رواية ‘تلامس’ : بين الانتماء إلى المكان والإغتراب عنه
الأسرار مرايا مكسرة، مرعبة، تعكس حقائق مستترة.
ل . ع
في روايتها الأولى ‘حدائق السراب’ تبدأ الروائية اللبنانية لنا عبد الرحمن هذا النص بهذا الاستهلال المعبّر عن واقع ما تعيشه الكاتبة في مسروداتها التي صدرت قبل هذا النص وبعده، هذه العتبة الاستهلالية تقول: ‘مأزق الكتابة كمأزق الموت لا نجاة منه أبدا’. تنسحب هذه العبارة على كل ما كتبته الكاتبة في أعمالها القصصية السابقة، بل هي تنسحب أكثر على روايتها الثانية التي صدرت عن نفس الدار التي أصدرت الرواية الأولى وهي الدارالعربية للعلوم منشورات الاختلاف، وكأنها بتصديرها لهذه العبارة في عتبة روايتها الأولى إنما تمارس نوعا خاصا من الطقوس الذاتية عند الإمساك بالقلم والبدء في عمل سردي جديد تضيف به عالما جديدا، وواقعا محددا، ورؤية لها سماتها ودقائقها إلى عالمها الإبداعي الخاص. ففي رواية ‘حدائق السراب’ يتجسد في هذا النص عالم فتاة في مقتبل حياتها تعيش الفن والحب والحرب والانتماء، تتماهى مع مشاعرها وأحاسيسها تبدو وكأنها تبحث عن رغباتها المكبوتة في طريق جديد اختارته هي لنفسها ‘: إنها خطوات بيني وبين نفسي لا أستطيع سيرها، خطوات أقف بها على أرض ذاتي لأتأمل مشاعري عن قرب، تلك التي ما زالت تنبض وتلك التي ماتت وتلك التي تئن ، والرواية تسرد كما تقول الكاتبة في حوار لها ‘: عبر راو خارجي كلي يتابع الأحداث من الخارج ويعبث بها، ويطلق سراح الأبطال ليتكلموا عن أحاسيسهم. (حدائق السراب) هي لعبة مرايا متجاورة في السرد كل مرآة تكشف جانبا من الرواية وجانبا من خفايا الشخصيات والأحداث’ .
وفي روايتها الثانية ‘تلامس’ تعيش الراوية حالة من الوجد والتصوف النابع من التوحد مع حالة من حالات الانتماء الخاص إلى الإنسان اللبناني والوطن المأزوم، كما تعيش أيضا محنة الاغتراب الذاتي في هذا الوطن بكل ما يحمله من تأزمات ومحن وكوابيس’. النصان في صيغتهما السردية يحملان داخلهما نسيجا خاصا من العلاقات الإنسانية المعقدة والمتشعبة، كما يحملان داخلهما أيضا تجربة سردية لها آليتها الخاصة في التناول، وهي التجربة التي تعكس الذاتي والموضوعي بكل تفاصيله الخاصة والعامة في نسيج النص، حيث تجربة الذات هي المستوى السائد والمتفاعل مع مجريات النص، وتجربة الموضوعي هي تجربة الواقع المقابل في المستوى التالي له في نسق النص. الرواية الأولى كتبت بضمير الغائب، والثانية كتبت بضمير المتكلم، ضمير الشخصية المحورية الراوية والرئيسية في النص وهي شخصية ‘ندى’، والسرد في رواية ‘تلامس’ يأخذ شكل المونولوج الداخلي منذ بداية النص وحتى نهايته، تمارسه الراوية بكل تفاصيله الحياتية، وهواجسه الذاتية المجسدة لعالم مأزوم تتطلع صاحبته إلى أن تنسلخ عنه وأن تنخرط في واقع جديد بعيدا عن خواء النفس وأمراضها المحيطة بها في كل مكان من حياته.
الكاتبة تحاول في هذه البؤرة النفسية أن تجمع النشاط السردي في تجميعات زمنية محددة تشرح فيها الواقع وما يحيط به وتعكس من خلاله ما يدور داخلها من أحوال خاصة من خلال الحكي المتواتر والمستمر في المتواليات الروائية المشكلة لجسد النص، إنها تجاهد لكي تجعل من الفعل السردي رؤية شاملة تستوعب داخلها مناطق تتجاوز الموصوف المباشر من خلال فعل الشخصيات وأقوالها وردود أفعالها، وهي بذلك انما تحدد من خلال العملية السردية الذاتي الخاص بها والنابع من حياتها والموضوعي الماس بمن يحيط بها من شخوص وأماكن وممارسات. والنشاط السردي كما هو واضح في نسيج الرواية يتحقق معظمه من خلال الوصف سواء أكان هذا الوصف ينحصر في المكان خاصة وصف المدينة والمدينة هنا هي مدينة بيروت بأحيائها وشوارعها ومحلاتها ومقاهيها وأجزائها المختلفة في الجنوب والشمال أو الوصف المرتبط بحالة الشخوص من ناحية المظهر والجوهر من الداخل والخارج فالكاتبة تجاهد لكي تجعل من الفعل السردي رؤية شاملة تستوعب كل ما يحدث على المستوى الذاتي أو الموضوعي.
وفي رواية ‘تلامس’ ثمة شخصية رئيسية في النص هي صاحبة السلطة فيه والمستأثرة مع الكاتبة بكل أبعادها الذاتية والاجتماعية والسياسية. وهي شخصية ‘ندى’ وهي الراوية العليمة بكل معطيات النص ودقائقه. وهي في السياق العام للنص تحاول فرض نظام من الكلمات والجمل والحواريات النابعة من مناخ النص وهو هنا المناخ الاجتماعي اللبناني تستخلص منه الأحداث الواقعية المشكلة للمواقف التي جاءت بها، وقد استخدمت الكاتبة في بنائه الفني للرواية نظام المتوالية النصية أو المتوالية الروائية المعتمدة على عدد من التيمات المستقلة ولكنها تتلازم لتشكل وحدة واحدة تحكي أحوال الشخصيات وممارساتهم وتأزماتهم وهمومهم وقضاياهم العامة والخاصة.
البعد الاجتماعي في النص
يتضمن النص بعدا اجتماعيا غنيا بالممارسات يظهر من خلال العلاقات المعقدة والمتشعبة الرابطة بين الشخصيات المتحلقة حول كل متوالية من متواليات الرواية، خاصة علاقة ندى باعتبارها هي الشخصية الرئيسية، والراوية العليمة بأمها وأبيها وجدتها وعمتها المريضة وأقاربها وزملائها وعواطفها المتأجحة، جميع هذه العلاقات تكمن في تجربتها الخاصة مع كل منهم، وفي انتمائها إلى المكان والزمان والهوية، العلاقة مع الأم تبدو في بعض الأحيان فاترة لعدم وجود تقارب مكاني وحضور أسري بينهما إلا من بعض أوقات تحضر فيها الأم إلى بيروت حيث تتوثق العلاقة لبعض الوقت ثم تعود الأمور إلى طبيعتها بعد سفر الأم إلى الخليج عائدة إلى اسرتها الصغيرة هناك ‘: في لحظات وحدتي، في أيام العيد، وفي الصباح الباكر، لطالما تمنيّت لو كانت أمي معي، لو كانت علاقتها بي أكثر عمقا من زياراتها الصيفية التي تحضر لي فيها ثيابا وأحذية، وحقائب من آخر الموضات.
وتصطحبني في نزهات ورحلات لنطوف الجبل والشمال والجنوب مدة أسبوعين قبل أن يأتي زوجها وولديها وتنشغل بهما’. البوح بين ندى وأمها مقطوع تماما بسبب اغتراب الأم وغربة ندى الذاتية، حتى أن الأم تنكرها دائما أمام معارفها وأصدقائها وتنسبها إلى أختها وليس إلى نفسها. العلاقة مع الأب هي الأخرى كانت فاترة بسبب روتين حياته الخاصة ‘: كان يعود من عمله في الثالثة ظهرا، يدخل إلى حجرته يتناول الغداء فيها، ثم ينام القيلولة، يستيقظ قبيل المغرب بقليل، ينزل إلى المقهى ليلعب الطاولة والورق، يعود مساء ليتناول عشاءه ويشرب كؤوسه الثلاثة. لم يكن يسكر، كل ما كان يفعله أن يخرج عن صمته، العرق يساعده على الكلام. وفي كثير من المرات كان يحكي قصته مع أمي، وكيف تركته’ ، أما الجدة وصاحبتها أم سمير فكانت لهما حضورهما وسطوتهما الخاصة على ‘ندى’ الأولى من خلال سطوة التربية الحازمة من امرأة متمرسة خبرت الحياة بهمومها ومشاغلها، والثانية بهذا التآلف والتناغم الذي يظلل الألفة بين النساء في قرى الجنوب حيث الأسرتان وكأنهما أسرة واحدة في الطباع والمعيشة والحياة ‘: كان وجود أم سمير في حياة جدتي يجعلها على صلة بضيعتها في الجنوب، هكذا تظل متواصلة مع أقاربها ومعارفها وجيرانها، عبر سماع أخبارهم وزيارتهم في أيام الصيف، وفي الأعياد وعند حدوث أمر عاجل من فرح وحزن.
لم أكن أرى في جدتي سوى امرأة قوية، العواطف الإنسانية عندها تأتي في الدرجة الثانية بعد العقل والمال. كانت تحب أن تدلل نفسها، كما تحب الظهور كزعيمة أمام جاراتها ومعارفها وأقاربها. وفي معظم الجلسات تكون ‘جدتي’ سيدة الموقف بلا منازع خاصة حين يكون دورها في ‘الصبحية’ حيث تجبر كل جارة من اللواتي يشربن الأراغيل بإحضار أرغيلتها والمعسل الذي تشربه، تقول لهن ما بين الهزل والجد وهي تضرب على صدرها ‘وأنا علي المكان والفحمات’. تلك كانت علاقة ‘ندى’ بأمها وأبيها وجدتها، وهي العلاقة المباشرة التي كانت تسبب جزءا كبيرا من تركيبتها الذاتية الخاصة. حتى إن هذه العلاقات الهشة كانت تسبب لها كثيرا من التأزمات والكوابيس ‘: في طفولتي كنت أستمع لحوارات جدتي وأبكي في العتمة. وفي المدرسة كنت أحس بالضآلة حين تطلب مني المدرّسة قدوم ولي أمري. الفتيات يسألنني ‘: وين أمك، ليه ما بتجي عالمدرسة؟’ لا أرد، أنطوي داخل شرنقتي’ . على العكس من ذلك نجد أن هناك ارتباطا غريبا بين ندى وعمتها، هذا الارتباط ناتج عن قوة قهرية جمعت بين الاثنين، ندى تركتها أمها وهي صغيرة وسافرت إلى الخليج بعد طلاقها، والعمة أصبحت وحيدة بعد رحيل الجدة والأب ولم يتبق في هذه الدائرة الضيقة سوى ندى والعمة، هو رباط نفسي نابع من محنة الاغتراب الذي وجدا نفسيهما فيه، العمة مريضة بمرض حار الجميع في أسبابه ونتائجه، وندى تخشى انتقال هذا المرض إليها من كثرة ما سمعت عنه من الأقارب والمعارف، لذا فهي باقية مع عمتها حتى مع إلحاح أمها لها بالسفر معها إلى منطقة الخليج ‘: تزعجني عبارات أمي، لا أستطيع مواجهتها، لم أقدر على القول لها إنني لا أستطيع التخلي عن عمتي، بعد وفاة جدتي، وموت أبي’.
أيضا نجد أن العلاقة مع الأحلام والكوابيس كانت تشكل بعدا غرائبيا داخل النص، فالكوابيس التي كانت تنتاب ندى أثناء نومها هي انعكاس للخوف الشديد من وجود جينات الجنون لديها، هي تشعر أن هذه الجنون قادم، لذا كانت كوابيسها متعددة الأشكال والسيرورة، ولكن متى وأين؟ ذلك كان هو البعد المبتسر والغير معلن، وكان هو التخوف الذي بدأت به الراوية نص الرواية حين قالت ‘: أكثر ما يخيفني أن أصير مثلها، أن تكون نهايتي كنهايتها’.
هذا التخوّف كان هو بداية النشاط السردي لآلية تجسيد هذه الكوابيس التي كانت تهاجم ندى أثناء نومها ‘: الكابوس ذاته يتكرر بتركيبات مختلفة، عمتي تركض في الشارع بشعر منكوش، وأنا أركض خلفها، ثيابي ملوثة بأتربة ووحول بلون الصدأ، خلفي سواد وأمامي سواد، في الشارع، في السماء، وهي تقهقه مولولة ثم تبتعد بعيدا، ثم أرى نفسي كما لو إنني صرت هي’.
من هنا نجد أن الكاتبة تبني عوالم في الخفاء لا يرى منها القارئ سوى المتحقق بشكل صريح أو بشكل ضمني داخل البناء الفني للنص ومضامينه. نجد أيضا أن الكوابيس المبثوثة في نسيج النص إنما هي أيقونات وعلامات خاصة توحي من خلال التخييل والواقعي ما هو أبعد من ذلك، إنه يمس الوجود الكلي للمكان والزمان، فهذه الكوابيس التي تنتاب ندى بين الحين والآخر علامات لها انسجامها مع ما يطول الوطن من أزمات ومحن، لها عمقها الخاص على الجميع، لذا نجد أن هذا التناص المضمر بين ندى والوطن كامن بشكل جيـد في هذه الكوابيس التي تنتاب ندى بين الحين والحين، والتي تتلبس الوطن حين يكون هناك تهديدات تطوله، وأن الجميع في هذه الحالة يعيشون الحلم بصورة أو بأخرى وكما تقول الكاتبة في حوار لها: ‘استغرب جدا من الأشخاص الذين لا يحلمون، أحس أن شطرا من حياتهم معـطّل’ (ج السفير) هي تبدو في قلقـــها وغـــربتها عبثية الموقف، سلبية في حيـــاتها وكما تقول الكاتبة في حوار لها عـــن رؤيتــها الخاصة للنص’: عبر شخصية (ندى) ومن خلال عمرها ومرحلتها الزمنيـــة أردت الحديث عن جيل شاب لم يعش الحرب من قبل لكنه يعيش اضطرابا داخليا وعــــدم ثبات، وعدم إيمان بأي شيء، جيل تكــّون وعيه على تحول مفاهيم كبرى، واضطراب ايديولوجيات وتحول رؤى اجتماعية ودينية، وأيضا سمع حكايا الحروب وويلاتها، ووسط كل ذلك يخلق دوائره الخاصة وعوالمه المحكومة بتقنيات عصرية لا غنى عنها .
شوقي بدر يوسف