شاطئ آخر من السرد العربي المعاصر

 

اثنتان وعشرون راوية ومجموعة قصصية، لاثنين وعشرين كاتبا وكاتبة، من اثني عشر بلدا عربيا، تتوقف عندها الناقدة والمبدعة لنا عبد الرحمن، التي لها تجربتها الخاصة في عالم السرد العربي، ومن ثم ففي وقفتها على شواطئ سرد الغير، إنما تصدر عن فهم حقيقي وتذوق فني رفيع لهذه الأعمال التي تابعتها قراءة وتحليلا واعيا، وخاصة الأعمال التي صدرت خلال السنوات الثلاث 1999 ـ 2001، وبالأخص في العام 2000.

الكتاب بعنوان “شاطئ آخر ـ مقالات في القصة العربية”، وصدر عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة، في 160 صفحة. وتهديه الكاتبة ـ في إهداء خاص جدا ـ لأمها، وتبدأه بمقدمة مهمة تكشف فيها عن منهجها في التعامل مع السرديات العربية، وهي لا تريد لكتابها أن يكون دراسة نقدية (ليس هذا الكتاب دراسة نقدية) بل محاولة أرادت من خلالها تكوين قراءة أدبية للمادة النصية، ومن ثم تتحلل من أي التزام نقدي، أو مدرسة نقدية قد يظن القارئ أنها تتبعها، وتسير في دروب مناهجها، ويظل المضمون الإيديولوجي للكتابات التي تتعرض لها، يحمل هواجس ومخاوف واحدة لا تتجزأ، لأنها تنقل ما يغلي في قاع التاريخ والمجتمع العربي.

وتؤمن لنا عبد الرحمن أنه ليس هناك أكثر من الإبداع القصصي والروائي، تعبيرا عن شبكة الصراعات التي تسم أوضاع البلدان العربية على المستويات كافة، وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تخلق الحالات الإبداعية، وتسهم في طرح رؤى وأسئلة محدثة أكثر ملائمة لروح العصر.

وقد لاحظت الكاتبة من خلال الأعمال التي تناولتها أن ما من علاقة حب تستمر قوية، دون مؤثرات سلبية تضعفها وتؤدي إلى تلاشيها وزوالها، وترجع هذا إلى التمزق النفسي والاجتماعي في حياة الرجل والمرأة العربية على حد السواء.

في رواية “أعتاب مركب العذاب” يحاول الطاهر بن جلون ـ من خلال شخصية نادية ـ الكشف عن عنصرية الغرب نحو العرب، ومن ثم تصوغ الرواية بدقة جدل السؤال والجواب عن هوية العربي في الغرب.

بينما يطرح عبد الستار ناصر في روايته “نصف الأحزان” سؤالا يقول: ماذا جرى في تلك المدينة التي سموها في التاريخ مدينة السلام، أين السلام الذي عرفته بغداد طوال حياتها؟

وفي رواية “فتنة الرؤوس والنسوة” لسالم بن حميش تختمر بذور صراع تجسد هواجس الشعب العربي ومعاناته مع حكامه وقادته، مع التأكيد على أن القمع لا يفرخ إلا القمع.

أما بهاء طاهر ففي روايته “شرق النخيل” يمزج بين أكثر الموضوعات الاجتماعية والسياسية حساسية وخطورة، لنقف أمام رواية تشتبك خيوطها بتضافر سلس يشد القارئ بتلقائية ويحفزه على ترقب الأحداث ومقارنة المشكلات الخاصة مع النكبات المشتركة بين كل الشعوب العربية.

وفي رواية “الحب المستحيل” ينقلنا الموريتاني موسى ولد إبنو إلى عوالم متخيلة، لا يمكن أن تحدث فعلا، ويعمد إلى فرضيات يدمج فيها الخيال العلمي بالأفق الروائي.

وفي رواية “وردة” لصنع الله إبراهيم نجد الشخصية الثورية المناضلة الساعية لتحقيق ذاتها، المتمردة على خنوع فتيات جيلها، ولكن تلاقي “وردة” مصيرا سيئا كحال الثورات العربية، وتواجه بالخيانة والغدر مع العدو والأخ.

في رواية “الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي” للطاهر وطار، نجد سعيا إلى دمج “الولاية الأدبية” بالحركات الإسلامية الحديثة، من خلال رحلة تاريخية صوفية، يبحر فيها المؤلف بين الخيال والواقع في سيمفونية قصصية ملحمية جزلة تضرب أكثر الأماكن حساسية في الذاكرة العربية، وعلى ذلك فهي رواية الاسترجاع الجريء، لما ظل مدفونا لزمن طويل.

في رواية “مزون وردة الصحراء” للعُمانية فوزية شويش السالم، نقابل زوينة المرأة المستسلمة التي أمضت الشطر الأول من حياتها في منزل “أم سلمان” التي تعرضها لختان في الجسد يؤدي إلى ختان في الروح.

أما رواية “شجرة الحب في غابة الأحزان” للسورية أسيمة درويش، فهي تحتاج إلى قراءة متعمقة، لأنها تعالج موضوعات عدة تتجاوز قصة حب عادية، فهناك نظرة للغرب وصراع جيل وتقاليد. إنها رواية معجونة بالشخصيات الرمزية التي تطرح تساؤلات مقلقة عن الشرق والغرب، وتتوج بعلاقة حب غريبة تولد من رحم معاناة إنسانية وتحيا في ظل رغبات وإخفاقات مشتركة.

أما حنان الشيخ في روايتها “إنها لندن يا عزيزي” فتميل إلى الطابع السردي التسلسلي التقليدي، ولا تتداخل أي عناصر أخرى في الرواية التي تقدم نموذجا للعلاقة بين رجل غربي وامرأة عربية كفكرة جديدة في أدبنا العربي الحديث.

في “حبات النفتالين” لعالية ممدوح، تدخلنا الكاتبة في تفصيلات الحياة العراقية بكل طقوسها الخاصة وعاداتها وتقاليدها وتحديدا ضمن منطقتي “الأعظمية” و”كربلاء” حيث ترحل بنا الكاتبة إلى آفاق وأسرار من حياة فتاة عراقية منذ طفولتها إلى سنوات المراهقة. وتضيف لنا عبد الرحمن قائلة إن “الأجواء البغدادية تشكل هالة الرواية التي تجري ضمنها سائر الأحداث الأخرى”.

في رواية “امرأة ما” تكشف هالة البدري خبايا المجتمع الشرقي التقليدي الذي يحيا بين خطين متجاذبين بين “نعم” و”لا”. إما الإذعان الكامل لقوانين المجتمع بغض النظر عن الرغبات الشخصية والتطلعات الداخلية، أو التمرد الذي سيؤدي إلى نبذ المجتمع لكل من يجرؤ بالتمرد على قوانينه.، لكن بين “نعم” و”لا”، هناك مساحة سرية كبيرة يعيش فيها معظم أفراد المجتمع “رجالا ونساء”، اتفقوا فيما بينهم على قولبة الأمور وبلورتها بما يناسب الظاهر المعلن والداخل المضمر.

أما العراقية هداية حسين فمن خلال روايتها “بنت الخان” تغوص في وصف البيئة الاجتماعية، بدءًا من عائلة مكونة من أب وأم وأخت صغرى يغيبها الموت، مرورا بالجيران وحكاياتهم المشتركة في كل البيئات والأحياء العربية الفقيرة، مع الانزلاق بخفة إلى قعر حمى الحرب “العراقية ـ الإيرانية” عام 1980 حيث الموت المادي والمعنوي يتربص بكل الأفراد. وتعترف الناقدة ببراعة المؤلفة أسلوبيا في ميزة التنقل الخفي بين خطوط الماضي والحاضر، لتمارس لعبة القفز الرشيق بين العبارات والألفاظ التي عملت على حياكتها بمهارة لإيصال أفكارها، وصراعاتها الفكرية والسياسية للقارئ العربي.

ميرال الطحاوي في رواية “الخباء” تقدم مرثية لعالم انزوى تحت منطق التغيير، وتلجأ إلى استخدام الكثير من التعابير البدوية التي جاءت منسجمة مع النص ومكملا للبيئة ونمط الشخصيات المستولدة. وتلخص الناقدة رؤيتها للخباء في أنها رواية تخترق عوالم غير مطروقة في العمل الروائي وحيوات مستولدة من كثبان العالم الصحراوي بلهجته الخاصة وجوهر وجوده الرؤيوي.

خالد غازي في مجموعته القصصية “أحزان رجل لا يعرف البكاء” يقول: مساء الحزن أيها الحب، وترى الناقدة أن قصصه لم تقتصر على اتجاه واحد في المسار والرؤيا، على الرغم من أنها قد توحي للقارئ من الوهلة الأولى بالتميز الكامل للحزن، لكن بعض السمات توحي بنقيضها، فالمؤلف يكتب عن الحزن في محاولة للتخلص من تراكماته الكثيفة، في الوقت الذي يترك باب الأمل مشرعا.

عبد الرحمن مجيد الربيعي من خلال مجموعته القصصية “امرأة من هنا رجل من هناك”، استطاع بعد أكثر من ثلاثين عاما من الكتابة، ومن مراكمة ثقافة واسعة وشاملة أن يخلق عالمه الكتابي الخاص، لأنه ظل واعيا من دون الوقوع في فخ التأثر المبالغ بكاتب معين. وعالم مجموعته القصصية يتكون من كسور في حياة المثقف ليس العراقي فحسب، بل العربي ككل، ومن ثم نجده يلملم الشظايا والتكسرات في إيحاءات رمزية، وأحاسيس يقظة تتصل مع وجدانه وشعوره الذاتي بواجب الكشف عن كل المخاوف والمحاذير التي تعوق الكاتب عن قول كلمته.

الكاتبة السعودية زينب الحفني تطرقت في مجموعتها “هناك أشياء تغيب” إلى موضوعات تشغل حيزا مهما من التفكير الإنساني عموما والعربي تحديدا، عبر لقاء عابر في أحد مقاهي لندن بين رجل عراقي وامرأة خليجية، وقد تمحورت الرؤية العامة للمجموعة حول شخصيات متصارعة مع المرض والغربة، وانعدام التوازن النفسي، فكل شخصية تطرح قضية إنسانية تعمل الكاتبة على رسم ملامحها بتصوير دقيق تحرك من خلاله انفعالات القارئ لتشاركه في قضايا حياتية ومصيرية مشتركة بين معظم البشر.

أما الكاتبة التونسية رشيدة الشارني، فتحمل مجموعتها القصصية “الحياة على حافة الدنيا” مأزق التعبير الوجودي المستنزف في رحلة البحث عن الأنا داخل الأنا ذاتها بوعي ونضج يتجاوز تجربة أن تكون هذه المجموعة باكورة إنتاجها الأول. وتلاحظ الناقدة لنا أن المرأة في معظم القصص تعاني الخيبة وتشكو من القهر والعجز عن التغير، محاصرة بسلطة الرجل التي تعيقها دائما وتشل قواها الجسدية والنفسية.

كوليت خوري تقدم في مجموعتها “امرأة”، حكايا شفافة عن عوالم داخلية لمجموعة من النساء تختصرهن في “امرأة”، ربما ـ كما تقول الناقدة ـ لأن هموم النساء وأحلامهن وآلامهن، مشتركة في أغلب الأحيان، وإن اختلفت تفصيلات الوقائع أو الأحداث، إلا أن الأحاسيس مشتركة، متشابهة، فالحب، الفراق، والهواجس الداخلية تشكل المحور الأساسي في قصص المجموعة.

أما هيفاء بيطار، فالقصة عندها سلاسة جملة، وبراعة قص، تتكاثف داخل بنية السرد، وتعمق الرؤى، وتزيد في تدفق الأحاسيس ضمن متخيل واقعي نابض بالحياة، كما تكشف عن ذلك مجموعتها “الساقطة” التي نقابل فيها شخصيات نسوية تنحدر من عالم القهر إلى فخاخ الرذيلة.

في مجموعة “غريب في المدينة” لرشاد أبو شاور، نكتشف تفردا نادرا في معالجة العادي واليومي بأسلوب بارع في التحايل الذكي لاقتناص لحظة معينة، وتحويلها من الحدث العادي إلى تخيل درامي ينبض بعبارة فنية تتجسد رؤيته الخاصة وتقنيته المختلفة، التي يدمج من خلالها بين عدة صور تتداخل بين النكتة والسخرية والحكايا الشعبية والتراث مع الواقع العربي المعاش. وتضيف الناقدة قائلة” إن قصص رشاد أبو شاور تحريضية مشحونة برغبة المقاومة ومواجهة العدو عبر استعادة وقائع محرقة ودامية من حياة الشعب الفلسطيني، وتقديمها للقراء بأسلوب قصصي بسيط في تراكيبه وتلقائي في تعبيراته.

آخر المدروسين الكاتب الأردني يحيى القيسي ومجموعته القصصية “رغبات مشروخة” حيث تلاحظ الناقدة أن عنوان القصة يكفي لأن يضيء عالم النص ويصور للقارئ الإطار العام الذي تجري فيه الأحداث، حيث توحي جميع العناوين بالانشطارات النفسية والخيبات الاجتماعية والوطنية التي جبلت كل المجموعة. ويبقى الخطاب القصصي عند الكاتب منحصرا بين صراع الإنسان المسحوق، والصراع الاجتماعي الطبقي بشقيه المادي والسياسي. ضمن هذا الأفق تؤلف نصوصه تجربة دلالات عميقة، تعمل على كشف الذات والآخر.

هكذا تكشف لنا، الناقدة لنا عبد الرحمن عبر رحلتها النقدية المصاحبة لعوالم اثنين وعشرين كاتبا وكاتبة (نصفهم من الكتَّاب، والنصف الآخر من الكاتبات) التيارات التحتية المصاحبة لعملية الإبداع لدى هؤلاء المبدعين والمبدعات العرب، فكانوا جميعا صوت الإنسان العربي المقهور، ونحن في انتظار المزيد من تفاعلها مع أعمال إبداعية عربية جديدة.

أحمد فضل شبلول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى