قراءة في رواية ” ثلج القاهرة “
ثمة علاقة وثيقة بين التجربتين الصوفية والأدبية تكمن في سعي كل منهما نحو الأسمى والأفضل وتقديم صورة للعالم البديل الذي يرتقي الصوفي من أجله معراج الروح، ويبغيه الأديب مرتكزا على الثنائيات الضدية إظهارا لعوار مجتمعه ومفاسده أو محلقا في عوالم خيالية مثالية يقدم من خلالها صورة ضمنية تجسد حلمه الأسمى بالمجتمع المثالي الذي يصبو للعيش فيه.
وقد برزت هذه العلاقة بوضوح في كتابات لنا عبد الرحمن وهي من الكاتبات القليلات الحريصات على الارتقاء بمستوى نصوصهم الساعيات إلى التطوير والتجديد والتحليق في سماوات الإبداع‘،وإذا تتبعنا حلقات المنجز السردي لها بداية من أوهام شرقية والموتى لايكذبون ،وانتقالا إلى رواياتها السابقة:حدائق السراب وتلامس و أغنية لمارجريت ،وانتهاءا بثلج القاهرة فإننا نجد خطا واضحا يلعب دوما دور البطولة في كتاباتها يكمن في سعيها لاستبطان سر الوجود والكشف عن العوالم المتجاورة بين الخيال والواقع والارتحال عبر أزمنة متعددة.
لكن هذا الخط لم يكن أبدا بنفس القوة وطغيان الحضور اللذين نراهما في آخر حبات عنقودها الإبداعي (ثلج القاهرة) وهي رواية مقسمة على ثلاثة فصول تقع في مائة وست وتسعين صفحة تقوم فكرتها الرئيسة على فكرة التقمص والحلول والارتحال في أزمنة متعددة وتصوير عوالم متباينة بالموازاة مع أمكنة كثيرة تشهد تحرك شخصياتها وشبكة العلاقات التي تنسجها مع سيطرة هاجس الزمن ومرور الوقت.
دلالة العنوان:
يمثل العنوان العتبه الأولى التي يتواصل القارئ من خلالها مع النص وبقدر ما يحمل العنوان من شحنة دلالية وإيحائية تضئ المحتوى وتحفز مخيلة القارئ وتثير توقعاته بقدر ما يحقق وظيفته التواصلية عبر مستوياته المتعددة: التركيبية، والدلالية، والتداولية فهو من مقومات الجمالية والفنية التي تكشف عن مدى تمكن المبدع من موضوعه ، وهو من أبرز مفاتيح قراءة النص الأدبي وفك استغلاقه ، بل إنه من الأسس المؤثرة في إحداث الثقة والجمال واللذة ، وقد يرتقى العنوان جمالياً ليصبح نصاً يتشاكل مع النص المتن ويتقابل معه ، وقد ينافسه في إحداث الأثر المناسب باعتماده على الاقتصاد في اللفظ والتوسع في الدلالة والقدرة على توظيف الرمز والإيحاء والإشارة بالقدرة نفسها التي يوظفها النص على الرغم من قصر العنوان وتكثيفه قياساً إلى المتن وكأن العنوان يعتصر التجربة الإبداعية في كلمة أو مجموعة كلمات .
وقد تخيرت لنا عبد الرحمن لروايتها عنواناً من هذا النوع جاء معتمداً على مركب إضافي شبه جملة (ثلج القاهرة) وهذا التركيب الإضافي تتحكم فيه علاقة توليدية وعلاقة تحويلية، فأما العلاقة التوليدية فهى علاقة الإضافة بين اسمين أولهما نكرة وثانيهما معرفة وما بين الاسمين حرف جر مقدر هو واحد من حروف الجر الأربعة (ل،من،في،ك) .
أما العلاقة التحويلية : فتعنى تحول من نطاق القدرة الكامنة إلى نطاق القدرة المستخدمة؛ ذلك بأن انتقال قاعدة الإضافة إلى ميدان التحقق الواقعى للغة يسقط حرف الجر المقدر بين طرفيها.
هذا التعقيد الذي يجمع التوليد والتحويل لصياغة مركب لغوي لا يقوم بذاته وإنما يتعلق بسواه فطرفي التركيب الإضافي لا يقومان بذاتهما وإنما يتعلق كل منهما بالآخر فأحدهما يحدد ماهية الآخر، يلعب دور علامة تضاف إلى العلامات اللغوية .وعنوان الرواية عنوان مخاتل لا يمنح فحواه للقاريء بسهولة فللوهلة الأولى يشعر القاريءبالغرابة وعدم الانسجام فما علاقة الثلج بالقاهرة ؟وهي المدينة شديدة الحرارة،علاقة القاهرة بالثلج ليست علاقة امتلاك ولكنها علاقة احتياج فالقاهرة كما ترى الكاتبة تحتاج للتطهير وإعادة تشكيل من جديد فالثلج في عنوان الرواية له دلالة رمزية، يطغى على فكرة أن الثلج يرمز لبرودة العلاقات الانسانية. وهذا يتضح في حوار داخل النص، حيث الرغبة برؤية مدينة جديدة تقاوم انهيارها، الثلج هنا يحضر منذ الصفحات الأولى في حلم تراه بشرى حيث القاهرة كلها مكللة بالبياض، وأيضا في نقاش بين بشرى وأسماء حيث تقول بشرى إن القاهرة تحتاج للثلج كي يغطيها، و يغسل كل طبقات السواد المتراكمة فيها وعلى هذا يكون الثلج هنا رمزا للتطهر ورؤية مدينة تقاوم انهيارها الحتمى كما ترى سولاف هلال
التقمص :
تدورالرواية حول فكرة التقمص والحلول وجوانب من التصوف عبر ارتحالها في أزمنة عدة وتصويرها عوالم متباينة بالموازاة مع أمكنة كثيرة تشهد تحرك شخصياتها وشبكة العلاقات التي تنسجها وانتقال الروح من جسد انسان الى جسد آخر يسمى التناسخ. وهو نظرية دينية قديمة تقوم على عودة الروح بعد الموت الى الحياة في جسد جديد، ويرى القائلون بها الروح جوهرا إلهيا أزليا خالدا، وخلودها يستمر في حيوات شتى تكون في امتدادها حياة واحدة أبدية مستمرة.وهذا ما ذهبت إليه لنا عبد الرحمن عندما اقتبست عبارة لإخوان الصفا وضعتهافي صدر روايتها تقول)الكون إنسان كبير).
وتعد هذه العبارة مع الأشعار والأقوال التي حرصت الكاتبة على بثها بين ثنايا روايتها ملخصة لمضمون الرواية وموضحة لفكرتها وموضوعها.
وقد كان الفراعنة أول من آمنوا بهذه العقيدة، وجسدوا ذلك في طريقة دفن أمواتهم، اذ كانوا يعمدون الى وضع كل حاجات المأكل والمشرب والادوات الشخصية مع الميت، حتى إنهم وضعوا تماثيل لخدّامهم لاعتقادهم انه عند عودة الروح الى المتوفى سيجد الجميع في خدمته، كما كانوا يرسمون وجه الميت على التابوت بهدف تعرّف الروح على جسدها كي لا تلتصق بجسد آخر.
وفي اليونان ايضاً، آمن بعض الفلاسفة بـ “التناسخ”، ومنهم أفلاطون وأرسطو وسقراط، اذ يعتبر أرسطو ان الروح إذا لم تكن صالحة تعود لتخلق في جسد حيوان. وآمنت بذلك بعض الديانات في الهند والصين والشرق الاقصى، كالبوذيين الذين يعتبرون ان الحياة عذاب، وروح الانسان ان لم تكن صالحة ستعود إلى الأرض في جسد آخر حتى تصبح طاهرة.
والتقمص في اللغة العربية هو “مصدر تقمّص، اي لبس قميصاً”. واستعار الموحدون الدروز هذه اللفظة لكي يطلقوها على الوجه الاول من اشكال التناسخ الذين يؤمنون به، اي انتقال الروح بعد الموت من جسد المتوفى الى جسد مولود بشري آخر، وعنهم اخذت هذه التسمية وانتشر استعمالها. وقد اشارت الكاتبة لهذا المفهوم بوضوح في عبارة قرأتها بشرى أثناء بحثها عن إمكان الحياة مرة أخرى (إن النفس لا تموت بل يموت قميصها الجسد وينتقل إلى قميص آخر أي جسد آخر) وقد عبرت الكاتبة عن هذه الفكرة بشكل آخر عندما تحدثت عن الثوب الذي اشترته بشرى وشعرت أنها ارتدته من قبل ،ثم جاءت نورجهان لتقول إن هذا الثوب هو ثوبها فعلا وأنها ارتدته من قبل
كما نجد هذا النص الذي نقلته عن جيمس جويس في رائعته أوليسييس معبرا تماما عن مضمون الرواية وفكرتها الأساسية وفيه يقول (لم تكن ولادتي بدايتي ،إنني مازلت اترعرع وأنشأ عبر ألفيات الأزل التي لا تحصى ما زلت أسمع بداخلي أصوات ذواتي السابقة آه لا تحصى هي المرات التي سأخلق فيها مجددا)141
وتتجسد فكرة الحلول بوضوح في قول نورجهان واصفة علاقتها ببشرى:
(لست سرابا أنا هي وهي أنا أعيش في هذه الحياة فيها وعبرها ومن خلالها وهي تعيش عبري ومن خلالي منذ زمن ضاعت حدوده)
وهذه العبارة تذكرنا بقول الحلاج : (أنا من أهوى ومن أهوى أنا)
وهاهي تعبر عنها أخرى في نهاية الرواية:
(تتشابه حياتي مع تفاصيل حياتها نمضي في روح واحدة عبر أكثر من جسد لنشكل ذاكرات تتراكم فوق بعضها مثل الجماجم الميتة خرساء وصامتة تراقب عن كثب كل ما يدور حولها وتسبب الخوف لمن يحدق في فجوات العيون 184)
ولكن لماذا يتم التقمص أو التناسخ؟
يقول الباحث محمد خليل الباشا في كتابه “التقمّص واسرار الحياة والموت” ان الغاية من اتخاذ الروح الجسد لباساً لها هي الاختبار والتجربة في طريق التسامي والترقي لتحقيق الذات وبلوغ الصفاء والنقاء، وهذا لا يمكن ان يتحقق في خلال السنوات القصيرة المعدودة للانسان في التقمص الواحد، فكيف إذا ما مات الانسان شاباً أو طفلاً، وما هي قيمة السنوات مهما كثرت في حياة روح خالدة، بل ما قيمتها في بحر الزمن، في كون هائل سما على الزمان والمكان. فالتجارب اللازمة لإدراك المعرفة وبلوغ الصفاء لا يمكن ان تتم في زمان محدود أو مكان محدود، بل بأعمال لا تتسع لها حياة واحدة ولا مكان واحد في الأرض . وقد بينت لنا في روايتها (أن العودة للحياة في جسد جديد بسبب غاية لم تتحقق في الحياة السابقة وأن الروح تنتقل إلى جسم بشري آخر بعد موتها مباشرة أو بعد موتها بوقت طويل أو قصير فالزمن نسبي)
ويرى الموحدون الدروز ان التقمّص يتم لتحقيق العدالة الالهية “فالمجتهدون بهذه العقيدة ارادوا ان يجدوا تفسيراً للتناقض الموجود في الحياة، فلماذا هذا اعمى وهذا مبصر؟ ولماذا هذا غني وهذا فقير؟”. ويضيف: “عندما يولد توأمان، احدهما ضرير والثاني مبصر، فماذا جنت يد الضرير حتى ولد هكذا، وماذا جنت يد البصير حتى ولد على حالته؟ فقالوا انه لا بد من عمل سابق استحق فيه الضرير ان يولد ضريراً واستحق فيه البصير ان يولد بصيراً،
لماذا إذن عادت روح نورجهان لتحل في جسد بشرى؟
عادت لتحقق ذاتها تتغلب على عجزها جاءت لتقي بشرى كل حزن يعرقل مسيرتها حتى لا تقع فيما وقعت فيه
وقد عبرت نورجهان عن عجزها في أكثر من موضع منها:
( مت باكرا وحين أخذت الفرصة لأعيش من جديد لم املك القدرة على الفعل ايضا ولم أقم بشيء إلا بالتعاطف مع كل ما ينبض بالحياة حولي حينها لكن بما يجدي التذكر الان التذكر وحده لا ينفع حين نكون عاجزين عن الفعل)
وحين أدركت بشرى أن هذه الحياة قد تكون فرصتها الوحيدة الأولى والأخيرة قررت اختيار الحياة وانجاب طفل اختارت حاضرها ومستقبلها وحققت ذاتها، لتأتي عبارة نورجهان في خاتمة الرواية مؤكدة على هذا الاختيار وداعمة له لأنه الغاية التي أرادت تحقيقها وفشلت غعادت لتحققها في شخص بشرى:
(كان ينبغي أن ابعد عنها ذاك الحزن الذي يحجب كل بصيرة عن الغد الحزن الذي جعلها عاجزة عن التحرك نحو الأمام لكنها نجت وصار قلبها متقدا بجذوة مضيئة خارج عالم الثلج والنار)
فكرة ملحة على الكاتبة :
والمتتبع لكتابات لنا عبد الرحمن يستطيع بسهولة إدراك انشغالها بعالم الماورائيات وحرصها الواضح على الكشف عن العوالم المتجاورة بين الخيال والواقع مثلما نرى في مجموعتها القصصية(الموتى لا يكذبون)وروايتها (تلامس)حيث يظهر هذا الميل بوضوح شديد،والذي تجلى في أبهى صوره في روايتنا ثلج القاهرة.
ورغم صعوبة الفكرة،واختلاف الدارسين حولها فقد تخيرتها لنا موضوعا لرواينها أوغلت فيه بإبداع رائع لتقدم لنا رواية شديدة الحرية شديدة الفرار من التقاليد تدفعنا إلى أن نكون قراءا خياليين نقرأ بعين عقلنا لنبحث في الخيال عن الواقع وفي العدم عن حقيقة الوجود عبر تنقلنا بين الواقعي والميتافيزيقي .
تعالج كل هذا كاتبة مبدعة صاحبة ثقافة موسوعية واضحة وإلمام كبير بما يدور حولها جعلتها تكتب عملا مميزا يجمع بين الإمتاع العقلي والإمتاع الفني بمهارة تحسد عليها.
تسير الرواية وفق خطين سرديين متداخلين أحدهما يسرد حكاية الأميرة نورجهان الأميرة المصرية التي تتزوج من أمير تركي زواجا لايكتب له النجاح بسبب عدم تقبل أسرته لها من جانب وعدم قدرتها على التكيف مع جو اسطانبول شديد البرودة من جانب آخر فتعود لمصر لتعوض فقدانها للدفء المادي والمعنوي وفي القاهرة تلتقي بيوسف الطبيب المسيحي الذي يحبها بصدق لكنها لاتتمكن من الزواج منه لتنتهي حياتها على يد صابر الدمنهوري الذي قتلها طمعا في مالها.
وأما الخط السردي الثاني فيسرد قصة بشرى الفتاة التي رأت نور الحياة نتيجة زواج والدتها المصرية من محام سوري وهي الزيجة غير المرحب بها في أسرته لذلك بمجرد وفاته ترجع الأم بابنتها إلى القاهرة لتبدأ بشرى رحلة حياة صعبة تشهد زواجا فاشلا من ناصر وعلاقة حب مؤجلة مع ناجي وصداقة تنير لها طريقها مع صافي الطبيب الذي ترك الطب وتفرغ للفلسفة تنجذب إليه بشرى لكنه يغيب فجأة كما ظهر فجأة وفي القاهرة أرادت بشرى أن تعرف كينونتها وحقيقة ذاتها فتتبعت الخيوط التي تربطها بنور جهان حتى تأكدت من أن روح نور جها ن تسكن جسدها وأنهما شيء واحد وحينها قررت الانتصار للآن والتمرد على الماضي قررت أن تعيش حاضرها.
وهناك خط سردي ثالث خافت في خلفية هذين الخطين يسرد قصة سولاي الفتاة الغجرية التي رافقت طبيبا عربيا لم يتمكن من إبعاد الموت عنها فماتت في سن السادسة عشرة ،وبمقارنة الخطوط السردية الثلاثة يتضح التشابه الكبير فتلك الروح تنقلت في أجساد ثلاثة لسولاي ونورجهان وبشرى وصاحبت طبيبا في كل مرة حاول أن يمد لها يد العون طبيب للروح قبل الجسد فشل في المرتين الأوليين لكنه ربما حقق شيئا من النجاح في المرة الثالثة عندما اختارت بشرى الحياة والبعد عن ماضيها اختارت الا تبقى معلقة بين زمنين واستقرت على أرض الواقع لتنتصر لزمن الآن على زمن قد كان.
وقد يصل التشابه بين بشرى ونور جهان إلى الجوانب المادية فتشعر بشرى بألم في صدرها في نفس المكان الذي طعنت فيه نورجهان ،وعندما تمرض نورجهان وتبدأ في نزيف شديد نجد بشرى تنزف في نفس الوقت
الشخصيات:
إذا كانت القدرة على بناء الشخصية تساوي في الغالب بناء القصة أو الرواية الجيدة بمعنى أنه بقدر براعة الكاتب في رسم شخصياته الروائية بقدر ما يكون عمله ناجحا فإن لنا عبد الرحمن تمتلك قدرة فنية واضحة مكنتها من تقديم شخصيات روايتها تقديما متقنا أيقظها من رقادها فوق الأوراق وبث فيها الحياة ، وجعلها لوحات فنية معبرة لا تنفصل عن بقية التقنيات السردية وإنما تنصهر معها لتخلق نصا أدبيا بالغ الثراء والإمتاع وقد حققت الكاتبة هذا التميز عبر الوصف الخارجى للشخصيات، أو الحوار الذي يدور بينها ، أو المنولوج الداخلي الدائر في نفوسها ، أو الاستعانة بالشخصيات الثانوية لتوضيح أفكار الشخصيات الرئيسة وصورها ، وغيرها من وسائل رسم الشخصية الروائية.،وقد برعت لنا في رسم شخصيتها الرئيسة بشرى بمشاعرها وأحاسيسها آلامها وأحلامها حيث غاصت في أعماقها لترسم لها صورة حية نابضة بالحياة ،وكذلك فعلت مع نورجهان بالإضافة إلى كم كبير من الشخصيات الثانوية التي رسمتها الكاتبة ببراعة شديدة مثل أسماء ، شهد،وشخصية صابر الدمنهوري ‘وصافي ونجيب القاضي وغيرها من الشخصيات التي أخذت حقها من التفاصيل والحضور والبطولة والتألق حتى وإن كانت فترة حضورها الروائي قصيرة وخاطفة مثل الشيخ‘ وحارس الكنيسة،والعمة سميرة وكلها شخصيات مهمة رغم قصر مساحاتها في الرواية
وقد حرصت لنا في رسم شخصياتها على التركيز على عدة عناصرمثل المظهر الخارجي والملامح الشكلية،التكوين النفسي والصفات الداخلية،البيئة المحيطة بالشخصية،التحولات الطارئة على الشخصية مع تطور الحياة وتغير الظروف.
فمن أمثلة الوصف الخارجي الفوتغرافي للشخصية وصف الكاتبة لأسماء حيث تقول: ( كان لأسماء بشرة سمراء عينان واسعتان بأهداب كثيفة وجسد مستدير لدن بعظام شبه متلاشية خلف استدارات أنثوية بارزة) 44
ووصفها لصافي حيث تقول: كان لصافي مظهر سائح يتفرج على الحياة أكثر من هيئة طبيب جاد بشرته بيضاء مشبعة بالحمرة تجاعيد جبينه وغليونه تمنحه ملامح فيلسوف أما شعره الرمادي فيشبه شعر قائد أوركسترا متقاعد يتحرك ببطء ويتحدث بصوت خفيض وجمل مقتضبة تلمع عيناه يتمتم بثقة حين يكون على وشك قول جملة هامة كان فيه هدوء رجل زاهد بالحياة.
ونلاحظ في هذا الوصف الدقة الشديدةفي رسم صورة تفصيلية لشخصية صافي نركز على هيئته الخارجية وتشير إلى بيان طبيعة شخصيته، وعلى هذا النمط الرائع تسير لنا عبد الرحمن في رسم شخصياتهارسما يكسبها حياة متدفقة تصنع حركتها وحيويتها بالكلمة الرائعة المبدعة لترسم صورة بديعة ربما تعجز الألوان والفرشاة عن رسم نظير لها.
ومع براعة لنا الواضحة في الرسم الخارجي للشخصية إلا أنها تكون أكثر تحليقا وتحررا عندما تغوص في أعماق شخصياتها كاشفة عن الجانب النفسي لها مثلما رأينا وصفها لشخصيات بشرى ونورجهان وسميرة وصابر الدمنهوري الذي يصارع قدره ويعيش مطاردا هاربا من شبح جريمته لمدة ستين عاماحتى يموت رعبا وخوفا. وكذلك عندما تشير للتحولات الطارئة على الشخصية مثلما حدث مع شهد الفتاة الجميلة المحبة للتمثيل والتي تزوجت من رجل عربي ثري لتقف في آخر طابور زوجاته متخلية عن حلمها .
حضور المكان :
ولأن الشخصيات لا تتحرك في الفراغ وإنما تحتاج إلى بيئة مناسبة لحركتها فإن الكاتبة قد احتفت بالمكان احتفاء خاصاً جعله يلعب دور البطولة في هذه الرواية المكان في هذه الرواية يعد عنصراً داخل الرواية وليس مجرد خلفية للأحداث فهناك ثلاثة أماكن رئيسة في الرواية هي اسطنبول ودمشق والقاهرة تتنقل بينهابطلتا الرواية نورجهان وبشرى ،فالأولى شديدة البرودة مليئة بالدسائس والمؤامرات تشهد فشل زواج نورجهان ومرضها،والثانية مستودع ذكريات بشرى ومكان ميلادها لذا فهي دائمة الحنين إليها ولأمطارها،أما الثالثة فهي المدينة التي شهدت استقرار نورجهان وبشرى وفيهه عاشتا.
وإذا كان للمكان عدة أبعاد ترتبط به وتتأثر ، فمن الطبعي أن يطبع أثره على حياة ساكنيه بل على ملامحهم وحالاتهم النفسية وهذا مانراه بوضوح في وصف الكاتبة لسكان القاهرة:
(كل شيء يغلفه غشاء من الغبار الرمادي بكثافة متفاوتة الهواء الطريق السيارات المباني الشارع الرئيسي المكتظ بالناس والسيارات على ملامح البشر يختلط البؤس بالتعجل جميعهم يتعجلون شيئا ما يريدون إنجازه بسرعة قسماتهم معجونةبيالتعب والتوتر البارز في تجاعيد وجوههم الشباب ايضا تبدو وجوههم مغضنة بتجاعيد سرية حجزت مكانها مبكرا)
لذا كان من المنطقي أن تقول إن القاهرة تحتاج لأن تغسل أو يغطيها الثلج لتتطهرولعل هذا يذكرني بقول المعري:
والأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درن تغسل
ومن الناحية النفسية يغلف الشخصيات إحساس بالحزن المختلط بالحسرة ، والشعور الحاد بالفقد والغياب في صورته المادية أو المعنوية بداية من فقد الدفء والحب إلى فقد الآمال والطموحات والأحلام .
وقد حرصت الكاتبة على رصد التحولات التي شهدتها القاهرة مبرزة الظواهر السلبية التي صبغت وجه القاهرة مثل تصنيف الناس بحسب ملابسهم ،ظواهر التحرش والعشوائية في كل شيء ازدحام الشوارع كثرة القمامة فيها،التعلق بقشور الدين لا بمضمونه ،سيطرة المادية وتراجع المشاعر والعواطف ورغم قسوة النقد الذي وجهته الكاتبة للقاهرة إلا أنها قدمته بحب حرصا عليها وتمسكا بها انعكس ذلك بوضوح على تمسك بشرى بالحياة فيها وعدم الرحيل عنها.
آليات السرد في الرواية:
– النظام الزمني ..
يلعب الزمن دورا مهما في روايتنا فنحن امام زمنين يتحرك بينهما النص زمن ماض وزمن حاضر،والزمن في الرواية استعادي دائري لا يتقيد بالتتابع المنطقي للأحداث،يعتمد كثيرا على الاسترجاع أو الاستباق في سرد الأحداث مما يحدث تداخلا زمنيا متذبذبا يمنح السرد جمالا أخاذا ويحرر زمنه من أي قيود في التعامل مع الشخصيات واللغة وبقية المشكلات السردية الأخرى.
وقد لجأت الكاتبة إلى تقنية القطع والتناوب بين الأحداث وهذا من شأنه أن يخلق حالة من التوتر تجعل المتلقي مشدودا إلى آخر الرواية،وعندما ينتقل المؤلف بين زمنين مختلفين وشبكتين من العلاقات الداخلية التي تربط أبطال كل حكاية فإنه يحاول إيجاد رابطة تبرر هذا التوازي والتداخل بين الحالتين وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد.
– سرعة القص ومدته الزمنية ..
لسرعة السرد عدة مستويات منها القفز والاستراحة والمشهد والإيجاز، وبالنظر في هذه السرعات يتضح بجلاء غلبة السرعتين الثانية والثالثة على سرد الكاتبة ،فالاستراحة التي يطول فيها زمن القول عن الزمن الواقعي تتحقق فيه كثير من أجزاء الرواية ولاسيما في المقاطع الوصفية التي تعشقها الكاتبة .
ومن أمثلة هذه الحركة التي يتآزر فيها التصوير الوصفي مع التصوير السردي وصف الكاتبة لبيت الشيخ في جبل الأربعين:
(كان بيت الشيخ متواضعا جدا باب البيت خشبي صغير قديم وباهت يشبه بيوت الأقزام لو دخل منه شخص طويل سيضطر إلى الانحناء أرض البيت لم تكن مبلطة وعلى يمين الباب الخشبي توجد غرفة صغيرة في أرضيتها سجادة في وسط الغرفة مدفئة كبيرة تبث الدفء في المكان وحولها فرش سميكة من الإسفنج للجلوس)
وهكذا تصف لنا بيت الشيخ وصفا سينمائيا يعتمد على الصورة والألوان وهو وصف تبرع فيه لنا وتكرره كثيرا في روايتها.
– الصيغة السردية..
راوحت الكاتبة بين استخدام الراوي العليم والراوي المشارك في روايتها ببراعة فائقة ،فنحن نستمع لصوت الراوي العليم وهو يتحدث بضمير الغائب عن بشرى وقصتها‘كما نرى الراوي المشارك في حديث نورجهان عن قصتهاوقد بدأت الرواية وانتهت بها، وقد حرصت الكاتبة على التمييز بين الراويين في شكل خط الكتابة،وفي طبيعة لغته وأهدافه المختلفة عن الآخر.
– الصدى السردي ..
إن الأدب الذي يملك شرعية الوجود وأحقية البقاء هو الأدب الذي يكتبه صاحبه بدماء قلبه وبوحي من أوجاعه وآلامه المستمدة من أوجاع الإنسانية وآلامها وبوحي من احتراقه في سبيل قضايا الحرية والعدل والمساواة، وهذا ما سعت إليه لنا عبد الرحمن لا في هذه الرواية فقط ولكن في جميع حلقات منجزها الإبداعي الكتابة عندها قضية حياة ووجود لذلك فهي تضع نصب عينيها عبارة ماركيز: (إن كنت تستطيع أن تحيامن غير الكتابة فلا تكتب) التي تعلق عليها بقولها؛ الكاتب الحقيقي تعادل الكتابة وجوده الحياتي لذا أنا أكتب
– لغة الكتابة ومستوياتها..
المقصود بالمستويات اللغوية داخل العمل السردي أن الكاتب الروائي عليه أن يستعمل جملة من المستويات اللغوية التي تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية،بحيث يستعمل الكاتب اللغة التي تليق بشخصياته المختلفة،وقد نجحت لنا نجاحا واضحا في تخير اللغة اللائقة بشخصيات روايتها،فلغة كل شخصية تعبر عن خلفيتها المعرفية وأرضيتها الثقافية فلغة صافي مثلا غير لغة ناصر المختلفة عن لغة ناجي، والحقيقة أن اختيار لغة الرواية ليس أمراً ميسوراً ؛ لأنها أهم ما ينهض عليه البناء الفني الروائي ؛ورغم التميز اللغوي الواضح للكاتبة إلا إنها لاتتحيز لها على حساب باقي العناصر الفنية .
وقد تشكلت لغة الكاتبة عبر ثلاث صور هي:
1- لغة النسج السردي
وهي لغة تقدم الشخصيات وتصف المشاهد وتعبر عن العواطف والمشاعر وتظهر في حديث الراوي العليم الذي يسرد حكاية بشرى بشكل واضح
2- لغة الحوار
وهي لغة معترضة تقع وسطا بين المناجاة والسرد ولنا عبد الرحمن شأن كثير من كتاب الرواية الجديدة تميل إلى عدم الإكثار منه فهو مقتضب مكثف لا يطغى على جمالية اللغة.
3- لغة المناجاة
وهي تنهض بوظيفة لا يقوم بها غيرها وهي اللغة التي عبرت بها نورجهان عن قصتها وهي تتميز بالصدق والاعتراف والبوح.
ولغة الكاتبة تميل إلى الجمل القصيرة المكثفة، تغلفها روح صوفية شفيفة رقراقة وقد تميزت لغة الكاتبة بعدة ميزات منها:
1- الاعتماد على التناص ..
(تشكل التناصية في الرواية العربية الحديثة ملمحا بارزا عمد إليه الروائيون العرب قصدا للتحرر من عباءة الأدب الغربي من ناحية ورغبة في استعادة الهوية العربية من ناحية أخرى والبحث عن عناصر سردية وتشكيلية وتخيلية في التراث تكون عودة مخصبة على ضوء ما يقترحه باختين في مجال محاورة لغات الماضي وألفاظه وبذلك تكون الدراسة التناصية بمثابة مس ومحاورة وممارسة لما أنتجه السابقون)
وقد حفلت الرواية بكثير من الأقوال والأشعار الصوفية لابن عربي والحلاج وغيرهما، بالإضافة إلى بعض أقوال جيمس جويس وإيزابيل إليندي في روايتيهما أوليسيس وابنة الحظ،وغير ذلك من الأقوال المنتقاة بعناية شديدة،وقد تنوعت صور التناص في الرواية ما بين تناص الشخصية مثلما فعلت الكاتبة مع الحلاج وجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي،وتاوتشين الذين ذكروا باسمائهم داخل أحداث الرواية، وتناص المحتوى الذي يأتي على صور مختلفة منها ما نراه في العناوين والمقدمات مثلما نجد في عبارة اخوان الصفا التي تصدرت الرواية(الكون انسان كبير)وهذا التناص يكون خارج النص واقفا على عتبته مهيئا وملخصا له ،وقد يأتي التناص داخل بنية النص مجاورا لبنيته الأصلية مثلما نرى في ابيات الحلاج التي تعانقت مع نص الرواية:
يا نسيم ا لريح قولي للرشا مازادني الورد الا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا إن يشا يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئت وإن شئت يشا
ومن الجدير بالذكر أن اعتماد الكاتبة على التناص لم يكن استعراضا لثقافتها بقدر ما كان ضرورة فنية فرضتها طبيعة روايتها ، وقد وفقت في توظيفه إلى حد بعيد حيث تمكنت عبر تفاعلاتها التناصية متعددة المصادر والأشكال من كسر نمط الحكي المغلق عن طريق تهجينه وتحاوره مع أساليب سردية جديدةأسهمت في إثراءلغة الرواية والارتقاء بها.
2- براعة التصوير
تتميز لغة لنا بالنزعة التصويرية والإكثار من الصور التشبيهية والاستعارية بشكل رائع مثلما نرى في وصفها للقاء بشرى وناجي حيث تقول: (كانا مثل غريبين في الليل يتخليان عن أقنعتهما الضرورية ويفرغان حمولة الروح فيشعران بخفة تأتي منسجمة مع نسمات الخريف وضوء المصابيح الشاحب 44)
ونراه في وصف نورجهان لعلاقتها بالأمير: تردده فيأخذ أي موقف لمساندتي جعل ذاك الحب أشبه بجرة فخار كسرت بعصا سميكة حولتها إلى نثار وسال منها الماء على الأرض وصار من المستحيل جمعه من جديد)75 وغيرها من الصور الرائعة التي أضفت على لغة الكاتبة سحرا وجمالا لاتنكرهما العين المحبة للجمال المتعطشة له.
3- غلبة الرمز
يحضر الرمز بقوة في معظم أجزاء الرواية ليضفي عليها عمقا وثراءا مثلما نرى في رمزي الثلج والنار وما يحملانه من دلالات داخل الرواية،ومثلما نرى في رمزية بعض الأحداث ففشل حمل نورجهان من الأميرومثله حمل بشرى من ناصر رمز لاستحالة العلاقة وتمهيدا لانهيارها كما حدث بعد ذلك،وسقوط القصر وتدميره في النهاية يؤذن بالتخلص من الماضي والانتصار للحظة الانية ,غيرها من الرموز التي تعج بها الرواية.
4- الاعتماد على المقابلات والثنائيات المتضادة
لغة الكاتبة لغة متميزة تنم عن موهبة واضحة لكاتبة تملك أدواتها الفنية وتجيد توظيفها بتمرس وتمكن واضحين ، لغةً يكثرُ فيها التلاعُبُ بالدلالات عن طريق التنظيم القائم على تقابُلاتٍ ثنائيّة تعتمد على المقارنة بين الماضي والحاضر‘الموت والحياة‘العدم والوجود،الفناء والبقاء،الثلج والنار وغيرها من الثنائيات وهي في لغتها تخرج من المباشرة إلى مدلولات أخرى كامنة يوحي بها النص.
5- الولع بالتفاصيل الدقيقة
من السمات الواضحة للكاتبة دقتها في الوصف وحرصها على ذكر كل تفاصيل المشهد الذي تصفه روائيا وقد ظهر هذا بوضوح في كثير من أجزاء الرواية مثل وصف الكاتبة لجهاز سميرة عمة بشرى الذي وصفته بأنه يحتوي على (مناشف وشراشف وثياب داخلية وأطقم للمطبخ وبعض الأواني الخزفية المميزة التي لا تتكرر نقشاتها في الأسواق كانت تخزن كل هذا في غرفتها داخل حقائب جلدية كبيرة تضعها تحت السرير وفوق الدولاب وفي يوم نقل جهازها الى بيت العريس استدعت قريباتها من نساء العائلة ليتفرجن على الجهاز الذي بلغ عدده سبع حقائب كبيرة بالإضافة الى شنطة شفافة تضم مفرش سرير ابيض موشى عند اطرافه بالدانتيل والاورجانزا ومزينا في حوافه بخرز ذهبي )
وصف لأادق أدق تفاصيل الصورة تكرر كثيرا في الرواية حتى في وصف وجبات الطعام وكيفية إعدادها‘حتى في وصف مشهد العلاقة الحميمية بين نورجهان والأمير حرصت الكاتبة على ذكر أدق تفاصيلها مع قدرتها على الإيحاء أكثر من التصريح.
وإن كان لهذا المقطع أهميته الرامزة في العلاقة بين الدفء والبرودة التي تنتشر داخل الرواية في أكثر من موضع.
6- تقنية الرسائل
وظفت الكاتبة تقنية الرسائل الإليكترونية توظيفا جيدا في روايتها لتعبر عن طريقة التواصل بين بشرى وصافي الذي وصفت علاقتها به بالتوق الذي يؤلف بين حالة من الاشتياق وحنين موغل لا تجد له تفسيرا ،لذلك ربط بينهماوجود روحي جعل الوصل بينهما غير مرهون بحضور الجسد،والحق أن الكاتبة قد تمكنت من توظيف الرسائل توظيفا فنيا رائعا لنقل أفكارها ومشاعرها إلى المتلقي عبر لغة تقطر عذوبة وتفيض رقة وجمالا،وعن طريق استخدامها لمستويات لغوية متنوعة لا يشعر فيها المتلقي بأي خلل وإنما هي مستويات تبدو في صورة لغتين كتبهما كاتبين مختلفين هما بشرى وصافي لا لغة واحدة كتبتها لنا عبد الرحمن.
وأخيرا فإن رواية ثلج القاهرة رواية جديرة بالقراءة لما تحمله من قيمة أدبية كبيرة تضعها في مصاف الأعمال الإبداعية المميزة وهذا ليس غريبا على مؤلفتها التي تعد من أبرز المبدعات اللائي أثرين افبداع السردي وأسهمن في تقدمه ورقيه عبر سلسلة من الأعمال الجادة التي توجتها بهذه الرواية الرائعة ثلج القاهرة .
د.أحمد المصري