الموتي لايكذبون.. أحياناً
تبدأ الكاتبة لنا عبدالرحمن مجموعتها القصصية المتسمة بطابع المعاناة الإنسانية، والتجربة الذاتية بقصة “الموتي لايكذبون” والتي تنقلك من الوهلة الأولي لعوالم الفنتازيا واللامعقول، إذ تفاجئ بطلة القصة بخالها الذي توفي قبل عام يقف أمامها في أحد الشوارع، وفي الوقت الذي يعلم الجميع أنه رحل عن الحياة منذ أكثر من عام، فإن الكاتبة تحرك دوافع الرغبة الإنسانية في صدر البطلة لتجعلها تلتقي في لقاء أقرب إلي الحقيقة بخالها الراحل قبل عام، ويدور بينهما حوار سريع تيقن معه البطلة أن خالها لم يمت بعد، غير أن كل الشواهد تنفي ماتوصلت إليه، أو ماتتمني أن يكون، وقبل أن يصل القارئ للتيقن بأن ما طافت به البطلة من أحداث لم يكن سوي خيالات لاوجود لها إلا في أمنياتها، تعود بنا “الكاتبة” لتقبض علي تفاصيل يومية صغيرة تربط بين الخيال والواقع لتوحي لنا أن “الخال” مازال علي قيد الحياة، وأن “الموتي لا يكذبون”.. أحياناً
اغتراب
وتنسج الكاتبة معاناة الأنثي مع الاغتراب.. الاغتراب عن الوطن، والاغتراب عن الأم، والاغتراب عن الحبيب.. وقبل كل شئ الاغتراب عن الذات.. وهذا ما تجمعه قصة “عنب أحمر للمساء”، فتبدأ الكاتبة أول فصول هذا الاغتراب من خلال أحداث عايشتها بنفسها إبان الحرب الأهلية في لبنان عام 1982، وكيف اضطرت “البطلة” وهي طفلة صغيرة للاغتراب عن بيتها، وعرائسها وشتلات الغاردينيا بفعل الحرب المستعرة والتي طالت الذكريات الجميلة في منزل الأسرة.. تلك الحرب التي حفرت أول معالم الاغتراب، وها هي تنتقل إلي اغتراب آخر.. الاغتراب مع الذات، وهو الذي عبرت عنه “الكاتبة” بحبات العنب الأحمر.. ونقرأ في ذلك : “أتأمل حبات العنب، اذكر معلم “اليوجا” الذي كان يجبرنا علي تأمل حبة العنب لنصف ساعة، قبل أن نأكلها في نصف ساعة أخري.. تتركم حبات العنب علي بعضها بحزن.. أشفق عليها، ألامسها بهدوء.. أتحسس استدارة كل حبة، ثم أبدأ بنزع كل حبة من العنقود.. صار العنقود خاويا كعجوز هرم يخاف قدوم المساء.. هذا هو مسائي الأخير معك.. أحمل العنقود فارغاً في يدي.. حبات العنب متروكة في الطبق الأبيض.. سأجففه.. سأضعه بين دفني كتاب.. كما يضع الناس الورود للذكري” لاشك أنكم لاحظتم الربط الدقيق الذي أبدعته الكاتبة بين عنقود العنب الأحمر، وبين الغربة مع الذات التي تعانيها البطلة، والتي تنتقل إلي غربة أخري.. غربة مع الحبيب.. غربة شملت جسدها بالبرد، ودفع الظمأ روحها للتشقق والتصحر.
وتمزج القصة التالية “أحلام تغسل الماء” بين الفنتازيا السوداء، وبين الاغتراب مرة أخري، فهذه “أحلام” تصر كلما امطرت السماء علي تعبئة ماء المطر فوق الماء في أواني، وتختفي به في مجرتها، دون أن يعرف أحد يقيناً ماذا تفعل به.. أما في داخل الغرفة فالوضع مختلف.. فهناك “أشباح” تزورها، وهذا الخليط من الماء العذب وماء المطر هو الوسيلة الوحيدة، لاستحضار هؤلاء الأشباح واستعطافهم كي يأخذوها معهم، لكن الأمر الذي لا تدركه، رفض الاشباح اصطحابها إلي عوالمهم، بل يقومون بضربها بسياطهم التي تجعل حجرتها، وربما ذاتها، وربما عقلها، تشتعل بالنيران وتحترق. ويبدو أن عوامل خارجية أرادت إنقاذها من مسيرها البرتقالي اللون، والذي تتطاير فيه ألسنة اللهب، لنصل في النهاية إلي أن الإنقاذ لم يكن من حجرتها التي تتأحج بالنيران.. بل الإنقاذ لعقلها الذي ينتفض مع جلسات الكهرباء التي تشبه لون مصباح النور البرتقالي.
الموت.. مرة أخري
مرة أخري تجنح “لنا عبدالرحمن” لاصطياد التفاصيل اليومية، الممزوجة بالغربة والقلق، واللامعقول، فتنسج خيوطاً بين الخيال والواقع، لتطرح من جديد معاناة الغربة مع الذات، وقلقها اللحظي المتكرر.. المعاناة مع ذاكرة مجروحة.. والمعاناة مع الآخر ومنه، وهذا ما نلحظه في قصة “موت الحواس” فأحداث القصة التي تتمحور في بطلها رئيس تحرير إحدي الصحف، تبدأ لديه حالة الاغتراب، وفقدان الشعور بحواسه، حتي أنه افتقد القدرة علي الإحساس بالزمن.. وافتقد القدرة أكثر علي الإحساس بيديه.. أكثر ما يميز أي كاتب بعد عقله يداه اللتان تبدوان الآن وقد هرمتا وفقدا حيويتهما، كانتا من قبل أكثر ما يجذب حبيبته السابقة “ماجي”.. كانت تحب أن تلثم أطراف أنامله، بعد أن تلعق باطن يداه، وتلثمها، مؤكدة أن يديه أشد نعومة من يديها، ثم تقلب ظاهر كفه في محاولة منها لعد الشعيرات الغافية بأمان” الآن الوضع تبدل ، فقد تركته “ماجي” وتزوجت وغيرت مسار حياتها تماما نحو حياة مفعمة في لذة الدعوة إلي الله وبعد “ماجي” لم يلثم أطراف أنامله أحد .. الأشياء تتبدل حوله سريعاً حتي الطبيبة النفسية لم تفلح في إنقاذ حواسه من الموت.. فقد عاود السير مجدداً في الطريق الذي لايحبه.
السابعة إلا ربع
ويبدو أن الكاتبة تصر علي العودة مرة أخري إلي الفنتازيا الحياتية بطابعها الإنساني العميق الذي يستقي جذوره من رحم التجربة الحياتية ومعاناتها.. وأشعر وأنا أقرأ قصة “السابعة إلا ربع مساء” أن “لنا عبدالرحمن” لاتكتب قصة، بل تحكي تجربة ذاتية عاشتها، ونسجت خيوطها جارتها الثرثارة “أمينة” التي تشغل نفسها بمعرفة كل ما يدور في الحي، وتقص عليها دوما حكايات عن العصابة التي تسكن في الشقة المجاورة لشقتها، ومن الدكتورة سهام التي حولت صيدليتها إلي وكر لتعاطي المخدرات، وعن المرأة المستشقرة التي تغادر منزلها هي وابنتها في العاشرة مساء ولاتعود إلا في الفجر.
وحكايات أخري متواصلة، تحكيها “أمينة” بثقة وبراعة بينما سمعتها “البطلة” بضجر وملل.. إلي أن يأتي اليوم الذي تعيش البطلة نفس تجربة “أمينة” فتشاهد من شرفتها “أمينة” نفسها مصحوبة بين عدد من الرجال، يدفعونها في سيارة تشبه سيارات الشرطة تحتاج بشدة لمعرفة حقيقة الأمر.. تنتظر زوجها.. ينكر تماما حدوث أي شئ مما قالته عن “أمينة”.. تشعر بعجز حقيقي يدفعها للبحث عن الحقيقة.
المجموعة القصصية “الموتي لايكذبون” تضم عدداً من القصص الأخري صاغتها الكاتبة “لنا عبدالرحمن” ببراعة تستحق أن نحرص علي قراءتها وتتخذها ملاذاً لنا.
محمد عبد العـزيز