لنا عبد الرحمن في متاهة قيد الدرس

 

قراءة هذه الرواية ممتعة و صعبة..وأظن أن هذا انعكاس بشكل كبير لطريقة كتابتها، طريقة كتابة دائرية، ويتحول فيها السارد أكثر من مرة بين السارد العليم، والسارد بتكنيك “الأصوات” ووضح في هذا التبادل جهد لنا الروائي الكبير وقدرتها علي حبك قصص ثلاث أجيال من السيدات بطلات الرواية…سعاد الجدة ونجوى الابنة الوسطي وليلي الحفيدة بطلة الرواية التي تبدأ معها الصفحات الأولي لهذا هي رواية ممتعة، وجميلة.

اختارت لنا أن تخاطر عدة مخاطرات في هذه الرواية أولا اختارت عنوانا ملغزا- اتضح بعد قليل أنه توصيف من توصيفات اللاجئين اللبنانين الفلسطينيين في فترة من الفترات في تاريخ لبنان

اختارت أن تحكي قصة عائلة اضطرت للنزوح إلي منطقة بعيدة تسمي “دير السرو” ، وتتبع سيرة حياة هذه العائلة في المنطقة الجديدة

أختارت أن تشبك روايتها بتفاصيلنا الحياتية الجديدة وما طرأ علي المشهد العربي من تمدد إرهابي في العراق وسوريا صنعا قطبين جاذبين للشباب ليتورطوا في قوي الإرهاب الصاعدة التي تلتهم وتضرب الجميع

تبدأ الرواية مع الجيل الأخير، الذي عاني في صغره حياة الشتات، وعذاب الهوية، والحرمان من الأب، وتحمل فقرة النزوح، تبدأ لنا من “حسان عبد الله” وشقيقته “ليلي”، ثم ترتد لتحكي قصة انتقالهما إلي دير السرو، مع والدتهما نجوي، وجدتهما “سعاد” ، ينتهي الفصل الأول من الرواية بعبارة ظلت عالقة بذهني، علي الرغم مما حملت الرواية في مرحلة مبكرة بطاقة كاشفة، كانت العبارة “الحياة ليست عادلة..ليست عادلة علي الإطلاق” وردت العبارة علي لسان ليلي، التي سنتتبع بعد قليل مع بدايات الفصل الثاني لماذا كانت الحياة مع أسرتها ظالمة، حيث انتقلت الاسرة عام 1982 إلي دير السرو هربا من نيران الاجتياح الاسرائيلي ، قبلها كانت الأم “نجوي” التي تحمل عكس والدتها اللبنانية سعاد، هوية تسمي “قيد الدرس” تقيم مع زوجها باسم في حي الفدائيين الفلسطيين، بحكم زواجها من الفدائي، الذي يقاتل في صفوف الفدائيين، ثم تضطر سعاد إلي أخذ ابنتها، والسفر إلي دير السرو، لتقيما هناك وسط البدو، تحكي لنا في هذا الجزء المبكر من الرواية كيف تزوجت الجدة سعاد، بعواد البكري، الذي كان بائعا متجولا، ومزواجا، تكتشف سعاد أنها تزوجت من رجل لدي زوجتين علي زمته، ثم تعود الرواية بعد عدة صفحات لمعاناة الأسرة الصغيرة “سعاد – نجوي وأطفالها ” في الحياة في هذه المنطقة المعزولة، لكن تتخذ لنا من قصة سعاد وزوجها عواد، مثلا علي معاناة نساء الأسرة مع رجالها، فزوج نجوي، باسم، هو أيضا فدائي، مناضل، يهجر أسرته، ويذهب ليقاتل مع الثورة الفلسطينية، ثم قاتل مع المقاومة اللبنانية وفي كل مرة كان يعود مهزوما من داخله، هو أيضا أزمته كانت الهوية، حينما قاتل مع الفلسطيينيين كان فلسطيني أكثر منهم، وحينما قاتل مع الشيوعيين، هتف بشعارات ماركس ولينين، ومع القوميين كان عروبيا حتي النخاع، لكن في أوائل التسعينات يعود باسم بعدما انتهت الحروب تماما، يعود فيجد نفسه غريبا وسط أسرته، غريبا عن أبناءه، لم يعد يرتدي زيه العسكري، وكان أطفاله أطفال الثورة الفاشلة والوعود الخائبة، فيهجر الأسرة للأبد بإيعاز من رفيق دربه محمد الأمير ليذهب إلي إحدي الدول الخليجية ليدرب جنودها، هذا هو العمل الذي يجيده باسم، زوج نجوي، يهجر أسرته، ولا يعود.

لا تنسي لنا بينما تمضي في هذا الجزء أن تطل بنا إطلالة مهمة عن الحراك السياسي والعسكري الذي جرى في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، تشكل شبكات المصالح، بعد مغادرة المقاومة الفلسطينية ، اقتناعه بمناصرة “العميد” حتي مع حمله هو الآخر هوية قيد الدرس، لذا فظل يتبع العميد، الذي حلم بحركة فدائية فلسطينية جديدة، ويرافقه في أحداث تل الزعتر، وصمود بيروت عام 1982، كل هذه الإطلالات لا تشكل عائقا أمام سرد الرواية، بينما تمرق لنا بقارئها في خفة ، لكن حلم معلمه “العميد” ينتهي باغتياله، وتتبدد أحلام أسرته في أن يبقي بعدما يهجرها إلي الأبد إلي الدولة العربية المجهولة.

مأساة ليلي وحسان، وياسمين هي نفسها مأساة شقيقهم الأصغر حسن، ليلي تتشبث بقصة حب ربيع، ثم تلفظه بعدما تكتشف دناءته، تخفق مرات في أن تستقر عائليا، تتزوج وتنجب، حسان يتنقل في عدة وظائف، محتارا لا يدري ماذا يفعل، حتي يتعرف علي فرنسية من أصل لبنانية، فيتزوجها، ويمضي معها إلي فرنسا وهناك تتعاظم أزمة هويته، بعدما يجد نفسه ضائعا في اللغة، حسن شقيقهما الأصغر، يتوه في حيرته الدينية، يرفض واقعه، ويختفي بعدما يتورط في جريمة سرقة خالته، أما ياسمين، الشقيقة التي تجد طريقها إلي الغناء والشهرة، فتبدو أنها الوحيدة التي تحققت، كان أحدهم يحوم حولها في المناسبات والأفراح، ونجح في إقناعها بأن تشكل معها ثنائيا غنائيا في الأفراح، تتعقد أحداث الرواية وتزداد اشتباكا بعد تحول مصائر الأشقاء الأربعة، ويظل سؤال العمل الأساسي، كيف تستطيع الهوية أن تكون أقوي من الإنسان، وأن تهزمه، تقول لنا في إحدي صفحات العمل علي لسان حسان : أمام تقديس الهوية لا يوجد مجد للإنسان المجرد منها لفرديته المستقلة ، فرد محيت هويته، سيكون منبوذا من المجتمع، فاقدا لشرعية وجوده.

  وجدي الكومي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى