رواية ” قيد الدرس” .. تقيدنا برهانات الهوية العربية
أن تجزم بأن الروائية لنا عبدالرحمن نجحت في الفكاك من شرك الأدب النسوي الذي طالما رهن المرأة الكاتبة في مقام جنسوي ضيق يقف على الشاطئ المقابل للكتابة الذكورية هو مغامرة قد تقترب من حد اليقين، هذا بالفعل ما ترصده الروائية لنا عبدالرحمن في روايتها الجديدة الصادرة هذا العام بعنوان “قيد الدرس”.
فقبيل التقاط الرواية بعين القارئ كاد الظن يشارف الحقيقة واليقين بأن الرواية مثلها كمثل الروايات التي تكتبها المرأة بوجه عام تتناول قضايا واقع المرأة العربية فحسب، ورهاناتها الآنية في ظل مجتمع ذكوري يفرض سطوته بقوة وبغير منافسة، لكن المشهد بدا عكس ذلك تماما، لمرات قليل تنجح كاتبة أن تقنعنا أننا بإزاء نص يمتلكه القارئ وحده دونما استلاب حرية المبدع كونه رجلا أم امرأة.
ورواية “قيد الدرس” تطرح قضية العائلة التي تبحث دوما عن هوية لها ومكانا، وهي القضية التي بلا شك تجد رواجا واهتماما لدى القارئ، ورواية العائلة الأدبية يمكن تشبيهها بمصطلح السينما النظيفة بمعنى أن الرواية / الفيلم صالح لكل أفراد العائلة العربية على السواء وهو أمر جدير بالتنويه والتأكيد عليه في ظل رواج بعض الروايات ساقطة السمعة التي تتناول قصص الشواذ والمثليين وموضوعات أخرى مبتذلة لكن لنا عبدالرحمن لا تزال تصر على رهاناتنا الأخلاقية لذا فهي تحظى بقبول أخلاقي وإبداعي لدى قرائها.
و”قيد الدرس” باختصار هي رحلة البحث لشخوص الرواية عن وجوه حقيقية لها علاوة عن اقتناص مساحة مكانية لبعض الشخوص الرئيسة في الرواية من أجل امتلاك هوية معلنة، والهوية لا شك هي الملمح الرئيس لحياتنا جميعا وهي القبلة التي لا يمكن الفكاك منها، لذلك فالقارئ بوعي أو بغيره سيضطر طوعا أو كرها للتعاطف مع شخوص الرواية نجوى وسعاد وليلى وحسان وعواد وخديجة، وزلفا وملكة حتى نجمة وابنتها جمانة، تلك الشخوص بقدر سلبيتها أم إيجابيتها أنت لست بمنأى من التعاطف مع أحلامهن ومطامحهن في حق امتلاك الهوية المعلنة والانتماء المكاني.
وفي ظل بحث الشخوص عن توصيف دقيق لهويتهم المستلبة تعبر بنا لنا عبدالرحمن مساحات لبنانية من أجل مشاركة حقيقية من الروائية في اصطحاب القارئ بقصد تعاطف وتلاحم قصدي صوب القضية والفكرة، فنجدها تسافر بنا إلى بيروت القديمة بشوارعها، وشتورة، وسهل البقاع، ودير السرو، والمرج، وبر الياس، ووادي أبو جبيل، وحيفا، وقَدَس، ومخيم شاتيلا، وبحمدون ودمشق، وباريس.
وأجمل ما سرد لنا عبدالرحمن المكاني في روايتها أنها لا تسعى إلى توصيف للمكان فقط يكفي أن تقدم لنا شكولا رمزية تقنعنا برؤية هذه الأمكنة من مثل توصيفات “جدرانه شاحبة من دون طلاء”، “سقف من صفيح”، “سيارات إلى الشمال نحو دمشق وسيارات إلى الجنوب نحو بيروت وهي هنا عالقة في الوسط”.
لكن هل من جديد تقدمه لنا رواية “قيد الدرس” للروائية لنا عبدالرحمن عن بيروت الباحثة عن هوية لبعض مواطنيها من البدو والأكراد والأرمن والسريان وكلدان وكل من اجتازوا الحدود بين لبنان وفلسطين تحديدا من القرى السبع على حد توصيفها النصي في الرواية؟
نعم امتازت اللغة الروائية عند لنا عبدالرحمن بالعمق الفلسفي الضارب في تأمل الصياغات الأسلوبية، ومن يقرأ الرواية يدرك ثمة ملامح فلسفية مدعمة بتحليلات نفسية رائعة عن آثار الشتات والهجرة المستدامة لشخوص الرواية والاجتياح الإسرائيلي وما خلفه من تأثيرات سيكولوجية.
وفي “قيد الدرس” لم تجتر لنا عبدالرحمن القصص الباهتة عن الآثار المادية للحروب والكوارث الطائفية والثورات، بل تقدم صورة تشكيلية عن مدى فداحة آثار الحروب والنزاعات الطائفية على الهوية النفسية قبل الهوية الجغرافية والانتماء المكاني. وهذا التصارع والتنازع الطائفي من شأنهما أن يخلقا حالات مزمنة لدى الشخوص من ضجيج زحام في العواطف والانفعالات والتدافع الذي لا يقدم جديدا لخلق هوية معلنة.
حتى الشخوص على مستوى الرواية لا الحدث استطاعت الروائية اللبنانية لنا عبدالرحمن أن تعكس الاضطراب النفسي لديها فمثلا نجوى إحدى شخصيات “قيد الدرس” نجدها مشتتة لتحديد صورة الرجل في حياتها بين عواد الأب المهاجر الكاذب في كل تصرفاته الصادق في عواطفه صوب الأنثى، والزوج باسم وابن الخالة دارس الطب، وحالة “زلفا” المتصارعة بين طواحين الشهوة والشبق والمتعة وبين أن تكون إنسانة تتمتع بحق المواطنة والحياة.
وبحق أنت مضطر للوقوف طويلا أمام بعض العبارات الكاشفة عن شخوص رواية “قيد الدرس” إذ إن الكاتبة تقدم لنا خارطة تفصيلية عميقة للبعد الفلسفي لأصحاب السرد داخل الرواية، فعن جمانة التي حرمتها أمها نجمة مرسال الحب والرسائل الغرامية الملتهبة من التعليم لأنها لا تؤمن أصلا برسالة التعليم التنويرية وهي الفتاة الصغيرة التي تجرعت الحب من خبرات توصيل رسائل الغرام والصبابة.
تقول لنا عبدالرحمن في لقطة فارقة “تراقب جمانة بصمت حسان وأخته وهما يمضيان في طريقهما لينتظرا باص المدرسة”، هذا الاجتراع المر من الترقب والمطمح الذي لا ولن يتحقق لفتاة امتلكتها الشهوة المبكرة بحكم وظيفة أمها إلى المدرسة والتعليم ظنا منها أن من يذهب إلى المدرسة هو ذاهب إلى الجنة أو من أجل التحرر.
ورغم أن الرواية تتناول قصة عائلة عبر أجيالها المختلفة إلا أن شخوصا فارقة مثل جمانة استطاعت أن تسرق البصر والتفكير معا كونها مثل كثيرات من العربيات اللواتي يحلمن بالحياة ، فقط الحياة.
ولأن الروائية لنا عبدالرحمن لا تعد كاتبة فحسب، بل تقترب من الفسلفة اقترابا حميميا فهي تطرق بقوة أبواب الحكمة والفلسفة في ثنايا الرواية، هذا ما تسرده في عبارتها الاستثنائية “الموت مجرد لحظة فارقة تقلب حياة البشر وتحولها من الوجود إلى العدم، مجرد لحظة كافية لأن تنتزع أي يقين سوى بحقيقة الفناء”.
ولنا عبدالرحمن (في أثناء سردها لرحلة بحث شخوص روايتها عن الهوية والانتماء، حيث نجد حسان بطل الرواية وإن كانت الرواية تمتاز بتعدد أدوار البطولة) تسرد توصيفا جديدا للهوية، وهي هوية حسان الذي انتقل إلى فرنسا والذي لم يستطع أن يهرب من شرك الهوية المفقودة لكن اليوم أصبحت هويتين؛ الانتماء الوثائقي أي بطاقة الهوية الرسمية، وهوية اللغة، فحسان نفسه كما تقول الكاتبة اكتشف معنى آخر للهوية، في الوقت الذي جعلته يقول في “قيد الدرس”: لم أعد أواجه السؤال التلقائي في لبنان (أنت من وين؟) والهدف منه الفرز الطائفي السريع”.
ولم تكن لنا عبدالرحمن قاصدة سرد حياة عائلة لبنانية تفتش عن حقها المفقود في هوية معترف بها ومعلنة بقدر ما أبدعت في توصيف الواقع العربي الراهن لا لبنان وحدها أو بيروت أو تونس أو طرابلس أو المواطن الجزائري بل هي قضية كل عربي بات مشتتا حتى داخل وطنه.
إن أروع ما يمكن ختم السطور السابقة به ما ذكرته الروائية في روايتها الجميلة، وهي عبارة بليغة بقدر ما تحمل من مرارة واقع لا يمكن الهروب بعيدا عنه أو العيش بمنأى عن ظلاله، تقول لنا عبدالرحمن: “من دير السرو إلى بيروت ومن بيروت إلى فرنسا، أنا العربي المتشبث بثقافته الأصلية مخافة التيه!”.
وأخيرا، شكرا لنا عبدالرحمن لأنك بجدارة مطلقة منحتينا بروايتك حق المكاشفة لهويتنا العربية التي باتت مفقودة بعض الشيء، وبعمقك الفلسفي في السرد الذي بحق منح الرواية العربية قبلة الحياة بغير جنسوية وروايتك تشبه عبارتك عن الحب الحقيقي الذي يحتاج إلى غفران عميق، هكذا روايتك تحتاج إلى قراءة أخرى عميقة.
د. بليغ حمدي إسماعيل