الموتى لا يكذبون: عالم جديد..أنت تسكنه!

 

 

منذ اللحظة الأولى، تعلن الكاتبة، الحرب على التشاؤم، والكراهية، والفشل، منذ اللحظة الأولى، لا تنتظر منك أن تقبلها أو ترفضها، بل تجتاحك بآراءها، وإذا حاولت أن تبتعد، تجد أنك لا تقدر، فالكتاب سيظل جزءٌ منه ملتصقاً في عقلك، ولمدة طويلة من الزمن.

ترسم لنا عبد الرحمن خرائطاً كثيرة في عملها الجديد “الموتى لا يكذبون”، تحاول بكل الطرق الممكنة، والموقنة، أن تريك سبلاً جديدةً للحياة. هي تحاول عبر إدراكها للمؤثرات المطلقة أن ما أمامك ليس أمامك، وأن ما انت فيه ليس أكثر من تجربة معاشة، قد تتكرر وقد تتأرجح، وليس أكثر من دليلٍ على ذلك ما تقوله بطلة القصة الأولى “لم أشأ القول، أنا أعرف أنك مت”. هي تريد أن تبعد عن التراجيديا، ولكنها تجرعك إياها ببطء وبهدوء، وبيدٍ قديرة ومدربة، هكذا تأخذك تلك الكاتبة المثيرة للتأويل بعيداً عن شواطئك، وقريباً من شواطئها.

وبالعودة إلى المجموعة القصصية، والتي تتكون من خمسة عشرة قصة، جهدت الكاتبة في أن تلونها كما لو أنها أوراق شجرٍ، كانت كمن يمسك عصاً سحرية، ويلمس كل ورقةٍ على الشجرة ليعطيها شيئاً من روحه، هذه من فلسطين، وهذه من العراق، وهذه من مصر، وهذه من لبنان، ولمن يلاحق القصص، يجد أن في كل زاويةً نجد بلادً معينة، ففي قصة “السابعة إلا الربع مساءاً” تحس بروح مصر، تشعر بها عابرةً أمامك، لا تعرف لماذا، لربما من قرب البيوت المتلاحق، لربما من الجيرة الودودة وهو أمر لا تجد مثله في الدول العربية الباقية. وفي قصة اعتراف تعري “لنا” مدينتها بيروت، وتتعرى بها، فتلبسها بدلاً من عريها، وتغطي بها ملامح الكتابة، فتصبح كل ما تريد قوله حزناً يتناثر هنا وهناك، وتصير أنت حزيناً، وكل كلامك لا يكفي للتعبير عن هذا الحزن، او هذه المأساة.

ماذا تريد لنا عبد الرحمن من عملها هذا؟ هل تريد فعلاً أن تصحح الأمر؟ أن تحاكي الموتى وتوقظ الأحياء؟ هل تريد البكاء على أشياء سبق أن بكيت عليها، وتريد ابكاءنا مثلها؟ هل هي غاضبة جداً لكي تفضح أولئك الذي يتسترون خلف أوراق توتهم كما في قصة “عيد ميلادي”؟ أم أنها تريد ادهاشنا كما فعلت في قصتها الافتتاحية، والتي حملت اسم المجموعة “الموتى لا يكذبون”؟ ماذا تريد لنا عبد الرحمن؟ لماذا تصر على أن تستضيفنا في عالمها، وتستعير روحنا لساعاتٍ ولا تعيدها؟ لماذا يا لنا؟

ثم ما سر العناوين التي تستعملها؟ مثلاً ما هو “اللون المر”، هل للألوان طعم؟ أم هل تكون الألوان ذات تأثير مختلف على الناس تبعاً لمشاربهم، لا نعرف، ولكن كل القدرة تكمن في القراءة والمتابعة.

“ليست الحكاية عندي قدرة على الاستبصار اللوني بقدر ما هي لذة اكتشاف الهالات ومراقبتها عن بعد وقرب، بعضها يبدو مستساغاً في البداية، بنكهةٍ لونية غامضة تثير لديك إحساساً بالشغف الصارم، لكن فيما بعد تكتشف إن هذا ليس إلا ظلالاً واهية”.

وهل تُغسَل الماء؟ كما في “أحلام تغسل الماء”؟ أم أن الماء هو تجسيد تعبيري لرسوم أخرى؟ أسئلةٌ كثيرة تبوح بها القصص، ويبقى فقط ما تتركه المجموعة من أثرٍ في نفسك.

ولا تغفل لنا عبد الرحمن أبداً عن طرق الثالوث المحرم في عالمنا العربي، فتنهج في قصة “رعشة” في الحديث عن المحرم الجنسي، الذي يسكن وراء الأبواب المغلقة، ولا يحكى عنه، ولا يعرف عنه شيئاً باستثناء ما يسرب، وإذا ما سرب أو عرف، بات عيباً وحراماً. و”رعشة” بطلة القصة، التي تغدو حلماً تعبِّرُ عنها نهاية القصة بالحلم! كما لو أن كل آمالنا تتكسر لتتحول أحلاماً فحسب.

“تدرك البنت أنها لن تحصل بسهولة على تلك الرعشة…وبعد أيامٍ وأعوام، مازالت تجلس قرب شباكٍ آخر، تنظر إلى الشارع، وتتساءل لماذا لم تحصل على تلك الرعشة مرةً أخرى”.

تعود كذلك، قصة “عشق آباد” للمس المحرم نفسه، لكن بعد دمغه وتلوينه بلمسة حب، فيصبح الجسد مدينة للعشق، مسرحاً للأحلام المترائية، ويقترب الأبطال من النار فتحرقهم، وما يتبقى منهم تحرقه أحاديث الناس، وخيالاتهم.

بالنهاية، تحاول لنا عبد الرحمن في عملها الذي بين يدينا خلق مرحلة جديدة في عالم القصة القصيرة العربي، القصة التي يبدو أنها لن تعاني الكثير إذا ما استمرت الكاتبة وأمثالها في ولوج أبوابها.

بقي أن نختم كما اختتمت هي: “أحتاج للاغتسال بماء البحر، لذا سأبقى هنا… خشية أن تبتعلني الأمواج لو حاولت الاغتسال، فاترك لك أملاً تصدق فيه نبواءاتك”.

الحوار المتمدن – العدد: 1480 – 5-3- 2006

عبد الرحمن جاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى