ثلج القاهرة .. توازيات مستوحاة من عوالم التصوف
ما يفاجئ القارئ في الرواية الرابعة للأديبة لنا عبدالرحمن الموسومة بالعنوان: ثلج القاهرة (دار آفاق مصر 2013)، تلك العتبة الحادة التي تصدم بها المتلقي في مستهل الفصل الأول: ففي الاستهلال نقرأ ما يأتي: “فوق قبر جدي زرعوا شجرة مانجو. هناك دفنوا جدتي الأولى وعمتي وأبي وأمي. هناك دفنت أنا أيضاً في ظلال ذلك القصر المهجور والأعزل. كنت آخر من بقي فيه، وآخر وتزداد الدهشة حدة وفظاظة بقراءة ما رأته بشرى في منامها من أن الثلج يغطي القاهرة، وأنها عاجزة عن المشي كما لو أن قدميها مشدودتان بحبال متينة تمنعها من الحركة ومع أن الكابوس المرعب يغرس الخوف في مفاصلها حتى النخاع، فإن ما يروعها حقا إحساسها بأن الحياة مع العجز لا تختلف عن انفصال الروح عن الجسد، فالأحياء في هذه الحال كالموتى يعون ما يدور حولهم لكنهم عاجزون عن الفعل (ص10).
وواقع الأمر أن هذه العتبة السردية التي تتكئ عليها لنا عبدالرحمن، تؤكد للقارئ الذي يتلقى هذه الرواية – ابتداء – أنه يسير في طريق غير عادي، طريق يختلف عن هاتيك الطرق التي اعتادها كأن يقرأ من روايات أخرى فعليه ها هنا أن يتوقع الكثير الجم من المفاجآت فنحن نعرف عن بشرى. مثلا أنها امرأة مستوحدة لا سيما بعد فراق ناصر الذي اقترنت به وعاشا معاً أكثر من عامين. ومع أنها تعيش في بيتها في القاهرة مع أسماء وتقضي أوقات الفراغ بممارسة فن الغرافيك لتتغلب على الوحدة مستخدمة الحاسوب، فهي مغرمى برسوم تروي حكايات عن عالم الأطفال حتى أنها تفكر في تنظيم معرض يحكي بالتفاصيل حكاية حب بين الطفلة نور وصديقها “رامي”.
وعلى الرغم من هذا الذي نعرفه عنها كله، وهو ما يطفو على سطح الأحداث، فإن المؤلفة تثير فينا الدهشة مرة أخرة بإشارتها الخفية التي تنبعث في فضاء النص، وتومض في أثنائه ومضات (فلاشات) خاطفة تشتعل وتنطفئ في صحراء ليلة، فبتلك الإشارات توحي بوجود شبكة خفية من العلاقات التي تربط بين ثلاثة شخوص راحلتين وثالثة حية هي بشرى، وهذا الترابط يؤذن بما يمكن أن يكون ضرباً عجائبياً من تناسخ الأرواح، أو التقمص أو لنقل الحلول الصوفي على طريق العارف بالله محيي الدين بن عربي الذي تكرر ذكره في الرواية مراراً، وعلى طريقة السيد البدوي.
الأولى من الرحلتين سولاي – نلاحظ هنا غرابة الاسم: – فهي – أي – أي سولاي – تروي حكاية قدومها منبلاد بعيدة ( الأندلس ) رفقه طبيب عربي أراد الحفاظ على حياتها وإبعاد الموت عنها ، فلم يوفق : إذ فقدت حياتها وفارقتها الروح ، وهي صبية لم تتجاوز السادسة عشرة.
لكن سولاي هذه تواصل حياتها الخاصة من خلال شخصية أخرى هي الراحلة الثانية نورجهان: وهي امرأة مصرية كانت قد ولدت ، وعاشت أيامها الحلوة في قصر على إحدى ضفتي نهر النيل ، وقد ظلت تنعم بهذا النوع من السعادة والألفة ، حتى جاءها أمير تركي تزوج منها ولما تتجاوز السابعة عشرة ، وقد انتزعها من هذا القصر القائم على حافة مياه النيل إلى قصر بارد جدا على سفح جبل شاهق في الأناضول (ص31). من هنا تبدأ سلسلة من المفارقات التي تدهش القارئ وتقع بثقلها على نفسه وحساسيته موقعاً مؤلماً ، وهو يتتبع ما جرى لتلك المصرية. فهي لا تذكر في مذاكرتها التي كتبتها قبل تصفيتها على يدي أحد حراسها سوى المآسي فقد اكتشفت أن الحياة في ذلك القصر مع أميرها التركي لا تتعدى الدسائس ، والمؤتمرات والغيرة وكيد ( النسوان ) والمرض.
فقد أبى جسدها القدم من مكان دافئ أن يتأقلم مع البرد والصقيع القارس : “البرد يغزو أطرافي فأصاب بالمرض . يسقط من رحمي الجنين تلو الآخر تدور الهمسات عني بأني لا أنفع ببإنجاب. أغرق في الحمى لأسابيع ( ص32 ).
تبلغ نورجهان بسب تلك الأجواء حد الإحساس بالخناجر تنغرس في عنقها تارة وفي صدرها بمكان قريب من القلب تارة أخرى . لكنها مع ذلك تواصل حياتها الخاصة عبر الشخصية الثالثة: بشرى التي تتصفح المذكرات ، تروي في هاتيك المذكرات على سبيل المثال كيف أجبر ذوو الأمير التركي أميرهم علي الزواج من فتاة أخرى، وأسكنوها لمزيد من التشفي بنورجهان، في مخدع مجاور لمخدعها هي، وفي ذلك المخدع تنام على سرير مشابه لسرير نورجهان ، ولأن العروس الجديدة انتفخ بطنها فجأه في إشارة إلى الوعد بولي العهد فقد أضحت في القصر التركي كالمدللة ، ولم يمنعها ذلك الدلال الذي تمنعت به “من الشعور بالخجل كلما مرت بجانبي” (ص 47).
ولعل من الغريب ، أو العجيب ، بكلمة أدق أن بشرى وهي ابنه محام من دمشق عرف بمعارضته لنظام تحول إلى بائع كتب ، متزوج من مصرية ( نبيلة ) التي بدأت حياتها ممثلة ، وشاركت في عدد من الأفلام قبل أن يرتحل بها المحامي إلى دمشق ، مسدلاً الستار على سيرتها الفنية ، فهذه المرأة . بشرى لا تستطيع ، بلا أي مسوغ تبديه الكاتبة أن تفرق بينها وبين نورجهان : “وجه نورجهان يحتل مخيلتها يسكن أيامها ، بل إن الأمور تزداد سوءاً لأنها صارت تبصر أجزاء من ماضيها البعيد . ومن حكايات صباها المشروخ في تلك الصور التي تراها وهي تتصفح مذكرات نورجهان وهذا يذكرنا بما كتبته نورجهان في وصف المدى الذي بلغته في تقمص شخصية سولاي الصبية الغجرية المذكورة: “ليس روحا أخرى.. لست وهما لست سراباً ، أنا هي ، وهي أنا أعيش في هذه الحياة فيها وعبرها ومن خلالها وهي تعيش عبري ومن خلالي منذ زمن ضاعت حدوده” ( ص16): أي أن الشخصيات الثلاث تطرد حياتهن مثل قضية واحدة ، ولهذا تستوقف بشرى بدرجة لافته للنظر عودة نورجهان من الأناضول إلى القصر ( قصر المنيل ) في القاهرة وهو القصر نفسه الذي تطفو شرفاته على النيل ، وفيه ولدت وعاشت طفولتها ، وفيه عرفت الحب للحقيقي – فيما بعد – الحب الذي يلامس شغاف القلب ، مع أنه لا يشبه حب الأمير التركي ، ولما لمساته المرتكبة ( ص 57) .
بيد أن الحب الذي عرفته نورجهان بعد رجوعها لمصر، لم يستمر طويلاً فهي تدون في المذكرات وتتساءل :” لم اقترفت عن يوسف ؟ لم تركته يسافر ؟ في البداية لم نكن منشغلين بصواب هذا الحب أو بشكل نهايتة لم نهتم بالأمر ، إلا بعد أن طالت الألسن زيارته لي وصرت مطالبة بإيجاد مبرر لعلاقتنا ألمس الصليب المنقوش على يده فأعرف أنني مصلوبة في وحدتي وضعفي ” ( ص 183) . وهذا الموقف هو ما اعترى علاقة بشرى بصافي مما يوحي من جديد بأن بشرى تتقمص شخصية نورجهان تقول بشرى في مونولوج تصف فيه علاقتها بصافي وهو الآخر طبيب مثل يوسف : ” التوق للتوحد مع صافي لم يتخذ الشكل المألوف في علاقة جسدية بين الرجل والمرأة ، وظل شبيهاً بانجذاب النهر نحو مصبه ، والنور إلى منبعه ، وضمن محدودية الجسد سيظل ثمة قصور عن التوحد التام ، لأن الصلة أعمق بكثير من لحظات ذروة وهبوط ، وأبعد أيضا من فكرة الحب ، وإيجاد هوية مشتركة ” ( ص153) .
والأدلة التي تؤكد تقمص بشرى لشخصية نورجهان ، وهي التي كانت تقمصت بدورها شخصية سولاي : كثيرة جدا في الرواية ، وقد بلغت حدة هذا التقمص أن قامت بشرى تتبع مسيرة نورجهان ، وقامت بزياة قصر المنيل ، وتجولت فيه مستحضرة عالم تلك المرأة ، وما فيه من أسرار وخفايا تعبق بأصدائها أروقة القصر ، وما فيه من جدران ولوحات وتحف في موازاة زيارتها للبيت الذي نشأت فيه أمها الممثلة ولبيت نجيب القاضي الذي قبل أن تتزوج من المحامي الذي رحل بها إلى سورية ، ومن تكرار البحث وقفت على حقيقة غفلت عنها التحقيقات التي فشلت في معرفة الشخص الذي قتل نورجهان.
فعندما قابلت العم صابر الرجل الثمانيني : ما إن رآها حتى وجد فيها شبح نورجهان: وظن أنها انبعثت لإعادة التحقيق في القضية ، والقبض عليه بتهمة القتل / وإنزال العقوبة به على جرم ارتكبه قبل أكثر من خمسين عاماً ، لهذا توارى عن الأنظار وقيل إنه توفي بعد رؤيتها له في غرفة الحراسة بأيام معدودة ، أما القصر فقد شاءت الأقدار أن يباع لأحد المستثمرين وقد باشر المشتري هدمه ، وتجريف أنقاضه لإقامة مشروعات سكنية مكانه، ففجيعة بشرى بهدم القصر تهيئة لفجيعتها هي ، فيما أن المقاول العتيد قام بنسف الماضي والحاضر ، مشوها معالم المكان المرتبط بالذكريات ، وبتلك الشخصية التي انتقلت روحها إليها ، وفقا لما يؤمن به من يعتقدون بتناسخ الأرواح ، فإنها أصبحت في حكم المتوفاة ، وهذ يردنا إلى الكابوس الذي وطأت به المؤلفة للرواية عندما ذكرت أن بشرى تري القاهرة غارقة في الثلج وأنها لا تستيطع السير ، وأن من لا يستطيعون الفعل كالموتى ، يشعرون بما حولهم ، لكنهم عاجزون عن الفعل.
ومن اللافت أيضا تشابه الشخصيات على قلة عددها في رواية تتعدى صفحاتها ( ص198) .
فالممثلة المتوفاة ( نبيلة ) ونجيب القاضي ، كل منهما يعيش في ماضيه الخاص ، وأسماء وناصر ، لكل منهما رؤيته الواقعية للعالم ، ولهذا قليلاً ما يتوافر الانسجام بينهما وبين بشرى.
ونورجهان تشبه بشخصيتها على الرغم من اختلاف التفاصيل شخصية بشرى، فقد اتحدت كل منهما بالأخرى على مستوى الواقع ، فضلاً عن الكتابة ويوسف يشبه صافي ووجوه الشبه بينهما أكثر سطوعا من سائر الشخصيات. علاوة على أن شخصية الأب المحامي ، الذي لم يظهر بصفة مباشرة في الرواية تشبه شخصية الأمير التركي. على أن جل هذه الشخصيات تعد بمعنى من المعاني شخصيات غير رئيسة تدور في الفلك الذي أرادته الكاتبة مداراً لبشرى وحدها بلا شخوص.
ولا تتوقف التوازيات على الشخوص ، فقد أقامت الكاتبة عدداً من التوازيات على مستوى المكان ، فمقابل ثلج الأناضول الحقيقي ذي الصقيع القارس ثمة ينهمر على القاهرة ، لكنه رؤيا لا تتجلى إلا لبشرى في كوابيسها المرعبة ، أو في رؤاها التواقة لقاهرة ثانية: “القاهرة تحتاج إلى ثلج يغطيها تماماً: ثلج يوازن الأشياء ويعيدها إلى طبيعتها ، ثلج يخفف من حرارة الأشياء والناس يذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة ، ليحل مكانها لون أبيض ، ناصع ، وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر نقي يقاوم طبقات الشحم التي تسد مكان خروجه” ( ص 140) ومقابل قصر المنيل في القاهرة على ضفاف النيل ثمة قصير آخر هو البيت الدمشقي في سورية فلكل منهما ماضية وعبقه وأسراره. وللبلاد البعيدة التي جاءت منها سولاي الغجرية ما يوازيها في البعد المكاني الذي ارتحلت إليه نورجهان مع الأمير التركي قادمة من القاهرة.
وهذه التوازيات تقابلها توازيات أخرى استوحتها الكاتبة من عوالم التصوف ، والفلسفات الشرقية ، فلم يكن ذكر العارف بالله محيي الدين بن عربي ، والسيد البدوي ، إلا عناصر ثقافية وصوفية رفدت هذه البنية الروائية المركبة، على الرغم مما توحي به من تركيز ، وتكثيف اقتصاد في اللغة يصل حد الشح.
د.ابراهيم خليل