ثلج القاهرة .. بين يقين الحدس وشكوك العقل

 

 

“الكون إنسان كبير”.. جملة من رسائل إخوان الصفا هي افتتاحية الكاتبة لنا عبد الرحمن لروايتها الصادرة حديثا عن دار آفاق “ثلج القاهرة”، وتبدو هذه الجملة الافتتاحية تستهدف خيال القارئ لتجذبه بما يتضمنه المعنى من مجاز فلسفي لنوع من الخيال يشبه الواقع كثيراً، ولكن كثيرا من الناس لا يرونه ولايشعرون به فينكرون وجوده. والجملة تستحق التوقف عندها كثيراً لعمقها ومدلولاتها الفلسفية المحفزة للتفكر والداعية للانطلاق من المجاز لتصورات على تلامس مع العالم الصوفي بكل آفاقه المفتوحة، بما في ذلك ارتداد هذا على الواقع.

“ثلج القاهرة” رواية ذات تيمة نادرة لصعوبة الحصول على تفاصيلها التى تشبه نسيجاً من العلاقات الإنسانية المتشابكة ما بين الواقع والخيال فمعظم أحداث الرواية تقع على أرض الغيب حيث جازفت الكاتبة بجرأة الولوج لتلك المنطقة الغامضة من العالم حيث لا قوانين حاكمة بالضرورة ولا وحدة زمن أو معايير متعارف عليها للقياس.

أطلقت الكاتبة خيالها متماهياً مع بعض الحقائق غير المؤكدة عن الحيوات السابقة، وسلكت على صفحات روايتها الرابعة رحلة موغلة فى الخصوصية لتصور المسافة المقطوعة ما بين عالم الواقع وعالم الغيب بلغة رشيقة ومدهشة في بلاغة الدلالة خاصة في حكاية “نورجهان”، إذ رغم الفصول المقتضبة تتضح معالم حكايتها بشكل واضح، رغم أنها تقع في زمن غير موجود، ومكان يتشابه تحديده ولا يمكن الجزم به؛ حيث قام المعمار الأساسي للرواية على حياة “بشرى المنحدرة من أب مصري وأم سورية وتعود إلى مصر مع أمها بعد وفاة الأب بعد حياتها سنوات صباها الأول في دمشق، وفي القاهرة يكون عليها مواجهة الحياة وحيدة بعد موت الأم بأشهر قليلة، لكن وسط هذه الأحداث الواقعية ثمة حكاية أخرى تسير بالتوازي مع واقع بشري، وهي حكاية “الأميرة نورجهان حكمت” تبصرها بشرى في مخيلتها ولا تملك لها تفسيرا، لنقرأ ما يلي: “لم تكن بشرى تحكي عن الحياة الأخرى التي تراها، أو تعيشها، لن يصدقها أحد لو حكت قصة امرأة تشبهها، لكنها لا تعرف من تكون، ولا تتمكن إلا من تلمس حكايتها عن بعد، بلا قدرة على الاقتراب الكافي الذي يضمن معرفة الحقيقة. عبر ظلال الواقع، وفي لحظات خيال ما قبل الإغفاء، تطل في ذاكرتها ساحة بيت كبير، ضخم، من طابقين، توجد في مقدمة البيت مساحة شاسعة مرصوفة برخام أبيض، ويفصلها عن الشارع بوابة رئيسية كبيرة من الحديد المشغول بالنحاس. ترى بشرى في قلب ذاكرتها بنتًا صغيرة، في العاشرة من عمرها، تركض في البستان، تُضفر شعرها في جديلة طويلة خلف ظهرها، تلعب مع فتاة أخرى وصبي، جميعهم كانوا يلعبون الاستغماية خلف شجرة الموز العريضة”.

جمعت رواية “ثلج القاهرة” ثلاث حيوات لثلاث شخصيات (بشرى، نورجان، سولاي) وإن بدت حكاية سولاي هي الأقصر ولم تشغل سوى مساحة عابرة في النص. لكن الحيوات الثلاث تجمعهن معاً نفس الروح التى انتقلت عبر الزمن من (سولاي) الراقصة الغجرية إلى (بشرى) رسامة الجرافيك عابرة بجسد الأميرة (نورجهان) الشاعرة وعازفة العود .. كلهن ذوات ملكات وروح واحدة مبدعة.

والرواية تكشف عن تأثر الكاتبة بالفلسفات الشرقية، حيث القدر الأكبر الذي نالته الرواية من خلاصة تلك الثقافات هو ما تعلق بعلوم ما وراء الطبيعة كالتصوف والكارما (الكارما: تعني دورة السبب والنتيجة، وهو قانون التعويض أو الحساب لإعادة التوازن الكوني على أثر الاختلال الذي سببه الفاعل فنتائج اليوم قد تكون في الغد أسباباً وهكذا). وتناسخ الأرواح والذي تعتقد بعض الجماعات والقبائل به، وأيضاً بعض علماء عصرنا الحديث، ورغم هذا يظل موقف النص غامضا ويرتكز على مقاربة الفكرة إبداعيا، ويتم طرح الحيوات السابقة في أفكار البطلة (بشرى) ما بين يقين الحدس وشكوك العقل.

 

الثلج والنار

أما “ثلج القاهرة” فهو العنوان الذى أشارت إليه الكاتبة فى أكثر من موضع، ويحضر بدلالاته في الرواية وكان أدقها وأقربها للأحــداث هو أن هذا التعبيــر يرمز إلى “لحظة مفارقـــة الروح للجســد والتي تجمع المتناقضين، الاحساس بالحياة كوعي لكل ما يدور مصَاحباً بالعجز عن الفعل والحركة”، فالقاهرة في الواقع على عكس الحلم الثلجي لـ (بشرى) – وتلك هي المفارقة – عبارة عن قدر كبير يغلي وبداخله الناس، فالحلم المتكرر بالقاهرة التي يغمرها ثلج أبيض و(بشرى) تركض على أرض مغطاة بالبياض ثم تأكل نتفاً من الثلج فتتجمد وتصير تمثالاً ربما للإيحاء ببرودة المشاعر أيضاً والتي كادت تختفي بعد زحف الماديات على كل شيء في المدن والذي بدا أكثر وضوحاً في القاهرة وربما يرمز الثلج لنوع من التطهر كما ذكرت (بشرى) بموضع آخر من الرواية بأن “القاهرة تحتاج لثلج يغطيها تماماً ثلج يوازن الأشياء لتعود لطبيعتها، ثلج يخفف من حرارة الناس ويذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة ليحل مكانها لون أبيض ناصع وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه”.

وفقت الكاتبة في اختيار بداية للرواية مكثفة ومباشرة مصاغة بتميز من احترف استخدام اللغة تماماً لتعلن (نورجهان) بلا ألغاز عن نفسها باعتبارها وعي الروح المتنقلة أنها ليست على قيد الحياة وأنها مدفونة ببستان قصر كانت هي آخر من بقي فيه وآخر من رحل عنه، كما وفقت في ختام الرواية بتوضيح سبب إلحاح (نورجهان) على (بشرى) بأنها لا تملك العــودة للوراء حيث كانت تسـكن جســد الغجــرية (سولاي) فقررت أن توجــه رسائلها الذهنيــة والروحيــة لـ (بشرى) لتحثها أن تســـير بعمق نحو (الآن) وتبدد عنها الحزن الذى يحجب كل بصيرة عن الغد ويجعلها عاجزة عن التحرك للأمام.

وباستخدام بعض الإلغاز أحياناً يبدو للقارئ أن (بشرى) هى مفتاح تلك الروح من البداية؛ ولكن ما إن يتوغل فى دراما الأحداث المجدولة باحتراف مبدعة حتى يكتشف أن مفتاح تلك الروح هي (نورجهان) التى تمثل الوعى الكامل وحلقة الوصل ما بين (سولاي) الجسد الذي سكنته الروح من زمن بعيد وبين (بشرى) الجســد الذي تسكنه حالياً ويتعـذب فوق عذابات حيـــاته الواقعية بعذابات من سكنت أجسادهم من قبل.

نجد في الرواية أيضاً أن الكاتبة لم تكن محايدة في الوصف، فالتفاصيل الدقيقة سمة أساسية وواضحة فلا يفوتها وصف تجعيدة أوخط بوجه أو حتى خيط بثوب وستار نافذة أو ذرة تراب بمكان ويرجع ذلك لمَلكة أنثوية بالأساس وتلك المَلكة كانت فى أحيان أخرى تبدو كقيد عند رسم ملامح وانفعالات الشخوص من الرجال فكانت الكاتبة تتوغل بحذر شديد عند تجسيدها لأحدهم في حين استفاضت بتدقيق الملامح النفسية للشخصيات النسائية لتصبح ثرية ومفعمة بالحياة. وكنت أود لو وزعت الكاتبة موهبتها على شخوص الرواية جميعاً واختصت بذلك شخصية قاتل (نورجهان) ليتضح كشخصية غامضة ولكن بتميُّز أعلى يترك أثراً واضحاً كطعنة قاتل مأجور إذ أنه كان سبباً أساسياً في توالي الأحداث ونقطة ارتكاز لانطــلاق الخـط الدرامي للرواية، وبدا ذلك أيضــاً عندما وظفت الكاتبة الرسائل المتبادلة بين (بشرى) و(صــافي) لتنبئ بالقرب الشديد بينهما لدرجة لا تكاد معها التمييز أنهما شخصان لولا توقيع أحدهما على رسالته، حيث اتسمت لغة الرسائل بنعومة الأنثى حتى وإن كان موضوعها ذا طابع فلسفي متأمل فيما وراء الطبيعة.

تتساءل الكاتبة: “هل صحيح ما يرد في النصوص الهندية القديمة عن حقيقة (الكارما) التي تحكم الحياة؟ وهل الكارما قانون قاسٍ لا يرحم أم في أعماقه تفاؤل يشي بعدالة الكون ونظامه؟”

تساؤل فلسفي أعقبته الكاتبة بحكاية قديمة انتهت بأسئلة فلسفية أخرى عن القدر والروح والأجساد وما من إجابات تقيد خيال القارئ؛ بل تتيح له مساحة يستخدم فيها قناعاته الفكرية ورصيد ثقافاته ومعتقداته ليصل لإجابة ذات بصمة خاصة به، وكإسقاط على واقع اجتماعي وسياسي طرحت الكاتبة أيضاً من حين لآخر التساؤلات بأنحاء صفحات الرواية لتضع أطراف أصابعك على طرف للإجابات فإن كان بك شغف للمعرفة فحتماً ستقبض عليها وتنهــل منها وكــان أشد تساؤلاتها على نفسي حيرة وحزناً لعمقــه وغــور إجاباته كجرح هو “هل تحتاج المدن إلى النار أو الثلج كي تتطهر؟”.

 

  أمل جاد الرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى