برودة الغربة والرهبة في”ثلج القاهرة”

 

 

نص جميل تحوطه عناية معلوماتية رائعة ، في لغة عذبة لكاتبة عارفة بدروب العربية ومكامن روعتها . تطرُق الكاتبة دروب مواطن الغموض والرهبة في تراثنا .. والملتبسة بين الروح والمادة ، و المحسوس و الملموس ، ويلوح الجنس في أفقها الأوسع كممثل للذروة .. وتحوطه محاذير موروثنا ، وإن كان للمتصوفة تصور آخر بدى من خلال تصوراتهم الواردة في النص “إشارات إلى مبدأ ما فوق اللذة ومدارج الصوفية وعلاقة جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي .. في معالم السير في طريق الكمال” .

 

ولا أدري لماذا استحضرت بيتا للحلاج (بالإضافة لأبيات ذكرتها الكاتبة) .. ظل يرافقني هذا البيت طيلة تجوالي المُمتع في جنبات النص ، يقول :

 

لأنوار نور النور في الخلقِ أنوارُ

 

وللسّرِ في سرِّ المسرين أسرارُ

 

الروح السارد أو السارد الروح في النص يحِلّ كما يحلو له في أجساد بينها ارتباط يعرفها هو (أو هي) ، وعلى الترتيب الزمني (الغجرية سولاي ، تليها نورجهان سليلة العائلة الراقية ، ثم بشرى إبنة الفنانة المغمورة مصرية الجنسية والتي تزوجت بسوري وعاشت معه في دمشق إلى أن مات) . يتبدى هذا السارد فجاة ، ليبحر بنا في حلوله الحلاجي الطابع في لُجج غموض معتقداتنا التي تداخلت وتشابكت عبر قرون من التداول والتنامي والانتقال والتناقل .. مؤكدة مركزيتها هنا في مصر ، صاحبة فكر الخلود في بكورتها العالمية ، وتمثلها في النص “القاهرة”.. فالفراعنة بتراثهم الثري دائب البوح يتم نقل بعضه عبر الأم “نبيلة” إلى دمشق ومنها إلى الإبنة بشرى .. وهذا ما يثير غيرة العمة وحيرتها من تلك الجاذبية التي تحوط بهذه السمراء الوافدة إلى مجتمع يسوده البيضاوات كمثال للجمال ، وبثقافة مغايرة .. فمثلا توسلت بطرق غير تقليدية طقسية للتغلب على مشكلة تأخر حملها بزيارة حميمة للكنيسة وتلاوة صلوات ، اعقب تلك الزيارة حملها بالإبنة بشرى .. يثير هذا الغموض المتزايد لدىَ الكاتبة شعوراً ببردٍ ، كما لو كان ثلج تراه ناتجاً عن غربة أحاطت بالقاهرة (وهي مستقر دفء وحرارة هذه العواطف عبر التاريخ، ومنذ رصد هيرودوت أفراح المصريين واحتفالاتهم متضمنة قدسية الجنس كحالة من الحنو وكمجدد للحياة) .

وربما بدا هذا في برودة ما تسود النص في معظم علاقاته الانسانية المبتورة ، حاضرها وقديمها .. ويضاف إليها ما تصحبه من رهبة الغموض ، ولها ايضاً رعدة كتلك الناتجة عن برودة الثلج يمس الروح . فنجد “ناجي ، ناصر ، صافي ، إبن الأمير الكبير” ، ولكل منهم توتر أصابها .. ناجي المهندس المعماري الرافض الاشتراك في الفساد في مشروعات الإسكان ، يحب الفن والتصوير ويتفرغ لهما في وداع بارد . ناصر يخشى العلاقات المستديمة ، لا يبدي شعوراً بالحب برغم زواجهما ، يمارس الجنس معها ويوحي لها بعدم الاستقرارو دائما يستعد للفراق أنفصلا بعد سقوط جنينهما . وصافي الطبيب الذي زهد في مهنته التي تعالج الجانب المادي من انسان ، تعلق بابن عربي ليتفرغ للروحانيات والصوفية .. ثم إبن الأمير وهو الذي أحب نورجهان فعلا (حتى أنه كان يتسلل ليستمتع بحضنها وهي مريضة بالحمى ، وربما عانت من سم بطئ في مؤامرة في البلاط) لولا أنه كان تحت سطوة أمه وزوجات أخريات أفلحن في إفساد تلك الزيجة .. فعادت نورجهان إلى قصر أبيها (اللؤلؤة) لتُعالج .. فتُحب طبيبها يوسف فهو الساهر إلى جوارها دوما ،  ويحول صليب مطبوع (مدقوق) أعلى كفه دون ارتباطها به .. وبطرف خفي تأتي الاشارة عميقة لتسلل هذا الجمود الفكري الذي أصاب مصر مع ظهور النقاب واللحي بصورة مكثفة .. وفجاة .

ومع السطر الأول بدت حالات التجدد (الحلول) التي ستسود النص (وأنا هنا استعير طريقتها الإستشرافية .. فالمضارعة عندها تتخفى في استمرارية الماضي حال الحلول ، وبعذوبة .. فيبدو هذا الماضي حياً معاصراً .. يسعى بيننا ، فيما يشبه نسبية الزمن وما يحوطه من إعادة تركيب .. فلكل حدث زمنه ، نقله لنا الروح الساردة أوالساردة الروح لأزمنة أخرى عبر تداعي أو حلم أو حلول .. وتعزز هذا بعملها في الرسوم المتحركة ، وهي حيلة تقوم على العبث مع الزمن .. ) .

أعود إلى ذلك السطر الأول (شجرة المانجو تنمو فوق قبر الجد) فيما بدا مفتاحاً لقراءة النص .. فالنبات عند اخوان الصفا هو الرمز الواضح للتجدد في دورات (في رسالة غريزة البقاء) ، وربما هي مشابهة  لتصور المصريين للخلود (أو حلول الإله في الملك) لتنجب الملكة ملك جديد ( وضحت جلية في رصد ديودورس لمولد حتشبسوت ونخت-نبو كوالد للاسكندر) ..

وتبدو الحروف القاتمة –في بعض الفقرات- مميزة كنص موازي لحياة نورجهان (كما فعلت الكاتبة من قبل في مارجريت) . وحكاية نورجهان تتشابه في أوجه كثيرة مع حكاية قطر الندى في موروثنا ، الفتاة التي قدمها والدها (الساعي لسلطة أو جاه) للخليفة المتحكم في الأمور ، وغير آبهٍ لما قد يلحق بها من أذى .. وهو ماحدث بالفعل ..

وبالنص ملامح هامة زادت من جاذبيته ، فالإشارة المبكرة لمفارقة الروح للجسد تحيلنا إلى تصور الغزّالي (ابو حامد) لحالة الحلم التي تعتري النفس الانسانية .. كما أنها طرقت بعض من مدارج الصوفية مثل أحوال الرغبة والتَوْق كما وردت عند الحلاج ..

تسمو الكاتبة إلى قمة الإبداع  برشاقة حين تلجأ للإستشراف “الرفاعي لن يستمر في مكتب المحاماة أيضا ، لأن معظم القضايا التي تبناها ..” فالمضارعة هنا مع الماضي وتربطهما “لن” في حالة مستقبلية في حادثة هي أصلا تاريخ في “الآن” .. لكنها –الكاتبة- أصلا متحكمة في قياد زمن (ازمنة) النص.

وايضا “ستشاهد نبيلة الحارس مرة اخرى حين ستعود الى الكنيسة ، بعد ان تضع حملها …. ” وهذه المرّة لا ماضِ .. والحكاية قديمة .. على لسان الإبنة ومخيلتها .

يبدو ترقب الحلول كلما تذكرتْ غموض حياة أمها وموتها بعد الوصول إلى القاهرة بشهور تسع بما في ذلك من دلالة .. فتبدو الأحداث كما لو كانت تحدث مع “فتاة اخرى تتحرك بالنيابة عنها”.

استعارات غربية دالة بدت في إستعانتها بإصرارهيمنجواي (في العجوز والبحر) وحيرة وقلق جويس (في أوليسيس) .. حتى أن غربتها مع ناجي في الليل بدت كأغنية فرانك سيناترا ..

بببراعة ورقة صورت حالة “خرس الجسد” الذي أصاب نورجهان المريضة عقب مؤامرة النسوة .. وبدى خلال مشاهدها تعلق هذا الأمير (الصبي) الجبان بها .. وخوفه من سطوة أمه ..

أبدعت في تصوير حيرة الأم (نبيلة) واستجابتها لطقوس تجعلها تحمل طفلا طال انتظاره .. فتحكي الأم لإبنتها بشرى (والتي جاءت كنتيجة لهذه الطقوس كما ترى الأم) عن حيرتها ، هل جاءت نتيجة لدعائها أمام ايقونة العذراء مريم ، أم ببركة القديسة ريتا شفيعة الأمور المستحيلة .. خاصة وأنها في تلك الزيارة للكنيسة المريمية كانت تقرأ من المصحف (القرآن) أمام الأيقونة ..

حيرة صافي من زيارة الناس لقبر ابن عربي ، والتساؤل هل الزيارة لنيل البركات أم يَعوْنَ فكر هذا الرجل المُعبر التفاني في حب المحبوب ..

أوجدُت الكاتبة لنا حالة من الحلول بتصور مادي (ربما لتقرّب الصورة للقارئ أو تجعله يصدّق تصوّر حالة الحلول) في مشهد لفستان وردي في فترينة محل ، رأت نفسها ترتديه .. لكن في زمن وظروف أخرى ..

الإستعانة بحكاية الأمير والجنيّة العجوز لتزيد من حيرة التصور، هل الروح هي مرآة للجسد ، فيفنى الجسد وتبقى الروح .. حرة تحلّ كما يحلو لها ..

التقريرية في تصور بشرى أن الروح التي ماتت عنوة ، حتما تعود لتتم أمر ما ..

.. واخيرا ، وكما لوكانت توجز تصورها الشفيف للحلول ، استعارت دور النمل في اكمال دورة الاجساد ، في انتظار حلول الارواح .. مع المحاولات الاجتماعية للتميز في اختيار المقابر .. ايضا بصورة طبقية ..

هذا غيض من فيض .. ولا يزال في هذا النص البديع ما يبوح به ويثري ساحتنا الأدبية وثقافتنا .

أيمن ريان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى