حين تقف “لنا” علي الشاطئ الآخر لإبداعات الآخرين

 

حين تلملم الشمس أشعتها الأخيرة، وتنحسر في وداعة عن النقطة الأخيرة من الشاطيء… أي شاطيء من شواطيء الهيم في الذوات المبدعة.. هناك تجدها واقفة ترصد، وتتصيد من أكثر الشواطيء عذوبة وصفاء، ونقاء… هناك تقف دائماً هذه المبدعة التي إمتهنت الكتابة، أو ربما هي الكاتبة التي إمتلكت كل شواطيء الإبداع.. هناك حيث صفو الشواطيء، ونضوب كل الظواهر النشاذ تجد هذه الكاتبة المتحفزة، المتربصة دوماً وأبداً لتصيد أدق لحظات الإبداع في ذوات الأخرين. هذا الكتاب الذي بين أيدينا “شاطيء آخر” رغم أنه التجربة الأولي لكاتبته الصحافية “لنا عبدالرحمن”، ورغم أنه تصيد واحداً من أصعب ألوان الكتابة، ورغم أنه تناول إبداعات متنافرة الأهواء، ومتباعدة المشارب، ومختلفة الأقطار؛، إلا أنها وببراعة واقتدار يندر أن تتوافر لمن في مثل حداثة عمرها تغوض في أعماق الكتابات لتستخرج ما خفي في أحشائها من در مكنون ببراعة نقدية عالية، رغم أنها تنفي عن كتابها صفة الدراسة النقدية مؤكدة أنها محاولة تريد من خلالها تكوين قراءة أدبية للمادة النصية التي تألف منها الكتاب، وكأنما هي تبغي توحيد العرب من خلال كتاباتهم، فقد آلت علي نفسها في هذا الكتاب أن تكشف أنَّ الأعمال الأدبية العربية علي إختلاف جنسياتها القطرية، ورغم كل الفروقات البيئوية فإنها في الواقع تظل كتابات عربية، تعبر عن هوا جس مشتركة بين كل الكتَّاب والكاتبات، حيث تنتفي الهوية القطرية، وتظل الهوية القومية هي الحاضرة فقط ، رغم تعدد طبقات المجتمع العربي، وتنوع فئاته الفكرية والثقافية. وقد إرتأت الكاتبة إختيار نماذجها الإبداعية بحيث تشترك في طرح هموم عربية تمتد علي مساحة خارطة الوطن العربي كله، بداية من الحروب التي لايكاد يخبو أحدها حتي تتفجر العشرات، إلي تردي الأوضاع السياسية إلي هوة الديكتاتورية، أضف إلي ذلك الفقر الاقتصادي ومثلث الرعب المعروف “بثالوث التابو” السلطة، الدين، الجنس. شاطيء آخر.. لماذا وتكشف الكاتبة عن السبب الذي دعاها للوقوف علي الشاطيء الأخر لهذه الإبداعات العربية قائلة” هذه الأعمال التي حرصت علي جمعها من المشرق إلي المغرب العربي.. أنها إبداعات تعرض لتأزمات واقعية نفسيه هي صدي لعمليات الإتهزام والعزلة، والاستلاب، التي تعرضت له النخب الثقافية التي وجدت نفسها في مواجهة تفرض عليها تحديات، لانقاذ الحرية والإبداع، ومقاومة السلطة والتبعية والتقليد. وكأنما تصر علي فضح واقعنا العربي تستطرد” صوت الإنسان العربي المقهور مبثوث في كل الأعمال “القصصية والروائية” إنه صوت الوعي الثقافي المعارض للقمع والقهر والتهميش، فصوت الكاتب المتمرد، لايقف عند حدود رفض الحدث والفعل الإنهزامي، بل يقدم معرفة بما وراء الحدث وأهدافه، ودوافعه المستترة، يكشف الخفي، ويعلن عن النوايا المبيتة.. إنها ثورة علي الداخل الخانع، تمرد علي الصوت الصامد المخنوق، فلئن كان التاريخ العربي القديم محملاً بالإنتصارات التي جبلت شخصية الفرد بالثورة، والرغبة بالنصر والتحرر الكامل من أجل الوطن والإنسان، إلا أن الأحداث الواقعة منذ أكثر من خمسين عاماً وحتي اليوم تؤكد العكس.. وتكشف الإنهزام المتتالي في مصير المواطن العربي، والفئة المثقفة تحديداً، لأنها عاجزة عن تغيير الحدث، رافضة كلياً لمنهجية الإستسلام والتبعية. أن هذه الكتابات تمارس إستقلالها الذاتي، لتكون كتابة ضد الكتابة، بحثاً عن التطور والإبداع الفني في مواجهة صراعات ثقافية واجتماعية راهنة، كلها تساهم في الدفاع عن كل ما هو راق وإنساني في الحياة والأدب. أن هذه الابحار العاصفة الهادئة في نفسي الأن هي إستجلاء لكوامن لحظات الإبداع الحاسمة في شتي شواطيء الرواية والقصة العربية.. ومع “لنا” نطوف ببعض النماذج التي تصيدها في هذا الشاطيء الأخر. أعتاب مركب العذاب هذا هو النموذج الأول الذي سبحت الكاتبة في عالمه.. وهو رواية للمبدع المغربي، “الطاهر بن جلون” وتتصيد في هذه الرواية روح الكراهية التي يضمرها الغرب العنصري لكل ما هو عربي، باعتبار العرب مواطنين من الدرجة الثالثة، وتطوف ببنية الرواية، وبيئتها التي تنطوي علي كثير من الأحداث التي تنقل صوراً ومواقف تنحدر فقط من البيئة الشرقية، وعاداتها المتوارثة عبر أجيال، كما تتصيد إسقاطات، وتوهيمات الذات العربية المغتربة حيث تتحاور مع نفسها. أما النموذج الثاني الذي تتناوله الكاتبة فهو للمبدع العراقي عبدالستار ناصر من خلال روايته “نصف الأحزان” والتي ينعي فيها مواراة مدينة السلام “بغداد” الثري بعد تجربة مريرة عاشها المؤلف في المعتقل، وحيداً، مقهوراً، لا يعرف حتي إسماً لوطنه وهذا المؤلف شديد البراعة في إختيار ألفاظ لغته، ومفردات بنيته حيث يشكل مدينته كأنها مغدورة وغادرة.. مؤلمة ومتألمة، لم تترك في داخله إلا ذكريات دهاليز التعذيب، والظلام، والخوف، والجلد، والدم، وكأن ذاكرته الماضية مع المدينة مفقودة إلي حد البتر والضياع، حتي وهو سائر بين الأشجار والنساء، والسيارات يتذوق طعم الحرية، لكنه لا ينفذ إلي ثنايا ضلوعه إذ تظل معاناته تطغي علي أي ذاكرة، وكأن كل ما في حياة البطل مغتصب وقسري… ورغم أن كاتبتنا تقسو علي “ناصر” بعض الشيء لأنه أغرق رواياته في التنفيس عن عذابات المعتقل، إلا أنها لا تطفيء كل شعاعات الأمل، بل تدع بطلة الرواية “عواطف” وكأنها الرمز الذي من أجله سيستيقظ البركان الخامل سواء في داخل البطل.. أو في داخل الوطن كله. وعودة إلي المغرب مرة ثانية تقتنص “لنا” “رواية فتنة الرؤوس والنسوة” للكاتب المغربي سالم حميش والتي يجسد فيها فساد الأنظمة السياسية متمثلة في شخص “معمر الحلي أو فقيه” ونقرأ من تعليقها علي الرواية: الروائي يقدم لنا حكاية مسبوكة بمتانة، ومألوفة أيضاً في كل الأقطار العربية… فالحرية مفقودة علي إمتداد مساحة الوطن العربي، ومعادلة القوي غير متوازنة إطلاقاً، سالم حميش في روايته يسلط الضوء علي الجوانب الخفية لآلية القمع المتوارث جيلاً بعد جيل.. إنه ينقل صورة الإضطهاد السياسي، وانعكاساته الإجتماعية والأخلاقية. وإلي مصر تبحر الكاتبة مع رواية “شرق النخيل” للمبدع بهاء طاهر، وعنها وعنه تقول: يمزج بهاء طاهر في روايته “شرق النخيل” بين أكثر الموضوعات الإجتماعية والسياسية حساسية وخطورة، لنقف أمام رواية تشتبك خيوطها بتضافر يشد القاريء بتلقائية، ويحفزه علي ترقب الأحداث، ومقارنة المشكلات الخاصة مع النكبات المشتركة بين كل الشعوب العربية.. بين مشكلة الأرض عند عائلة في أقصي الصعيد، وبين أحوال مصر السياسية، والإضطرابات الداخلية، وثورة الطلبة، وتظاهراتهم علي سياسية القمع. ومن مصر إلي موريتانيا تلتقط الكاتبة رواية “الحب المستحيل” للكاتب الموريتاني موسي ولد إبنو وهي روايته الثانية باللغة العربية بعد رواية “مدينة الرياح” والرواية هنا “الحب المستحيل” مبنية علي فرضية حدوث عزلة تامة بين النساء والرجال، لا يلتقون أبداً، إلا في فترة محدودة تشبه مدة الخدمة الإلزامية، وهي الفترة اللازمة للحفاظ علي هذا الجنس البشري.. أي فترة التزاوج، إلي أن يتم الاستغناء عن التزاوج الطبيعي، بالإنجاب الصناعي… والهدف من ذلك كله هو القضاء علي مرض الحب.. فحتي في لحظات السكون المفترضة في اللقاء الحميمي بين الرجل والمرأة يقنن الكاتب هذا اللقاء بآدائه بطريقة آلية محضة تخلو من أية عواطف لاتحمد عقباها.. ولكن هل ينجح هذا المخطط.؟ . رغم كل ما ساقة الكاتب من مبررات توجب هذه العزلة.. إلا أن نهاية الأحداث تؤكد فشله في الوصول إلي هذا المخطط الميتافيز يقي.. وبدون تعليق منا نقرأ كلمات “لنا” تعقيبا علي هذه الرواية الحب المستحيل رواية تشير بأسلوب مبطن وجريء إلي أماكن الخلل في المجتمع العربي الناتجة من التعامل السلبي مع التطور التكنولوجي الذي قاد المجتمع أيضاً إلي تدهور إجتماعي ونفسي. أحزان رجل ومن عالم الرواية إلي دنيا القصة القصيرة تنتخب “لنا” عدداً من المجموعات القصصية لعدد من المبدعين العرب إبتدأتهم بمجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” للقاص والصحافي خالد غازي… ورغم توزع إهنمامات الكاتب بين فنون عدة تشمل الكتابة القصصية، والنقدية، والسياسية، والتاريخية، وأيضاً الصحافية فإن قصص “أحزان البكاء” ـ كما تقول “لنا” ـ جميعها في خطي سيرها الإجتماعي والعاطفي تجنح إلي تجسيد الألم والإضاءة علي كافة جوانبة باعتباره تعبيراً عن خيارات سلبية ناتجة عن شخصية إنهزامية قادت تصرفاتها إلي إلحاق الأذي الداخلي بالآخرين ، فالقصص لم تقتصر علي اتجاه واحد في المسار والرؤيا، علي الرغم من أنها قد توحي للقاريء في الوهلة الأولي بالتميز الكامل للحزن، لكن بعض السمات توحي بنقيضها، فالمؤلف يكتب عن الحزن في محاولة للتخلص من تراكماته الكثيفة، في الوقت الذي يترك باب الأمل مشرعاً، مثلاً في “أحزان رجل لا يعرف البكاء” يختتمها غازي بالقول: “في كل مرة أكبو فيها أقول لنفسي.. أبدأ من جديد، لكن هل كل أناس هذا العالم سيبدأون من جديد”. أن القاريء لهذه المجموعة يلتقط بسهولة تذبذبات النفس الروائي المستتر في قلم المؤلف، مع ذلك البوح الوجداني الحميم، إلي جانب طرح قضايا إجتماعية وسياسية تحتاج لمساحة من التعبير تتجاوز القصة القصيرة إلي عالم الرواية الرحب. هناك أشياء تغيب هذا هو إسم مجموعة الكاتبة السعودية زينب الحفني التي قدمت نموذجاً مستحدثاً من اللقاءات العصرية بين الرجل والمرأة بأسلوب خفي عبر علاقات حب تقنية تدور أحداثها عبر شبكة الأنترنت والبريد الأليكتروني، فالقصة تعالج فكرتين.. وضع المرأة في المجتمع الشرقي.. وأيضاً النموذج التقليدي للرجل الشرقي. وكما تقول “لنا” فإن أهم ما يميز هذه المجموعة أنها تثير ذهن القاريء بطرحها أسئلة مفتوحة غير معلنة، وتمحورت الرؤية العامة حول شخصيات متصارعة مع المرض والغربة، وأنعدام التوازن النفسي ، كل شخصية تطرح قضية إنسانية تعمل الكاتبة علي رسم ملامحها بتصوير دقيق تحرك من خلاله إنفعالات القاريء. وختاماً لقد أجادت “لنا” في اقتناص أدق حنايا لحظات الإبداع علي شتي تباينها، وهي تقف متحفزة دائماً علي الشاطيء الأخر عساها تغوص في بحور الإبداع.

محمد عبد العزيز 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى