البنية في رواية ” ثلج القاهرة”؛ التركيب، التوازي، السرد المكثف
تبدأ الرواية الثالثة للأديبة اللبنانية المقيمة في مصر لنا عبد الرحمن الموسومة بالعنوان: “ثلج القاهرة ” بالعتبة الحادة التي تصدم المتلقي في مستهل الفصل الأول، ففي المفتتح نقرأ ما يأتي: ” فوق قبر جدي زرعوا شجرة مانجو. هناك دفنوا جدتي الأولى وعمتي وأبي وأمي. هناك دفنت أنا أيضا في ظلال ذلك القصر المهجور والأعزل، كنت آخر من بقي فيه، وآخر من رحل عنه. “(ص9).
وتزاد الصدمة حدة، وفظاظة، بقراءته بعد ذلك ما رأته بشرى في منامها من أنَّ الثلج يُغطي القاهرة، وأنها عاجزة عن المشي، كما لو أنَّ قدميها مشدودتين بحبال متينة تمنعُها من الحركة. ومع أنَّ الكابوس المرعب يغرس الخوف في مفاصلها حتى النخاع، إلا أن ما يروّعها حقا إحساسُها بأنَّ الحياة مع العجز لا تختلف عن انفصال الروح عن الجسد، فالأحياء – في هذه الحال – كالموتى، يعون ما يدور حولهم، لكنهم عاجزون عن الفعل. (ص10).
وواقع الأمر أنَّ هذه العتبة السردية التي تتكئ عليها لنا عبد الرحمن تؤكد للقارئ الذي يتلقى هذه الرواية- ابتداءً – أنه يسير في طريق غير عاديّ، طريقٍ يختلفُ عن هاتيكَ الطرق التي اعتادها في ما يقرأ منْ روايات أخرى. فعليه- ها هنا- أن يتوقع الكثير الجمّ من الصدمات, فنحن نعرف عن بشرى- مثلا – أنها امرأة مُسْتَوْحِدَة، لا سيما بعد فراق ناصر الذي اقترنت به، وعاشا معًا أكثر من عامين. ومع أنها تعيش في بيتها في القاهرة مع أسماء، وتقضي أوقات الفراغ بممارسة فن الغرافيك باستخدام الحاسوب، فهي مغرمة بالرسوم التي تروي حكايات عن عالم الأطفال، حتى أنها تفكر في تنظيم معرض يحكي بالتفاصيل حكاية حب بين الطفلة نور وصديقها ” رامي “، ولكن على الرغم من هذا الذي نعرفه عنها، بعضهُ أوْ كله، إلا أنَّ المؤلفة تصدمنا مرة أخرى بإشاراتها الخفية التي تنبعث في فضاء النص، وتومض في أثنائه وميضَ (فلاشات) خاطفة تشتعلُ، وتنطفئ، في صحراء ليلية. فبتلك الإشارات توحي بوجود شبكة خفية من العلاقات التي تربط بين ثلاثة شخوص: راحلتين، وثالثة حيّة، هي بُشرى. وهذا الترابط يؤذن بما يمكن أن يكون ضربًا عجائبيًا Fantastic من تناسُخ الأرواح، أو التقمُّص، أو لنقل الحلول الصوفي على طريقة العارف بالله محيي الدين بن عربي، الذي تكرَّر ذكره في الرواية مرارًا، وعلى طريقة سيّد البدوي.
الأولى من الراحلتين سولاي – نلاحظ هنا غرابة الاسْم- فهي- أيْ: سولاي- تروي حكاية قدومها من بلاد بعيدة( الأندلس) رفقة طبيبٍ عربيٍّ أراد الحفاظ على حياتها، وإبعاد الموت عنها، فلم يوفَّقْ، إذ فقدت حياتها وفارقتها الروح، وهي صبيّة لم تتجاوز السادسة عشرة.
لكنَّ سولاي هذه تواصل حياتها الخاصة من خلال شخصية أخرى هي الراحلة الثانية نورجهان. وهي امرأة مصرية كانتْ قد وُلدت، وعاشت أيامها الحلوة في قصر على إحدى ضفتيْ نهر النيل، وقد ظلت تنعم بهذه السعادة، والألفة، حتى جاءَها أمير تركيٌّ تزوج منها ولمّا تتجاوز السابعة عشرة. وقد انتزعها من هذا القصر القائم على حافة مياه النيل إلى قصْر باردٍ جدًا على سفح جبلٍ شاهقٍ في الأناضول (ص31). ومن هنا تبدأ سلسلة من المفارقات التي تصدُم القارئ، وتقعُ بثقلها على نفسه، وحساسيته، موقعًا مؤلمًاً، وهو يتتبع ما جرى لتلك المصرية. فهي لا تذكر في مذكراتها التي كتبتها قبل تصفيتها على أحد حرّاسها سوى المآسي، فقد اكتشفتْ أنَّ الحياة في ذلك القصْر مع أميرها التركي لا تتعدَّى الدسائس، والمؤامرات، والغيرة، وكيد (النسوان) والمرَض. فقد أبى جسُدها القادم من مكان دافئ أن يتأقلم مع البرد، والصقيع القارس: ” البرد يغزو أطرافي، فاصابُ بالمرض.. يسقط من رحمي الجنين تلو الآخر. تدور الهمَساتُ عني بأني لا أنفع للإنجاب. أغرق في الحمّى لأسابيع “. (ص32) .
تبلغ نورجهان بسبب تلك الأجواء حدَّ الإحساس بالخناجر تنغرسُ في عنقها تارة، وفي صدرها بمكانٍ قريبٍ من القلب تارَة أخْرى. لكنها – مع ذلك- تواصل حياتها الخاصة عبر الشخصية الثالثة؛ بشرى، التي تتصفَّح المذكرات. تروي في هاتيك المذكرات على سبيل المثال كيف أجْبَرَ ذوو الأمير التركي أميرهُم على الزواج من فاةٍ أخرى، وأسكنوها – لمزيد من التشفَّي بنورجهان – في مخدع مجاور لمَخْدعها هي، وفي ذلك المخدع تنام على سرير مشابه لسريرها. ولأنَّ العروس الجديدة انتفخَ بطنُها فجأةً، في إشارة إلى الوعد بوليِّ العهد، فقد أضحت في القصر التركي كالمُدلَّلَة، ولم يمنعها ذلك الدلال الذي تمتَّعَتْ به ” من الشعور بالخجَل كلما مرَّت بجانبي. ” (ص47) .
ولعل من الغريب، أو العجيب- بكلمة أدقّ – أنَّ بُشرى، وهي ابنة محام من دمشق عُرف بمعارضته للنظام، تحوَّل إلى بائع كتب، متزَوّج من مصرية (نبيلة) التي بدأت حياتها ممثلة، وشاركتْ في عددٍ من الأفلام قبل أن يرتحل بها المحامي إلى دمشق، مسدلا الستار على سيرتها الفنية، فهذه المرأة – بشرى- لا تستطيع، وبلا أيّ مسوغ تبديه الكاتبة، أن تفرِّق بينها وبين نورجهان ” وجه نور جهان يحتل مخيلتها. يسكن أيامها. بل إنّ الأمور تزداد سوءا لأنها صارت تبصر أجزاءً من ماضيها البعيد، ومن حكايات صباها المشروخ .. ” في تلك الصور التي تراها وهي تتصفَّح مذكرات نورجهان. وهذا يذكِّرُنا بما كتبته نورجهان في وصف المدى الذي بلغته في تقمُّص شخصيّة سولاى الصبية الغجرية المذكورة: ” لست روحًا أخْرى.. لستُ وهما، لستُ سرابًا، أنا هي، وهي أنا، أعيشُ في هذه الحياة فيها، وعبرَها، ومن خلالها. وهي تعيشُ عَبْري، ومن خلالي، منذ زمن ضاعتْ حدوده.” (ص16) أيْ أنَّ الشخصيات الثلاث تطِّرد حياتهنَّ مثل شخصيَّةٍ واحدةٍ. ولهذا تستوقف بشرى، بدرجة لافتة للنظر، عودة نورجهان من الأناضول إلى القصْر (قصر المِنْيَل) في القاهرة، وهو القصرُ نفسُه الذي تطفو شرفاته على النيل، وفيه ولدتْ، وعاشتْ طفولتها، وفيه عرفتْ الحبَّ الحقيقيّ- فيما بعد- الحبَّ الذي يلامس شغاف القلب، مع أنه لا يشبه حبّ الأمير التركي، ولا لمساته المرتبكة. (ص57).
بيْدَ أنّ الحبّ الذي عرفته نورجهان بعد رجوعها لمصر، لم يستمرّ طويلا، فهي تدوِّن في المذكرات، وتتساءَل ” لمَ افترقت عن يوسف؟ لمَ تركته يسافر؟ في البداية لمْ نكنْ منشغلين بصواب هذا الحب، أو بشكل نهايته. لم نهتم بالأمر، إلا بعد أن طالتِ الألسن زيارته لي. وصرتُ مطالبة بإيجاد مبرِّر لعلاقتنا.. ألمسُ الصليبَ المنقوش على يده. فأعرف أنني مصلوبَةٌ في وَحْدتي وضعْفي. ” (ص183) وهذا الموقفُ هو ما اعترى علاقة بشرى بصافي، مما يوحي من جديد بأن بشرى تتقمَّص شخصية نورجهان، تقول بُشرى في مونولوج تصف فيه علاقتها بصافي، وهو الآخر طبيبٌ مثل يوسف: ” التَوْقُ للتوحد مع صافي لم يتخذ الشكل المألوف في علاقة جسدية بين الرجل والمرأة، وظل شبيهًا بانجذاب النهر نحو مصبّه، والنور إلى منْبَعه، وضمن محدوديّة الجسد سيظل ثمة قصورٌ عن التوحُّد التام، لأنَّ الصلة أعمقُ بكثير من لحظات ذرْوةٍ، وهبوطٍ، وأبعد أيضًا منْ فكرةِ الحُبّ.. وإيجاد هويَّة مشتركة.” (ص 153).
والأدلَّة التي تؤكد تقمُّصَ بُشرى لشخصية نورجهان، وهي التي كانتْ قد تقمَّصتْ بدوْرها شخصيَّة سولاي، كثيرة جدًا في الرواية، وقد بلغتْ حدَّةُ هذا التقمص أنْ قامت بشرى بتتبع مسيرة نور، وقامتْ بزيارة قصر المِنْيل، وتجولتْ فيه مستحضرةً عالمَ تلكَ المرأة، وما فيه من أسرار، وخفايا، تعْبَق بأصدائها أرْوقة القصْر، وما فيه من جدران، ولوحات، وتحفٍ. في موازاة زيارتها للبيت الذي نشأت فيه أمّها المُمثلة، ولبيتِ نجيب القاضي الذي قيلَ إنه كانَ على علاقة بنبيلة والدة بُشرى قبل أن تتزوج من المحامي الذي رحلَ بها إلى سورية، ومن تكرار البحثِ وقفتْ على حقيقة غفلت عنها التحقيقاتُ التي فشلتْ في معرفة الشخص الذي قتلَ نورجهان، فعندما قابلتْ عمّ صابر، الرجل الثمانيني، ما إنْ رآها حتى وجد فيها شبح نورجهان، وظنَّ أنّها انبَعثتْ لإعادة التحقيق في القضية، والقبض عليه بتهمة القتل، وإنزال العقوبة به على جُرْم ارتكبة قبل أكثر من خمْسين عامًا، ولهذا توارى عن الأنظار، وقيل إنه توفيَ بعْد رؤيتها له في غرفة الحِراسة يأيامٍ معدودة .. أما القصرُ فقد شاءَتِ الأقدارُ أنْ يباع لأحَدِ المستثمرين، وقد باشر المشتري هدمه، وتجريف أنقاضه، لإقامة مشروعاتٍ سكنيَّة مكانه. ففجيعة بُشرى بهدم القصر تهيئة لفجيعتها هي، فبما أنَّ المقاول العتيد قام بنسْف الماضي، والحاضر، مشوِّهًا معالم المكان المرتبط بالذكريات، وبتلكَ الشخصية، التي انتقلتْ روحها إليها، وفقا لما يؤمن به من يعتقدونَ بتناسُخ الأرواح، فإنها أصبحت في حكمْ المتوفاة. وهذا يردّنا إلى الكابوس الذي وَطّأتْ به المؤلفة للرواية عندما ذكرت أنّ بشرى ترى القاهرة غارقة في الثلج، وأنَّها لا تستطيعُ السير، وأنَّ من لا يستطيعونَ الفعل كالموتى، يشعرون بما حولهم، لكنهم عاجزون عن الفعل.
ومن اللافتِ أيْضًا تشابُهُ الشخصيّات – على قلة عددها في رواية لا تتعدى صفحاتها (198ص) – فالممَثلة المتوفاة (نبيلة) ونجيب القاضي، كلّ منهم يعيش في ماضيه الخاص، وأسماء، وناصر، لكل منهما رؤيته الواقعية للعالم، ولهذا قليلا ما يتوافر الانسجام بينهما، وبين بشْرى. ونورجهان تشبه بشخصيتها على الرغم من اختلاف التفاصيل شخصية بشرى، فقد اتحدت كل منهما بالأخرى على مستوى الواقع، فضلا عن الكتابة، ويوسف يشبه صافي، ووجوه الشبه بينهما أكثر سطوعًا من سائر الشخصيات. علاوة على أنّ شخصية الأب المحامي، الذي لم يظهر بصفة مباشرة في الرواية، يشبه شخصية الأمير التركي.
على أنَّ جلّ هذه الشخصيات تعدُّ، بمعنىً من المعاني، شخصياتٍ غير رئيسة، تدور في الفلك الذي أرادتْهُ الكاتبة مدارًا لبشرى وحْدَها بلا شخوص.
ولا تتوقفُ التوازياتُ على الشخوص، فقد أقامتْ الكاتبة عددًا من التوازيات على مستوى المكان؛ فمقابل ثلج الأناضول الحقيقي ذي الصقيع القارس ثمة ثلج ينهمرُ على القاهرة، لكنه رؤيا لا تتجلى إلا لبشرى في كوابيسها المرعبة. أو في رؤاها التواقة لقاهرة ثانية: ” القاهرة تحتاج إلى ثلج يغطيها تمامًا، ثلج يوازن الأشياء ويعيدها إلى طبيعتها. ثلج يُخفّف من حرارة الأشياء والناس. يذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة، ليحل مكانها لونٌ أبيض، ناصع، وتخرج من شقوق الثلج قاهرةٌ يافعة ببرعم أخضر نقيّ يقاوم طبقات الشحم التي تسد مكانَ خروجه. ” (ص 140) ومقابلَ قصر المِنْيَل في القاهرة على ضفاف النيل ثمَّة قُصْير آخر هو البيت الدمشقي في سورية، فلكلٍّ منهما ماضيه، وعبقه، وأسراره. وللبلاد البعيدة التي جاءت منها سولاي الغجرية ما يوازيها في البعد المكاني الذي ارتحلت إليه نورجهان مع الأمير التركي قادمَة منَ القاهرة. وهذه التوازياتُ تقابلها توازياتٌ أخرى استوحتها الكاتبة من عوالم التصوّف، والفلسفات الشرقية، فلم يكنْ ذكر العارفِ بالله، ومحيي الدين بن عربي، والسيّد البدوي، إلا عناصرَ ثقافية، وصُوفية، رفدتْ هذه البنية الروائية المركَّبة، على الرغم مما توحي به من تركيزٍ، وتكثيفٍ، واقتصادٍ في اللغة، يَصِلُ حدَّ الشحّ.
……..
* ناقد وأكاديمي من الأردن.
د.إبراهيم خليل