الحرب والدمار هو مرآة لنفسية الكاتب، كما حدث مع ‘ارنست همنغواي’ حين كانت الحرب موجة اصطاد منها أعظم رواياته ‘وداعاً للسلاح’ و’لمن تقرع الأجراس’. وهنا بالذات تقع اشكالية: هل الكاتب محظوظ بهذه الحروب التي خاضها أم أنه عاش في لعنة ستجعله يكرر نفسه في كل ما يكتبه من قصص وروايات؟في البداية، يحصرنا الغموض في الرواية، ذلكَ أننا نقف عاجزين في وسطها متسائلين عن الشي المفقود فيها، والذي تريد الكاتبة أن تحكيه لنا. فالنص جاء مبعثراً ومليئاً بالحكايا المتباعدة والمتداخلة، حتي يتيه القارئ فيه ويصبح عاجزاً عن تحليله أو معرفة السر فيه. فالرواية تبدأ من قصة عمّة البطلة ‘رجاء’ والتي تزورها البطلة ‘ندي’ وجدّتها من حينٍ إلي آخر في مصح الأمراض العقلية، فتسرد الكاتبة بعض الحكايات التي تسمعها من الأقارب حول السبب الحقيقي لجنون العمّة، وينتهي سرد الحكايات والاقاويل دون أن نعرف ما هو السبب الحقيقي في جنونها، إنه لغز مرتبط ارتباطاً تاماً بنبوءة تكشفها الكاتبة لاحقاً، لندرك علي حين غفلة أن العمة ليست سوي بيروت التي تعيش امرأة مجنونة ولا أحد يعرف السبب الرئيسي في جنونها. إننا نكتشف ذلكَ أثناء رؤية البطلة ‘ندي’ كابوس غريب عن فئران غريبة بشوارب مجتمعة تتحدث بأصوات عالية، ثم تنطلق بسرعة تركض فوق جسد عمتها العاري. إنها نبوءة البطلة في الحرب القادمة، ولا يمكنني أن أخفي إعجابي بهذا الجنون الذي أسر العمة، علي الرغم من النهاية المفجعة التي وضعتها الروائية لهذا الجنون.

قد يبدو هذا الأسلوب في وضع شخصية العمة كمثال لبيروت رمزياً، إنه يعتمد علي صيغة الرمز المباشر في الطرح، ولو أننا نعتقد أن البطلة ‘ندي’ هي الأساس في القصة، وهي الشخصية المحورية، إلا أننا نكتشف في الأسطر الأخيرة فقط، أن العمة ‘رجاء’ هي التي تقيس الأحداث وتلعب بها، وهي الساحة التي تدور داخلها الشخصيات، والمسرح الذي تسرد علي خشبته الحكايا.

في الرواية أيضاً بعض الإسقاطات للحركة الاجتماعية في لبنان، فعلي الرغم من التحرر المعروف في لبنان، إلا أن الكاتبة تظهر لنا بعض الإشكاليات الاجتماعية التي تجعل لبنان محاصرة بالعادات والتقاليد كسائر الدول العربية. يظهر ذلكَ بعد حوار بين البطلة وصديقتها ‘هاديا’ حول الظواهر الاجتماعية في لبنان، من ما يعرف بالـ’مساكنة’ وكذلك مصالح مادية كما بين ‘هاديا’ وشاب خليجي وغيرها من الظواهر الأخري، فتسرد صديقة البطلة قصة شاب قتل أخته ‘غسل شرف’. وكذلك من الظواهر الاجتماعية التي تؤثر في حياة البطلة، علاقتها بـ ‘محمدو’ الشاب الإفريقي الأسود اللون، الذي التقت به البطلة في ‘المركز الثقافي الفرنسي’، وعلي الرغم من أنها كانت تلمح في الفصول الأولي عن علاقة جمعت البطلة بمحمدو حتي يشعر القارئ أن الرواية ستكون قصة حب، إلا أن الكاتبة وظفت فصلاً كاملاً بعنوان ‘هوي بري’ تتحدث فيه عن البطلة ومحمدو وأسرار وتفاصيل قصتهما. تقول البطلة أن علاقتها بمحمدو ‘شغف مبتور وغير عاقل’، ويتضح لاحقاً أن علاقة ‘ندي’ البيضاء و’محمدو’ الأسود غير مقبولة اجتماعياً، حينَ أرادت ‘ندي’ أن تضع أصابعها علي شفاه ‘محمدو’، فيقول لها الثاني: ‘ليس هنا’، وتنهي الكاتبة الفقرة بإسقاط اجتماعي حينَ يدعو ‘محمدو’ البطلة لمنزله، تقول: ‘غداً صباحاً بمقدوري ن أكون معه وحده، من دون هذه الأعين الرقيبة التي ألمح سخريتها لوجودي مع شاب أسود’.

تنتهي قصة ‘ندي’ و’محمدو’ بطريقة عادية جداً ودون صخب. الكاتبة توَضح لنا أن الشغف عندما ينتهي ينتهي بصمت ولا يحدث جلبة، وعلي الرغم من شغف البطلة بحبها ‘محمد ‘، إلا أنها لم تستطع البقاء معه لعدم قدرتها علي قراءة أفكاره – أفكار مخيلته. علي الرغم من أن الكاتبة تظل تذكر ‘محمدو’ في باقي الفصول وتضيف مشاهد بينه وبين ‘ندي’ حتي آخر الرواية.

أشياء كثيراً ما نقرأها في عوالم ‘لنا عبد الرحمن’ السردية: الفلك والإنترنت. ربما تكون إضافتها فقط شغفاً بهذه الأشياء التي تعبر عنها وعن عالمها الذي تعشقه. وعلينا الاعتراف بأنها تضيف نكهة مميزة للسرد. تخصص الكاتبة أسطراً كثيرة من الرواية تصف فيها علاقة البطلة بالإنترنت والمدونات والماسنجر والإيميل. في الصفحات الأولي من الرواية تكتشف الكاتبة عن وجود شاعرة تدعي ‘ناهية نصار’، عاشت في الخمسينات من القرن العشرين، وأنشأت صحيفة عن المرأة استمرت في الصدور لمدة عامين، ضاعت معظم كتاباتها الشعرية وتحاول البطلة أن تبحث عن كتاباتها وعن تاريخها، لهذا تبحث عن أبنائها المقيمين في ‘كاليفورنيا’ لمجرد شغف بمعرفة تاريخ تلك الشاعرة المنسية.

النهاية التي اختارت لها الكاتبة اسم ‘جنون تموز’ كانت نهاية الجميع. ‘عبدو’ أحد أصدقاء البطلة يقتل زوجته ‘نجلاء’ بعد أن اكتشف خيانتها له. البطلة تكون في سيارة التاكسي، تسمتع للأغاني الوطنية وتري الناس يوزعون الحلوي، تسأل السائق فيجيبها أن رجال ‘حزب الله’ أمسكوا جنديين اسرائيليين. العمة ‘رجاء’ تموت، ولا تعرف ماذا سيكون مصيرها أثناء الحرب.

‘تلامس’ أكثر من مجرد رواية. يمكن اعتبارها تقريراً عن لبنان اليوم، ونبوءة ‘لنا عبد الرحمن’ وهاجس الحرب هي صفحة من ذاكرة الماضي. نعم، الماضي، ماضي الحرب التي جاءت بالدم والدمار ورائحة البارود والجثث المرمية علي الطرقات، والفساد، والدعارة، والضياع، والملاجئ. إن الحرب ‘تنتج أدباً عظيماً’ كما يقول الكاتب جوناثان ياردلي.

  محمد المصراتي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى