شاطيء آخر للقصة والرواية

 

شاطيء آخر، أول عمل للكاتبة اللبنانية “لنا عبدالرحمن” وهو كتاب في نقد القصة القصيرة والرواية، لا تخفي المؤلفة أنها استعانت بكثير من الرؤي النقدية التي ساعدتها علي بلورة واستكمال رؤيتها من أجل التقاط القيم الجمالية والخصوصيات الفنية في تحليل أي عمل روائي أو قصصي تناولته في الشاطيء هذا (ص5 ). ومن المفارقات التي لا تدري بها الكاتبة ـ ربما ـ هي أنها جاءت علي نقد أحد عشر كاتباً واحدي عشرة كاتبة، كانت حصة القصة القصيرة ثماني مقالات ، بينما أخذت الرواية بقية الشاطيء كله وهذا يعني أربع عشرة مقالة. ليست مصادفة أن الروايات التي قرأتها وعالجتها الكاتبة تحكي عن القمع والاستلاب والهزائم النفسية والسياسية التي تعّرض لها (العربي) في المشرق والمغرب علي حدّ سواء، وقد تركت هذه الأعمال عميق أثرها في وجدان المؤلفة لا سيما الجانب المتعلق بتهميش المرأة وقهرها ومن ثم رغبتها بالخلاص والحرية والمساواة كما هو الحال مع رواية الكاتبة السورية (أسيمة درويش) المسمّاة (شجرة الحب غابة الأحزان) ورواية حنان الشيخ الموسومة (إنها لندن يا عزيزي) حيث نري شخصيات الرواية تبحث عن نفسها وسط هياج أقرب شبهاً بأمواج البحر وهم في مدينة الضباب (يأتي الضباب هنا تعبيراً عن إنعدام الرؤية وربما إنعدام البصيرة معاً )! أول عمل تناولته ( لنا عبدالرحمن) كان من حصة الروائي الطاهر بن جلون عن روايته (أعتاب مركب العذاب) التي يحكي فيها عن سراب الحلم العربي وأسرار الهجرة إلي الغرب، وانقسام الشخصية المغربية في التفكير والسلوك والأخلاق والعادات بين فرنسا والمغرب (ص 11). أنها رواية تكرر السؤال عن الذات الجريحة ومصير هويتها العربية في الغرب والرعب من اليوم الذي تتشظّي فيه جنسية العربي المهاجر بين قلاع الغرب، وزوال ماكنا نملكه من أخلاق وخصوصية في الطقوس والشرائع والقوانين. أما الكلام عن رواية سالم حميش (فتنة الرؤوس والنسوة) -وهو كاتب مغربي- فقد دفعني إلي البحث عن تلك الرواية والسؤال عن كاتبها، ذلك أن شخوص هذا العمل المهم (الديكتاتور وعشيقته وزوجته وعشيقها) صورة حيّة عن أنظمة القتل التي تسرح وتمرح علي رؤوس الناس، بينما دودة الفساد تنخر في هيكل النظام، رواية تحكي عن الجزء غير المنظور من الحياة الخاصة للجنرالات، وجاء شرح الموضوع بدقة أرغمتني حقاً علي طلب الرواية من ناشرها.. بينما تأتي رواية (شرق النخيل) للكاتب المصري بهاء طاهر الحاصل علي جائزة الدولة التقديرية عام 1998 بمثابة رسالة سياسية عنيفة مكتوبة بأسلوب فني رفيع ص 29. وهي تحكي عن خسائرنا العربية في الثقافة بخاصة حيث البطل الذي علّم الناس القراءة لم يعد يقرأ، بل يمضي إلي الخمرة كمنقذ أخير من بطش السياسية. وتصل (لنا عبدالرحمن) في الصفحة 35 إلي الروائي الموريتاني (موسي ولد إبنو) الذي يكتب عن (الحب المستحيل) والتي اعتمد فيها علي فكرة جورج أرويل في روايته المذهلة (1984) حيث يمنع الحب بين الجنسين وتفرض عقوبات صارمة وبشعة لكل من يرفض الانصياع لأوامر السلطات العليا، لكن المؤلف تمكن من تطوير هذا الفرع المجزوء من (1984) بحيث يوافق مزاج وحالات المواطن العربي لرؤية القمع والظلم والخضوع معاً وهذه الرواية هي الثانية باللغة العربية لموسي ولد إبنو الذي يمعن في الخيال حدّ الوصول بروايته إلي الفانتازيا. وفي رواية صنع الله إبراهيم المسمّاة (وردة) يمتزج الواقعي بالمتخيل لكن نصف الرواية مكتوب علي شكل وثائق تكتبها بطلة القصة، وهذا يشكل ضعفاً في البناء وزيادة في عدد الصفحات، لكنها زيادة لن تعني الكثير، حيث أخذت تلك الوثائق 200 صفحة من أصل 411 صفحة هو حجم الرواية، وتأتي شخصية (وردة) كرمز أو بديل عن أحلام الثورات العربية التي أفل نجمها، لكن صنع الله إبراهيم يومض بعض النور عبر كشفه عن مذكرات البطلة وكأنه أراد القول إن هناك من يعرف الحقائق في زمن ذابت فيه المفاهيم وغرقت الشعوب ـ العربية طبعاً ـ في طوفان الردة (ص 45). ثم تذهب الكاتبة (لنا عبـدالرحمن) إلي صومعة الكاتب العربي الجزائري (الطاهر وطّار) لتقصّ علينا أحداث روايته الأخيرة (الوليّ الطاهر يعود إلي مقامه الزكي) حيث الواقعية السحرية وخلط الماضي البعيد بالحاضر المفكك دون السقوط في لعبة الرمز والقناع، ونري من العنوان ثمة صلة بين المؤلف وبطل الرواية، ولم يكن اختيار (الوليّ الطاهر) عبثاً دون ريب، حتي أنه يقول عن نفسه: أنا أكثر الروائيين ذكاء وخبثاً، أعطي روايتي أبعاداً متعدة فتصبح سهلاً ممتنعاً، فهي ليست بسيطة وليست معقدة (ص 47). ونصل بعد الطاهر وطّار إلي الكاتبة (فوزية شويش السالم) في روايتها (مزون وردة الصحراء) وهي من سلطنة عمان حيث مزجت في عملها الأساطير بحكايات التأريخ والتراث الشعبي والعادات العربية مع ما يرافقها من مخطورات تصل حدّ الرجم بالحجارة (ص 53). ورأينا في عموم الكلام عن الروايات أن الناقدة (لنا عبدالرحمن) لا تقترب من أساليب كتّابها، ما هو مهم عندها هو المضمون ولا شيء سوي ذلك، والرواية المعاصرة كما نعلم لاتقف عند محتوي واحد، بل تحتاج إلي لغة عالية وأسلوب أعلي، أما بالنسبة لأسطرة الواقع واستخدامات التراث والتأريخ فما علينا غير أن نتذكر قول (كارلوس فوينتس) عندما أشار إلي أن الرواية أكبر من الأسطورة وهو ما بدأت به مقالتها عن هذه الرواية حصراً. أما رواية (شجرة الحب غابة الأحزان) التي سبق أن أشرنا إليها، فقد تأكد ثانية أن الناقدة أهملت أسلوب الكاتبة واكتفت بالفضاء الروائي والبعد السايكولوجي للشخصيات وهو ما فعلته مع بقية الروايات المرصودة بمنظارها النقدي. وتعالوا نمضي معها إلي رواية (إنها لندن يا عزيزي) والتي أبدعتها الكاتبة المعروفة (حنان الشيخ) حيث الغربة والجنس والبحث عن السعادة والشخصيات المتناقضة التي تبحث عن ذاتها في مدينة الضباب (ص 67) ومن المؤسف أن تحصل هذه المقالة علي أكبر نسبة من الأخطاء المطبعية مع أنها واحدة من أبرز ما كتبته لنا عبدالرحمن حيث وصل عدد هذه الأخطاء إلي (35) خطأ في سبع صفحات فقط! والأخطاء التي أعنيها هي خلو بعض الكلمات من النقط أو وضع النقط في غير مكانها، مثل كلمة (دبي) التي كتبوها (دبي) بينما كلمة (شفاه) طبعوها (شفاة) وهذا لا يجوز في كتاب عربي يصدر عن منشأ عربي. أما رواية (حبّات النفتالين) للكاتبة العراقية (عالية ممدوح) فهي تجسيد فني للعوالم الأنثوية العربية في مراحلها وتأزماتها الداخلية بحسب تعبير المؤلفة ص 75. وعالية ممدوح كاتبة من نوع خاص لاتخاف من كشف المستور ـ جنسياً أو دينياً أو أخلاقياً ـ وقد سبق لهذه الرواية أن صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب قبل اطلالتها الثانية من دار الآداب، وهي واحدة من أهم أعمال عالية ـ بعد قصصها القصيرة ـ والتي تحكي فيها عن الروح العراقية والبناء التحتي الخفي السّري للعائلة البغدادية في الستينات من القرن الماضي. لكننا مـع رواية (هالة البدري) المعنونة (امرأة ما) والتي يشي عنوانها بمضمونها الذي يعلن حكاية امرأة ما (ص 83) فهي رواية (حوارات) متشعبة وكثيرة بين مجموعة من الشخصيات (عمر، ناهد، مصطفي، ماجي، وريم) وهنا تحكي (لنا عبدالرحمن) عن أسلوب الكاتبة وعن الوصف الداخلي علي عكس ما كانت عليه مع الروايات السابقة. أما رواية (بنت الخان) للكاتبة (هدية حسين) فسوف أترك الحديث عنها لسبب واحد فقط، هو أنها (زوجتي) مع أن المؤلفة (لنا عبدالرحمن) قالت أكثر مما سأقول عنها. وتبقي رواية واحدة هي (الخباء) للمصرية (ميرال الطحاوي) فهي مرثية لعالم انزوي تحت منطق التغيير، تتحدث فيها عن قساوة الحياة الصحراوية واضطهاد المرأة وسلب حقوقها والعيش خلف الجدران والتمسك بالقيم الجاهلية العقيمة (صفحة 97). ولعل ميرال الطحاوي واحدة من القلّة اللواتي كتبن عن حياة الصحراء وكثبانها وعن عالم البداوة الذي لم يتطرق إليه سوي نفر قليل من المبدعين، ولهذا السبب تألق نجم هذه المبدعة بسرعة الرياح التي تهب علي الصحراء فجأة. لن أتحدث ـ أيضاً ـ عما كتبته (لنا عبدالرحمن) عن روايتي (نصف الأحزان) التي أصدرتها دار الآداب في بيروت، فهذا متروك لمن يعنيه الأمر، لكنني أحب أن أقول شيئاً مختصراً عن تلك المقالة، وهي أن الكاتبة تمكنت من الغوص جيداً في بحر كتاباتي وهذا شيء يسعدني حتي إذا جاء التفسير ضدي، مع أنها لم تكن هكذا (معي). أما الجزء الثاني من الكتاب والمخصص لنقد المجاميع القصصية والذي تناولت فيه المؤلفة أعمال خالد محمد غازي، عبدالرحمن مجيد الربيعي، زينب الحفني، رشيدة الشارني، كوليت خوري، هيفاء بيطار، رشاد أبو شاور، ويحيي القيس، فهو يحتاج إلي وقفة ثانية أنا نفسي بحاجة إليها أيضاً حتي تكتمل الصورة وقد تبدو أجمل

عبدالستار ناصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى