الحب والحرب عندما يتجاوران

 

بلغة شعرية تنساب كما جريان الماء، قريبة وبعيدة كالسراب، ممتلئة بثمار حلوة ولاذعة تجيء رواية «حدائق السراب» للكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن التي قرأنا لها من قبل «شاطىء آخر» قراءات نقدية في القصة والرواية (2002) و«أوهام شرقية» قصص (2002) و«الموتى لا يكذبون» قصص (2003(.

“حدائق السراب” قد تعطيك نفسها من العنوان، لكنك في خضم التفاصيل ستذهب الى ابعد من ذلك، ربما بسبب تنوع السرد او الحالات النفسية التي لعبت على اوتارها الكاتبة لتضعنا في قلب تلك الحدائق الشائكة ووهج ذلك السراب المراوغ.

انها قصة حب ضلت طريقها، وقصة حرب فرضت على ابناء الوطن فخلفت جراحا في النفوس لا تندمل، جراحا استعصت معها اقامة علاقات سوية، ولم يعد الابناء اوفياء لمبادئهم، بل صارت تلك المبادىء تثير السخرية، وتحول البعض من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، فيما رحل البعض الآخر عن الوطن.

نقف اولا مع «سراب» وهي تستدرج «جاد» للحكاية التي عاشتها معه .. وسراب هي طالبة في معهد التمثيل تدرس الفن المسرحي، على غير رغبة والدها الذي كان يريدها ان تدرس القانون، الذي قضت فيه سنتين ولم تجد ضالتها فيه فتركته الى الفن .. ومن اليوم الاول تعرفت سراب على «جاد» المخرج المسرحي المعروف واحبته، مع انه يكبرها بخمسة عشر عاما .. وهو رجل يحمل غربته ويختزن ذكرياته المرة اينما ذهب.

بدأت العلاقة واستمرت متوترة، برغم محطات السعادة التي مرا بها .. هي فتاة حالمة، وهو لم يكن يوما على قدر الحلم .. هي تخاطبه برسائل غير مكتوبة، وهو يحدثها عندما تنثال ذكرياته معها وهو جالس في المقهى قبالة البحر الذي شهد الكثير من مشاويرهما، ولكن كل منهما لا يلتقي الآخر.

ربما تبدو الرواية للوهلة الاولى مجرد ذكريات ومذكرات لامرأة عاشت قصة حب وكتبتها بعد ان انتهت، لكن الامر ليس كذلك .. فهذه الممثلة الشابة التي احبت مخرجها وخرجت من حياته بعد قصة حب عصفت بها، لم تغلق ابواب قلبها بعد، ها هي تدق على باب ذكرياته وتدعوه لكتابة قصة حبهما بالقول «الا تجد في قصتنا ما يستحق الكتابة؟ الم تقل ان الاشياء من بعيد تبدو اجمل؟ الا يكفي كل هذا البعد؟ سأنثر من جديد مشاعري امامك، واتركك تنتقي منها ما تشاء، وتحذف منها كما يتراءى لك» ص 12.

وسراب هي البنت الوسطى بين شقيقتها الكبرى سوسن واخيها سامي اللذين لم يكن لهما حضور في الرواية كما ارادت الكاتبة، وقد اندفعت الى الفن واربكت خطط ابيها فاستسلم اخيرا، وانتصر موقف الام ذات الصوت الجميل التي اورثت ابنتها حب الفن.

ربما يأتي قول سراب على الصفحة 44 خير معبر عن شخصيتها، قبل ان تكتمل تلك الشخصية وتأخذ ابعادا اوسع في الصفحات اللاحقة «هناك مساحة من جنون داخلي، احيانا افعل ما لا اريد واستمر في عنادي، تتضاءل عندي قيمة الاشياء، ولا ابالي بتحقيق ما تهفو اليه روحي».

اما المخرج المسرحي «جاد» فتعرفنا به الكاتبة شيئا فشيئا، هو رجل مزاجي، لم يكن طريقه مفروشا بالورود، فقد حمل العذابات منذ طفولته، طرده زوج امه فعاش في ملجأ للأيتام، وحين دمر الملجأ خلال الحرب الاهلية اللبنانية نجا باعجوبة، وعاش مشردا، ثم بمساعدة امه عمل مع احد المعارف .. ذاق الغربة واكتسب العناد مما مر به وفشل في زواجه الاول، كل ذلك كان له تأثير في صياغة شخصيته المزاجية وطبيعة علاقته بالآخرين .. الشيء الذي يحسب له انه واصل دراسته واصبح مخرجا معروفا، وبذلك يكون قد تجاوز الكثير من العثرات بعصامية يحسد عليها، وبكبرياء لم يتنازل عنه.

* * *

ونحن نمضي مع قصة الحب ثمة مسار آخر يخترق هذه القصة ويجاورها، ذلك هو الطريق الشائك في السياسة والانتماء الحزبي قبل وبعد الحرب الاهلية، ومن ثم اجتياح بيروت العام 1982، وكذلك الايمان بالنضال ثم الخيبة التي يحصدها الكثير ممن اعتنقوا ذلك النضال، فمعتصم الفلسطيني – احد ابطال الرواية وصديق جاد – يتحول من رجل ملتزم بقضية وطنه حد الموت الى ساخر ما يحدث في كواليس الرفاق .. انه يعترف لجاد بهمومه فيقول على الصفحة 64 «مزقتني الوطنية يا صديقي .. نسفت كل قناعاتي .. ايقنت متأخرا ان كل شعارات الارض والتحرير والمقاومة صك ضمان لصفقة ندفع نحن فيها الدم، وهم يقبضون نقدا .. كلما تزايد عدد الجثث تضخمت الارباح، في سيناريو محدد الادوار، يظهر فيه الزعيم ويصفقون له .. انه البطل» ويحكي باستفاضة عما تعرض له من استجوابات قاسية واحتجاز لعدة ايام لمجرد اختياره قبل تكليفه مهمة نضالية.

اما سيف الصديق الثاني لجاد فهو «هادىء متزن يبكي احزانه كل مساء» وهو من اب عراقي وام كويتية وزوجة يوغسلافية اخذت طفلته وهربت لأنها لا تريد العيش في لبنان .. كان يعمل طيارا مدنيا في العراق الا انه غادر الى لبنان خلال الحرب العراقية الايرانية، لأنه لم يكن مقتنعا بها، وبالعودة الى معتصم سنتعرف على التناقض الواضح بين شخصيته وشخصية سيف، فالهدوء عند سيف يقابله العنف في السلوك عند معتصم الذي صار بعد تجربته الحزبية يرفع شعار «لا شيء يهم» لقد خذله الرفاق فما عاد يؤمن بشيء

* * *

تتنقل الكاتبة بين موج الحب المرتفع وعواصف السياسة دون اشارات حمر، تحكي سراب عن حبها الذي كان متوهجا وتتساءل لماذا خبا، ويحكي لها جاد برسائل شفهية لم تصلها ابدا عن الحرب والاحزان التي عجنته فيها، تلك الحرب التي تغير الموازين، تسحق ناسا وتنزلهم الى الحضيض، وترفع ناسا لا يستحقون الرفعة.

الحب والحرب خطان متوازيان في الرواية، لا يطغي احدهما على الآخر الا حين تمعن الجراح بالنزيف .. يخفت صوت الحب هنا ليفسح مجالا لصراخ الحرب هناك، وتتوقف الحرب هنا حتى تستعيد انفاسها ثانية، تاركة للحب ان يكمل مشوار خيباته.

* * *

ثلاثة رجال يجمعهم الحزن وتفرقهم دروب الحياة، وامرأة لا تقبل القسمة في الحب الا على رجل واحد لم يكن الحب من اولوياته .. هؤلاء الاربعة يتقاسمون «حدائق السراب» مع قصص تأتي بها الكاتبة من بطون ذاكرة الآباء والاجداد، قصص حب وصبر على قدر كبير من الأهمية في صياغة شخصيات ابطالها، فشخصياتنا هي انعكاس لماضينا، وماضينا – شئنا ام ابينا – يتربع على حاضرنا، وخير مثال على ذلك قصة جيهان جدة سراب، التي اورثت روزا «ام سراب» الحب، وهذه اورثته ابنتها حتى الذوبان فيه .. هربت جيهان في صباها الاول لتتزوج من سليم الذي رفضت عائلته زواجها منه بسبب اختلاف الدين، وعاشت معه اجمل ايام حياتها قبل ان يختطفه الموت في حادث دهس، مخلفا لها ابنة وحيدة «روزا» في عامها الثاني، ثم توالت عليها عروض الزواج فرفضتها حتى طلبها مختار القرية الذي يكبرها بعشرين عاما – وهو رجل ارمل وله عدد من الاولاد – وقد كان على قدر كبير من الانسانية .. اما روزا فحين كبرت وقعت في الغرام وتخبطت في غابة احاسيسها، كان حبيبها في الثلاثين وهي ابنة السابعة عشرة، هو الاستاذ وهي التلميذة، تزوجته وكان حبها الاول والأخير، وانجبت منه ثلاثة كانت سراب تتوسطهم.

* * *

نتابع مصائر الرجال الثلاثة والمرأة في «حدائق السراب» .. معتصم «يمضي الى حياته اسير بطاقة اللاجئين الفلسطينيين، لم تحتمل ساقه العرجاء اثقال ثوريته فرحل الى بلد اسكندنافي سعيا للتخلص من الهوية الفلسطينية واملا في حياة مريحة» ص 52.

وسيف يعود الى بلده – العراق – ليموت هناك بعد ان نهش السرطان جسمه . وجاد ما يزال يبث لنا احزانه بعد ان انطوت قصة حبه .. اما سراب فتمضي الى عالم اكثر سرابا عندما تبيع روحها وتشتري نجومية الفن حين تتزوج من المنتج «شاكر زيدان» الرجل المشبوه الذي تلاحقه علامات الاستفهام .. كان يعيش سابقا في اميركا فعاد منها برأس مال ضخم استثمره في الانتاج الفني.

لكن تلك المصائر التي انتهى اليها الاربعة ظلت تقتات من ماضيها ما يديم حاضرها المشوه، وعبر استذكارات جاد وسراب نعود الى الوراء مرة بعد مرة، اذ لم يعد ثمة افق جديد يلوح ويغير خارطة الاشياء .. تعود ذكريات سيف ومعتصم وتفتح سراب ابوابا جديدة في قصة حبها الضائع .. يقول جاد على الصفحة 53 «التقيت بسيف على احدى جبهات الحرب خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، حيث كان يقاتل الى جانب الحزب الشيوعي اللبناني، وكنت اقاتل الى جانب احدى القوى التي رأيتها وطنية في ذلك الحين .. تصافح كفانا من خلال دخان الموت، كان تعارفا اقوى من كل تعارف في ظروف الحياة العادية .. شدتني اليه جاذبية ما في شخصيته ولفت انتباهي اتزانه المفرط ورهافة حسه رغم افتعاله القسوة» ويقول عن سيف في الصفحة نفسها «لم يكن كثير الكلام، وان تكلم فانما هو يعلن نبوءة، او يفجر غضبا .. تشوشني شخصيته، تقلقني، فمن اين له كل هذا الهدوء» وبين الهدوء والقسوة، الاتزان، والغضب تمضي هذه الشخصية الى حتفها، وهكذا تضيء «لنا عبدالرحمن» من خلال حوارات جاد وسراب الجوانب المعتمة من شخصياتها، وتعمل على تقطيع الحكايات كما يفعل مخرج سينمائي محترف في تقطيع المشاهد الى لقطات، غير عابئة بالزمن الميقاتي لتسلسل الاحداث .. وفي كل مرة سنقول ان الحكاية اوشكت على النهاية، لكنها تلقمها حكايات اخرى لتبعث النار في الرماد.

كما ان هناك شخصيات اخرى على هامش الاحداث لعل ابرزها سحر وساهرة .. سحر فتاة جنوبية منطلقة تدرس الاعلام .. وساهرة جزائرية تعمل في الصحافة اللبنانية، جريئة مقتحمة تسعى لحياة ثائرة تتحدى سطوة التقاليد الاجتماعية، وبرغم طموحاتهما وسعيهما الجاد لتحقيق تلك الطموحات الا ان الخيبة تربصت بهما .. ليس على صعيد العمل بل على صعيد الحياة العاطفية .. حبيب سحر يتخلى عنها بعد ان يترك في احشائها جنينا .. بينما ساهرة تتحول الى امرأة لا تنحاز الى شخصيتها التي عرفناها .. بل يمكن القول انها لا تنحاز الى شيء «اصبحت عادية، عابرة كهذه الوجوه التي تراها تمر امامك دون ان تترك اثرا .. لا تغرك كلماتي التي اكتبها في الجريدة، فالكتابة غدت مهنة لا اكثر» (ص 101) .

المصائر في الحب واحدة وان اتخذت مسارات مختلفة، فكأن الحرب نسجتها بخيوط غامضة لم يرها احد، وكأن الحرب عبثت فيما بعد بالنسيج كله فلم يعد احد يعرف من اي غزل قدت نفسه.

وهكذا ندرك ان شياطين الحرب حين تحل في بلد فان ملائكة الحب تهوي من عليائها، اذ لا يمكن ان نعثر على علاقة سوية وسط هذا الخراب .. الكل يقتات على زاد الذكريات، وهو زاد يترك في القلب المرارة والحسرة.

واذا ما اعدنا النظر في شخصيات الرواية سنقف عند محصلة واحدة هي ان الغالبية هم من المثقفين / مخرج مسرحي .. طالبة اعلام .. صحفية .. ممثلة .. مقاتلون .. على درجة من الوعي بقضايا امتهم / ومع ذلك فانهم جميعا راحوا الى مصائر لا يستحقونها، او انحرفوا عن مبادئهم الى ما لم يخططوا له.

وبين البداية والنهاية، سندرك ان ثمة مأزقا تلخصه هذه العبارة التي جاءت قبل الدخول الى تفاصيل الرواية وعلى الصفحة 5 على لسان ريما «مأزق الكتابة كمأزق الموت لا نجاة منه ابدا» وريما – التي لم تدخل الرواية في اي فصل من فصولها – هي التي اختارتها «لنا عبدالرحمن» لتكتب رواية «حدائق السراب»، وسندرك حين نصل الى سطور الخاتمة ان ريما شعرت بالاجهاد بعد ان اختلطت الاوراق التي جمعتها من اعترافات جاد وسراب، ولم تعد قادرة على تصديق كل ما جاء فيه، ولكنها روائية، ولذلك عليها ان تختار، وقد اختارت، ولم تكن امينة في نقل الحقائق .. اخذت ما يحلو لها، اضافت وشطبت، باحثة عن قصة تناسب رؤيتها الروائية، ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان ريما هي «لنا عبدالرحمن» وقد تكون فعلا قد استفادت من اوراق حصلت عليها تؤرخ لتلك الوقائع، او استنبطت روايتها من اوراق مخيلتها الواسعة الجامحة.

واخيرا نقول .. ان «حدائق السراب» رواية تنتمي للحاضر بكل تناقضاته وخيباته، كتبت بلغة تلقائية بعيدة عن التصنع.

بقي ان ننبه الى خطأ معلوماتي وقعت فيه الكاتبة وليس له علاقة ببناء الرواية، وهو انها ذكرت على الصفحة 19 ان تمثال الشاعر بدر شاكر السياب في بغداد، بينما الصحيح ان التمثال في جنوب العراق، وتحديدا في مدينة البصرة على كورنيش شط العرب.

—-

* كاتبة عراقية مقيمة في عمان

  هدية حسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى