“الموتى لا يكذبون” والوقوع في منطقة الشك
بعد كتابها الاول «شاطيء آخر» وهو قراءات نقدية في القصة والرواية صدر عام 2002، و«اوهام شرقية» قصص صدرت العام 2003، تجيء المجموعة القصصية الثانية «الموتي لا يكذبون» للناقدة والقاصة اللبنانية لنا عبدالرحمن، والتي صدرت مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة.
قصص هذه المجموعة تغرف من الوقع المتشظي لشخصياته، من القلق والغربة والمعاناة الانسانية، من فقدان السكينة في عالم ضاج بالاصوات والثرثرة، من بحث دائم عن شيء مفقود لا امل بالعثور عليه، من رعشة لا تكتمل وشخصيات تتمرد علي كاتبتها ونبوءات لا تصدق.
القصة الاولي والتي حملت المجموعة عنوانها «الموتي لا يكذبون» تحكي عن رجل مات منذ عام، وفي احد الايام تراه ابنة اخته يقف علي الرصيف استعدادا لعبور الشارع فتندفع نحوه بسرعة جنونية متأرجحة بين الشك واليقين..
لكنه هو وليس رجلا يشبهه، فهذه بشرته السمراء المحروقة، وشعره الاسود الفاحم، والندبة في اعلي جبينه.. وقفت بالقرب منه وتبادلا التحية والحوار.. سألها عن امها واخوتها الصغار قاطعا كل شك يمكن ان يتسلل الي رأسها.. سألها ايضا عن اشياء كثيرة حدثت ثم اسرع وعبر الشارع، فيما عقدت الدهشة لسانها.. عادت الي البيت لتبحث عند امها عن الحقيقة فما كان من الأم الا ان تتهمها بالمرض.. واكد «عواد» قريب العائلة موت الخال، فقد اشرف بنفسه علي غسله ودفنه.. لكن البنت تواصل البحث برغم ان احدا لا يصدقها، وتعود من رحلة البحث محملة بالمزيد من الاسئلة والشكوك، وتكاد تقنع نفسها بان ما رأته ما هو الا وهم، غير انها حين صعدت الي السيارة واغلقت الباب كان الخال «الميت» في سيارة اخري تسير بالاتجاه المعاكس، ينظر اليها وعلي وجهه تطوف ابتسامة.
* * *
بطل قصة «موت» الحواس» رجل يبحث عن احلام يستمتع بها الا انه يكتشف خواء رأسه من الاحلام، يحاول ان يتذكر منذ متي وهو بهذا الحال المعطوب؟ لكن ذاكرته لا تسعفه للقبض علي شيء.. انه يفقد حواسه رويدا رويدا ولا يجد اجابة لسؤال يؤرقه: منذ متي فقدت الحواس؟ يخمن: منذ عشر سنوات عندما اصبح رئيس تحرير للمجلة التي يعمل بها.. او منذ فقد شهيته للشوكولاتة او النارجيلة.. او..او.. لكنه يعجز عن تحديد التاريخ الذي فقد فيه حواسه.. حتي يداه الناعمتان اصبحتا خشنتين وهرمتين.. ودون ان يدري لماذا حدث ما حدث يقص علينا كل التداعيات التي مرت في حياته، وهي دون ريب السبب وراء البلوي التي اصيب بها: فقدان حبيبته ماغي التي تركته وتزوجت احد الدعاة وتحجبت، هي التي كانت لا تؤمن بالزواج.. وموت اخيه الاصغر الذي شارك في حرب الخليج الثانية وفقدت جثته.. فقدان وظيفته السابقة بسبب مقال كتبه اقام الدنيا وحرك الضغينة والحسد لدي زملائه.. قرار صديقه الوحيد بالهجرة الي اميركا، فقدانه لعينه اليسري اثناء الاجتياح الاسرائيلي لبيروت.. حياته الصعبة في المخيمات، صفقاته السرية بين حكام وامراء وقادة، وكيف استمات في الدفاع عن بعضهم ليكتشف فيما بعد مدي خطئه.. وهكذا توصلنا الكاتبة الي السبب الذي اوصل الرجل الي الحالة التي اصبح عليها من فقدان الحواس.
* * *
اما ذاكرة المرأة في قصة «صور» فتحكي شيئا آخر.. كلما تذكرت احدي زميلاتها من ايام المدرسة الثانوية لاح لها زميل آخر.. هي من عائلة فقيرة وزميلتها من عائلة غنية يتحلق حولها الطلاب، برغم ان تلك الزميلة وتدعي سمر لم تكن متميزة في الدراسة او في الشكل، وكل ما حولها زائف مبهرج وغير اصيل.. الزميل الذي تجاهل زميلته الفقيرة واغرته حياة الثراء لم يتمكن من تجاوز المرحلة الثانوية، وسمر تزوجت من ثري.. اما ابنة الفقراء فقد اصبحت دكتورة، وما تزال ذاكرتها تهمي بصور الذين كانوا يلهثون وراء سراب الحياة المبهرجة.
وثمة رجل في قصة «عيد ميلادي» لا وقت لديه لاجراء حوار صحفي.. هو رجل اعمال واليوم عيد ميلاده بينما تحصاره الصحفية لاقتناص الفرصة.. لكن الرجل الذي يرفض اجراء الحوار يحدث الصحفية بالكثير اثناء تكرار رفضه.. بل انه يحكي لها قصة زيجاته الثلاث، والاكاذيب التي تكتنف تلك الزيجات، وكيف حقق ثروته المركونة في البنوك، وكيفية ترشيح نفسه للانتخابات، فهو من وجهة نظره احق من غيره بالفوز.
نلاحظ في هذه القصة ان الاسئلة والاجوبة والتفاصيل الاخري كلها تأتي علي لسان الرجل.. انه يحتكر الكلام ويدلي باعترافات شخصية واخطاء، وفي آخر الأمر يبوح بانه تعيس وحزين في حياته، وان زوجاته الثلاث تزوجنه لثروته.. ولا يتواني هذا الرجل الذي تعود علي الأخذ ان يطلب الزواج من تلك الصحفية التي لم تقل كلمة واحدة طيلة سرد القصة برغم احساسنا بحضورها الطاغي بين السطور.
* * *
ومن خلال لعبة الالوان يحدد الرجل في قصة «لون مر» علاقته بالناس.. انه يمتلك قدرة عجيبة علي اكتشافهم، ولا يبصر منهم الا ما يحيط بهم من لون.. كل واحد له لون لا يشبه الآخر.. وجوه مشعة واخري قاتمة.. المشعة لها درجات، والقاتمة ايضا لها درجات تحدد هالتها.. فيما البعض الآخر يبدو بنكهة لونية ما يلبث ان يتحول الي نكهة معاكسة.. يقول الرجل عن هذه الخاصية علي الصفحة 93 «لن استطيع البوح، ولن يصدق احد حقيقة ادراكي اللوني الذي ينبعث من اعماقي، قد يبدو بعضهم قبيحا للغير، لكني لا ابصره، لان هالته اللونية تبرق بشعاعات من فجر الطفولة وفرح الشباب.. انا لا اكترث بالحجم او الشكل، لا ابالي بتضاريس الجسد وتقاطيع الوجه، لا تعنيني هذه التفاصيل التي يمكن ان يعالجها جراح تجميل ماهر.. يأسرني فقط الشعاع المنبعث من الكتلة المتحركة”.
تنجح لنا عبدالرحمن كثيرا في سبر الالوان، مزجها، اكتشاف ماهيتها بالنسبة للبشر، ومن خلال ذلك كله تغور في اعماق شخصياتها لتخرج معدنها الاصلي الذي علاه الغبار.. ثم من خلال هذه الخاصية التي اسبغت بها علي بطلها الباحث هو عن لونه الخاص، يعثر علي ضالته، انها تلك المرأة التي يقول عنها علي الصفحة 94 «اخيرا صمت التردد، سكت القلق، وتلاشت كل الالوان المعتمة.. لقد وجدتها، انها لوني الغائب الذي ابحث عنه، هي الزهرية البيضاء، الفضية الوردية، الذهبية، الشاحبة المشرقة، السماوية، الهائمة بصفاء شارد خلف اشعاعاتها المركبة من روح قوس قزح وامتزاجه بالشعاعات الفضية.. وحدها اخترقت مساحتي واتساع مدني لتواصل اطلاق الوانها الخرافية داخلي».
لكن المفاجأة التي اختارتها الكاتبة لبطل قصتها ولنا ايضا هي ان هذه المرأة حي صارحها الرجل بحبه، راحت تنظر اليه عميقا وتحدق في هالته القاتمة، ولم تتردد بمصارحته «ان لونك مر لا يتناسب مع لوني”.
* * *
وفي قصة «رعشة» تلامس لنا عبدالرحمن جرحا غائرا تحت جلد الانثي، فالبنت التي تركت المدرسة وصارت لصيقة البيت تغسل وتنظف وتقوم باعباء البيت الاخري وتصنع القهوة لصاحبات امها وتتنصت علي اكاذيبهن الخاصة جدا عن قمصان النوم والوصفات السحرية لاستمالة الرجل وقصص تدخل في باب البحث في خزائن الذاكرة عن كل ما مر بهن دون ان يصرحن بما آل اليه حالهن الآن.. هذه البنت لا تجد بعد هذا سوي غير النظر من خلال الشباك الي الآخرين، العشاق تحديدا، وتربط الوجوه بالايام، فهناك عاشق يأتي كل يوم اثنين بانتظار ابنة الجيران.. وآخر يأتي يوم الخميس بسيارة بيضاء، يطلق زمورا صاخبا قبل ان تنزل اليه صاحبة الشعر الاشقر.. ثم يحدث ان تكتشف البنت ان وجها اسمر يراقبها، يشير لها ان تنزل فترفض، يشعر بالغضب، لكنه يعود في اليوم التالي، يبتسم لها ويتجرأ بالدخول الي البوابة فتخشي ان يفضح امرها، وتنز ل اليه.. علي الادراج يمسكها من كتفيها ويطبع ثلاث قبلات علي وجهها فتعتريها رعشة تشعل كل ما فيها، وتمنحها نشوة سرية تفوق حلاوتها كل قصص صاحبات أمها او ما تراه من الشباك.. لكن الوجه الأسمر لم يأت بعد ذلك اليوم.. انتظرت طويلا ولم يأت بينما عالمها الجسدي انفتح لاستقبال المزيد من الرعشات.. ولأنها تدرك صعوبة الحصول علي تلك الرعشة، لذلك تزوجت من اول طارق، ووافقت دون تردد.. وبرغم مضي الاعوام «ما زالت البنت تجلس قرب شباك آخر، تنظر الي الشارع وتتساءل: لماذا لم تحصل علي تلك الرعشة مرة أخري؟» ص103
* * *
المرأة في قصة «ليلة الشجرة» لم تصدق بأنها أصبحت قاتلة، قاتلة من نوع الذين يقتلون ويتلذذون بالتخطيط لعملية القتل، وهي حتي بعد ان تم لها ذلك لا تصدق المصير الذي صارت اليه.. الكاتبة لنا عبدالرحمن لا تبوح بالاسباب التي دعت الزوجة للتفكير في قتل زوجها، فالأسباب يمكن ان تحدث بين اي زوجين يشوب علاقتهما البرود والاختلاف والبغض.. الا ان الطريقة التي حدث بها القتل هي التي سنتوقف عندها.. فالزوجة لا تريد قتلا بالسكين او اية اداة حادة لكي لا تسيل الدماء وما يقود الي البحث عن ازالة الدماء واخفاء الجثة، بل تريد قتلا من نوع آخر لا يقودها الي الشبهات.. لذلك تلجأ الي حيلة فتوهم زوجها بشجرة البيت النادرة التي تتحول اوراقها الي دولارات في ليلة معينة كل عشرة اعوام، ولا يمكن جمع هذه الدولارات الا ليلا.. وبعد ان اقنعته بذلك جاءت الليلة الموعودة، ويبدو ان الزوجة الصقت الدولارات علي اوراق الشجر، وما ان شاهدها الزوج حتي سقط ارضا قرب الشجرة ومات، وقد جاء تقرير الطب الشرعي بانه مات منتحرا.. ولا بد للقاريء ان يتساءل في نهاية القصة: ماذا يحدث لو ان الزوج لم يكن بهذه السذاجة ولم يمت؟ ولماذا جاء تقرير الطب الشرعي بان الرجل مات انتحارا ولم يمت بالسكتة القلبية وهي الاقرب الي طبيعة ما جري في القصة؟
* * *
استوقفتني كثيرا قصة «اعتراف» فهي من وجهة نظري اجمل قصص المجموعة.. تستخدم فيها الكاتبة اسمها وتبدأ بعبارة «حسنا يا لنا..» القصة علي لسان احدي بطلات الكاتبة في قصة سابقة كانت الكاتبة قد نشرتها.. البطلة تعترض علي اعلان موتها، فتواجه صانعتها وصانعة الشخصيات الاخري في القصة.. تذكرها بالاوهام والاكاذيب والخيانات التي بدرت منها، تحتج علي الموت في قصة «مرايا مكسورة» وعلي الحب الضائع في قصة «ضريج لرماد الذاكرة» وعلي اشياء كثيرة حدثت في قصص اخري.. الشخصية تتهم كاتبتها بالكذب والسطو علي اوجاع الشخصيات، ومنهم «وائل» الذي «غادر الي السويد متسللا بعد يأسه من الحصول علي اقامة شرعية في لبنان، واستحالة عودته الي العراق» ص 128.
وتستخدم لنا عبدالرحمن في هذه القصة موهبتها النقدية لتحلل النص علي لسان الشخصية الغاضبة، وتقترح من خلالها اساليب للقصة او بدايات افضل او ادخال شخصيات اخري كالعرافة التي تنبأت لها ان تكون ثرية.. او كالأب الذي كان مناضلا ويحلم بوطن عربي واحد.. وكل مقترح بأخذ حصته من السرد الجميل والبوح والاعتراف.
نماذج مختلفة قدمتها «لنا عبد الرحمن» في مجموعتها «الموتي لا يكذبون».. نساء باحثات عن معني لوجودهن، عن حب مضاع وذكريات لن تعود.. رجال واهمون وموهومون… اماكن غارقة في التذكر والعشق وما خلفته الحروب من ندوب وضياع.. ولكن في كل ذلك ثمة ضوء وانشداد نحو عالم يسوده الأمن وتحتويه الطمأنينة ذات يوم.
—–
* قاصة وروائية عراقية مقيمة في عمان
هدية حسين